مجلة الرسالة/العدد 471/جيل وجيل

مجلة الرسالة/العدد 471/جيل وجيل

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 07 - 1942



حيوية الفكر

للأستاذ محمود البشبيشي

حيوية الفكر وليدة الفطرة - تكوين الشخصية والحيوية -

الاتزان مع البيئة - الحيوية في الأدب - عبقرية محمد -

الأستاذ الزيات - آدم وحواء والدكتور مبارك - الحيوية في

الشعر - وأرواح وأشباح -

نصل حوارنا اليوم بفيض من الفكر، ينساب انسياب الطبيعة الحية في كل شيء، ويتألق تألق الشعاع اللماح يبيد غياهب الظلمات وتفتر مباسمه عن أنوار من الطفرات العقلية الطيبة الغاية، المأمونة العثار؛ فليس أحب إلى الكاتب المفكر من أن ينشر ما اضطرب في صدره من الخواطر، وجال في خاطره من المعاني. وحديث اليوم حديث الحيوية في الفكر

قلت لولدنا حسين: لنصل اليوم ما انقطع من حوارنا ففيه مسرح يروق عيني، ومستروح يبهج نفسي، مع ما في ذلك من مصابرة لمكاره الفكر المستغلقة، ومعالجة لأسرار الأمور. ولنرجع إلى حديث الحيوية الذي حدثني عنه في أول الأمر، فقد جدت أمور حركت ما كمن، وبعثت ما خمد

قال: أما العودة إلى الحوار فإني لأجد فيها من مباهج الفكر، ومراقي الإدراك، وفواتن المعاني. . . ما يسكن نفسي النفور، ويطرب قلبي المتطلع إلى مطالع المعرفة. وأما حديث الحيوية فأنا مشتاق إليه بما طبعت عليه نفسي، وانطوى عليه حسي، واضطرب به فكري. . . ولعلني اليوم أجد ما يثبت ما قلت بالأمس من أن الحيوية في كل شيء هي سر البقاء، وأن الرجل الحق من خلع على الحياة صور نفسه، وأخذ من صور الحياة ما يتجانس معه، ويساير حقيقته، ويلابس حدود حاجته

ولكن الحيوية يا سيدي الوالد وليدة الفطرة، مهما اختلفت صورها، وتباينت مناهجها، وتنافرت مقاصدها. وإن الحيوية الفكرية خاصة لأبعد من أن تنال بالاعتياد والدربة وان من ظن ذلك فقد قرنها بالصنعة، وفرق بين الطبيعة والصنعة. أما الطبيعة ففيض من الروح ونور من الإلهام، وأما الصنعة فألفاظ مرصوصة وصور منحوتة. وهيهات أن يصل كاتب حرم حيوية الفكرة إلى مراتب الكمال، فإن ذلك أبعد من تحقيق حلم الخيال. وفي مصر كثير من صناع الألفاظ، ونقلة الأفكار. وإنك لترى العجب كلما قلبت مجلة من المجلات؛ فهنا كاتب بلغ الغاية فاطمأن وظن أن على القارئ أن يقرأ كل ما يكتب ولو كان من عبث العابثين. وهناك كاتب انسلخ من ماضيه وساير ركب الحياة الضارب في كل متاهة ومضلة

قلت: حق هذا يا بني؛ بل إن الحيوية الفكرية لتكسب الكاتب شخصيته، وشخصية الكاتب في أسلوبه، وطريقة عرضه لأفكاره، ونقده لأفكار غيره، ونظرته وتأمله إلى كل ما يضطرب حوله من صور الحياة. فهذا كاتب اختصت حيويته بالنظرة النافذة، والرأي العميق، والفكرة الفلسفية. . . فتراه في كل مظهر من مظاهر إنتاجه قد ساير طبعه، وجانس حيويته. إن من الأفكار ما يكون باقياً على الدهر، يتنافس الرواة في حفظه ونقله، وتلهج الألسنة بترديده والتمثل به، ولا يزيد على الأيام إلا جدة وقوة؛ لأنه وليد مشاعر حية إنسانية، وعصير قلوب ذابت فجرت نغما. ذلك النوع من الفكر هو ما قام على قواعد من الحيوية، تحس في كل لفظ من ألفاظه حياة لا تقيدها الكلمات، ولا تتحكم فيها العبارة؛ هذا النوع من الفكر يساير الحياة لأنه وليد الحياة، ويضرب في نواحيها المتباينة فيكون منطقه فصلاً، وحكمه نافذاً. . . لا يسأم الإنسان من تكراره، ولا تنفر الآذان من سماعه، لأنه نغم القلب وصدى الروح

