مجلة الرسالة/العدد 47/بين المعري ودانتي في رسالة الغفران

مجلة الرسالة/العدد 47/بين المعري ودانتي في رسالة الغفران

مجلة الرسالة - العدد 47
بين المعري ودانتي في رسالة الغفران
ملاحظات: بتاريخ: 28 - 05 - 1934


6 - بين المعري ودانتي في رسالة الغفران والكوميدية المقدسة

بقلم محمود احمد النشوي

الوطنية لدى الشاعرين

كأني بالمعري يختص رسالة غفرانه بخيال النعيم والجحيم. ومساجلة الشعراء والأدباء، والنحاة والرواة. ثم بالرد على ابن القارح والحديث عن بشار والمتنبي وصالح بن عبد القدوس والحلاج والصناديقي وغيرهم من المتأهلين والمتزندقين مما بدأه ابن القارح بالحديث عنهم في رسالته. فلم يكن في كل مواقف (رسالة الغفران) ما يثير في نفسه الحنين إلى الوطن، ولو أن موقفاً من مواقف رسالته ذكره بالوطنية أو تعمد هو أن يخلق المواقف في تضاعيف كلامه للحديث عن الوطن وآلامه كما كان يفعل دانتي لأرانا ضروباً من الحماس للوطن والتفاني في سبيله. . .

المعري رجل يريد أن يداعب وأن يسخر. يريد أن يذكر للناس غريب اللغة ونحوها وعروضها. ثم هو يخاطب صديقاً له فلم يكون ثمة مجال لذكر الوطن أو الحديث عن الوطنية. ولكن دانتي كان أهم أغراضه في رسالته بكاء الوطن. وإثارة الحمية في النفوس للأخذ بناصر الشعب الذي تمزقت أوصاله، ولعبت به الحروب الأهلية شنيع الألاعيب. فكنا نتلمس الوطنية في كل خطوة من خطوات دانتي. . ونفقد ذلك في رسالة الغفران. فهل ضعفت نزعة الوطنية عند المعري؟ ألم يطرب للمعرة والشام ولتلك الربا والبطاح؟ لقد كان أبو العلاء يطرب لدياره وبلاده. وكان مغرماً أشد الغرام بوطنه ومنبته. فنحن نراه يكره الخلود ويشيح عنه بوجهه إن كان مع الخلود انفراده عن أهله ووطنه. ثم هو يسخط على السحائب إن اختصته بغيثها ولم تهطل على كل بلاده تبل ثراها وتحيي مواتها فيقول:

ولو أني حبيت الخلد فردا ... لما أحببت بالخلد انفرادا

فلا نزلت علي ولا بأرضي ... سحائب ليس تنتظم البلادا

ثم يتمنى النعيم لوطنه وإن فاته نعيمه. وتنزع نفسه أن يعود لبلاده وإن كان في يوم الحشر، ويوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت فيقول: فيا وطني إن فاتني بك سابق ... من الدهر فلينعم لساكنك البال

فإن أستطع في الحشر آتك زائرا ... وهيهات - لي يوم القيامة أشغال

ثم نراه يقيم في بغداد والكرخ، وبين الرصافة والجسر، تلك التي شفه الحنين إليها منذ نعومة أظفاره. وكان يتكلف بها في شرخ الشباب، فحققت له الكهولة أمنيته. قال:

كلفنا بالعراق ونحن شرخ ... فلم نلمم به إلا كهولا

بيد أنه لم تكد تمر عليه بضع ليال حتى حن لوطنه وتمنى قطرة من ماء المعرة يطفئ بها ظمأه فقال:

فيا برق ليس الكرخ داري وإنما ... رماني إليه الدهر منذ ليال

فهل فيك من ماء المعِرة قطرة ... تغيث بها ظمآن ليس بسال؟

لقد كان أبو العلاء يذكر وطنه كلما لمع السراب إبان الظهيرة وكلما جن عليه الليل واحتوته الظلمات، ويستعذب ماء بلاده وإن كان آسناً. عن ماء الكرخ وإن كان كالصهباء. فيقول:

إذا جن ليلى جن لبى وزائد ... خفوق فؤادي كلما خفق الآل

وماء بلادي كان أنجع مشربا ... ولو أن ماء الكرخ صهباء جريال

ولم يكف المعري أن يصدح بذكر بلاده وحده، بل أشرك معه نياقه تلك التي تمنت قويقا والصراة حيالها. والتي كانت تطرب لضوء بارق الشام وأن تعالي عن مستوى نظرها حتى ليسرها أن تقطع رؤوسها وترفع فوق أسنة الرماح لتشيم بارق الوطن، والتي كانت تتلو زبوراً في الحنين إليه، مترنمة بقصائد أودعتها كل أشواقها لديارها فقال:

تلون زبوراً في الحنين منزلا ... عليهن فيه الصبر غير حلال

وأنشدن من شعر المطايا قصيدة ... وأودعنها في الشوق كل مقال

. . ولقد كان المعري يستطيب الحديث عن بغداد وعما يحف بها من المشاهد. فيقول:

هات الحديث عن الزوراء أو هيتا ... وموقد النار لا تكرى بتكريتا

ويجعل حفظ عهود أهلها من صلواته فيقول:

أعد من صلواتي حفظ عهدكم ... إن الصلاة كتاب كان موقوتا

ويتمنى أن تكون العراق تربته. وبها منيته. فيقول:

وكان اختياري أن أموت لديكم ... حميداً فما ألفيت ذلك في الوسع فليت حمامي حم لي في بلادكم ... وحالت رمامي في رياحكم المسع

وجعل الإماء الوكع من بغداد أفصح من فصحاء البادية طبعوا على البيان واللسن. فقال:

وما الفصحاء الصيد والبدو دارها ... بأفصح قولاً من إمائكم الوكع

وتمنى أن يأتي على ما في دجلة من ماء شرباً وجرعاً ليطفئ غلة حنينه نحو العراق فقال:

ألا زودوني شربة ولو أنني ... قدرت إذا أفنيت دجلة بالجرع

ويرجو أن يعود إلى بغداد والكرخ، والرصافة والجسر، وألا يكون سيره عن ديارهم كرأي الملحد لا يرجو معادا ولا ينتظر إياباً للحياة، بل رأى المؤمن يثق بالرجعى فيقول:

فلا كان سيري عنكم رأي ملحد ... يقول بيأس من معاد ومرجع

ثم يألم من الليالي التي تضن عليه بالرجوع إلى بغداد، فيقول:

أظن الليالي. وهي خود غوادر ... بردي إلى بغداد ضيقة الذرع

ثم يدعو بالسلامة والنجاة لعارض تحدوه بوارقه يؤم الكرخ فيقول:

يا عارضا راح تحدوه بوارقه ... للكرخ سلمت من غيث ونجيتا

ثم يستسقى لدجلة ويفي بعهده فيحرم على نفسه شرب مياه الأنهار من بعده كما حرم طالوت على قومه الشرب من النهر الذي ابتلاهم به ربهم فقال: إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني. وذلك حين يقول أبو العلاء

سقيا لدجلة والدنيا مفرقة ... حتى يعود اجتماع النجم تشتيتا

وبعدها لا أريد الشرب من نهر ... كأنما أنا من أصحاب طالوتا

ذلك هو طرب المعري للعراق وتعلقه بدجلة، فهل أنساه حب المعرة نعيم بغداد؟. وهل أنساه حب الشام حب العراق؟ كلا! فقد كانت لدى المعري وطنية يراها في كل شيء من حوله حتى في النياق تتلو زبور الوطنية. وإنجيل الشوق إليها، وإن لم يذكر ذلك في رسالة غفرانه، ولم يتخيل عذاباً أليما لخائني أوطانهم كما تخيل دانتي الذي افتن في وصف هذا الصنف من الناس وتخير لهم أٍفل دركات الجحيم. وأشدها هولاً وإيلاما.

وموعدنا بالحديث عن وطنية دانيت العدد القادم

يتبع محمود احمد النشوى