قال: إذا صح أن الحيوية تكوِّن الشخصية. . . فإنه يصح أيضاً أن تكون الحيوية الأساس الأول للاتزان مع البيئة. وأقصد بالاتزان مع البيئة مسايرتها وملابستها أصدق المسايرة والملابسة. . . فترى الكاتب المفكر الذي يخضع لحيوية قوية يحس مواضع القول، ويجيد اختيار المناسبة؛ ولاختيار المناسبة موضع وحدود، وليس من الحيوية أن يتخطاها الكاتب أو يعجز عن إدراكها. . . فقد تتواري السحب وراء الأفق البعيد فيظن الكاتب الذي تعود أن يرسل نفسه على سجيتها أن السماء صادقة في صفوها فيندفع وراء ما يحس هو لا ما يحس غيره، ويجري وراء ما يراه هو لا ما يراه المجتمع. . . فإذا به يقف أمام الحقيقة المرة، وإذا به يرى أن الأفق لم يك في صفائه صادقاً، وإذا به يطوي صفحة أفكاره وفي النفس حسرة وفي القلب ألم. . . ما الذنب الذي جنى؟ وما الشر الذي اقترف؟ الذنب الذي ارتكبه أنه لم يدرك معنى الاتزان مع البيئة فترك الأرض ليبحث في السماء. وما علم أن على الأرض من يجزع ويحقد على كل من يحاول الخلاص من قيود التراب الأرضي!!

قلت: هذا كلام يشعرني بأنك تريد أن تقول شيئاً وراء اللفظ، أو أنك تميل يا بني إلى توجيه القول لكاتب كبير فاضت حيويته وضاقت بقيود الأرض وكل ما يتصل بمعانيها. أكاد أشعر بهذا ولي الحق في أن أشعر به، بل أكاد ألمس غضبك كلما تذكرتَ اختناق تلك المعاني الرائعة التي انطلقت في غفوة من الزمن من روح هذا الكاتب الكبير. ولكن هذا الكاتب الكبير يعلم حق العلم أن الحيوية تفرض عليه الاتزان مع البيئة فلا محل للومه هو. . . بل اللوم كل اللوم لحيويته الدافقة التي ضاقت بالأرض فانطلقت إلى السماء. . .

الحيوية يا بني لها أكبر الخطر في الأدب. فالحيوية الفكرية ليست حبساً على غزارة مادة الكاتب أو الشاعر، ولا هي رهن بمقدار ما يروى عنه، وإنما هي سر من أسرار النفس والفطرة. يودعه الكاتب أو الشاعر قوله فيضمن له على الدهر الخلود. فإن من الشعر ما تزداد فيه الحيوية حتى لا تقف به عند حد الخلود، بل إنه ليضفي الحياة على ما يمسه من الموضوعات، ويكاد يبعث من طواهم الثرى من الناس بعثاً يختلف قوة وضعفاً، ويتباين سعادة وشقاء. فمن لا يذكر سيف الدولة كلما ذكر المتنبي؟ ومن لا يذكر كافوراً كلما تناول شعر أبي الطيب؟ ومن لا يذكر حرب البسوس كلما جال بخاطره رثاء مهلهل لأخيه كليب؟ ومن لا يذكر مالك بن نويرة كلما قرأ شعر أخيه متمم؟ ومن لا يرثي لمقتل (صخر) كلما سمع نواح الخنساء عليه؟ ومن لا يذوب أسى كلما ذكر قصيدة شوقي طيب الله ثراه في رثاء (مقدونية)؟ ولقد يكون من الشعر ما يُقوِّى عناصر الحياة حتى في الحقائق العلمية والاجتماعية، ومن حكم المتنبي ما هو أصدق شاهد على ما نقول، وليس بأقل منه قول شوقي في قصيدته (نهج البردة) يدفع عن الإسلام دعوى أنه قام على أعضاد السيوف:

قالوا: غزوت ورسل الله ما بعثوا ... بقتل نفس ولا جاءوا لسفك دم

جهل وتضليل أحلام وسفسطة ... فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم!

قال: ومن حيوية الكاتب العبقري أن يخلص من قيود الحياة المضطربة الثائرة فينطوي على نفسه يراقبها ويحقق أغراضها، ويساير ميولها مهما كانت الظروف التي تحيط به. وخير دليل على هذا ما فعله الكاتب العبقري الأستاذ العقاد. . . إذا استطاع في مثل هذا الجو المضطرب بأحاديث الحرب، المرتعش في مهب المقادير. . . أن يبعث من نفسه صوراً حية تتناول أكبر شخصية حية تفخر بها الإنسانية وتعتز بها البشرية. . . أجل إن كتاباً روحياً صادقاً يخرج إلى الحياة في مثل هذه الأيام العجاف لهو كتاب جدير بالتأمل والإعجاب. بل إني لأرى في خروجه في مثل هذه الأيام لحكمة تصور صدق حيوية الأستاذ العقاد. فليس من شك في أنه أراد أن يقدم للإنسانية أروع المعاني الروحية تتألق حيوية في شخص الرسول. . . في زمن جنت فيه العقول، وتكلم لسان الدمار:

جنوا وعيَّ لسانهم فتفجرت ... لسن الدمار قنابلاً وبرودا

قلت: هذا حق يا بني، فكتاب عبقرية محمد كتاب تعتز به العربية في دقة الفهم، وروعة العرض، وسلامة النسج، وإني لأطرب يا بني كلما ذكرت أن في مصر كتاباً يكتبون في سيرة أشرف الخلق. فكم هزني إعجاباً كتاب (محمد المثل الكامل) للأستاذ محمد جاد المولى بك، ففيه تحقيق العالم الخبير، كما غمرني طرباً كتاب (على هامش السيرة) للدكتور طه ففيه سهولة وطلاوة. . . وإني لأنتظر من صديقنا الدكتور مبارك أن يكتب في هذه الناحية الشريفة النبيلة، كما آمل أن يعرج عليها صاحب الرسالة بما عهد فيه من دقة وروعة. ولو سمحت لنا الظروف ولم تقطعنا الشواغل لقمنا بهذا الواجب الروحي الجليل في أقرب فرصة يسمح بها الزمان يا بني. . .

ومن حيوية الفكر يا بني أن يساير الكاتب المجتمع ويلابسه أصدق الملابسة حتى يصيب الهدف ويبلغ الغاية، ويكون مثابة حق ومنار وهداية. وما كان قصور بعض المصلحين إلا من شأن عجزهم عن إدراك معاني الاتزان مع البيئة. فحقيق بالمصلح المتأمل والكاتب الاجتماعي أن يعقد القلب على إدراك أسرار هذا القانون الطبعي، فتتيسر له أسباب الأمور، وتسهل أمامه الصعاب. وإن الأستاذ الجليل الزيات لصورة صادقة لمسايرة الكاتب للمجتمع وأحواله، وما يضطرب فيه من ألم وفرح. فما من مقال له إلا وهو يرمي إلى هدف مقصود، وغاية معلومة؛ وما من رأي له إلا وهو يعالج حالة خاصة، ويدل على مذهب خاص. . . ولعلك يا بني تذكر كيف غلبته حيويته الاجتماعية فتفرد بالكتابة (في عدد الهجرة الخاص) في (مشكلة الفقر وعلاجه)، وكيف أسرع وكتب في (مشكلة الرغيف)، وكيف كان أول من كتب في الانتخابات وصورها تصويراً رائعاً. . .؟!

قال: و (آدم) و (حواء) يا والدي. . . إنها لأروع صورة لحيوية الفكرة المنطلقة التي لا تتقيد بشيء إلا بالحقيقة والضمير الحي. . . (آدم) و (حواء): بحث نابض بالحيوية، بل هو أعظم ما كتب الدكتور مبارك، فقد كانت الفكرة فيه تخرج في ثوب من الإيمان بالرأي والعقيدة، وفي لون من الفن الرائع لست أغالي إذا قلت إنه منقطع النظير في آداب العربية. . . وقرأتها لأول مرة، فابتسمت وقلت: إن الدكتور سيفترع فنٍّا جديداً يسد نقصاً كبيراً في أدبنا. . . وإني لأقول في صراحة إنني كنت أعتقد أن صاحب هذه الأفكار لا بد أن يكون من أبناء هذا الزمان، ولا بد أن يكون قرأ - على الأقل - فلسفة القرن التاسع عشر، ولا بد أن يكون في مثل حيوية دكتورنا المبارك، وليس في مثل حيوية (شيث)!

وإني لأذكر للدكتور المبارك أني جزعت كل الجزع عندما قرأت (ينبوع حلوان)! فقد أدركت منه ما لم يدركه غيري، وأحسست أن الفكرة التي انطلقت من الأرض قد قيِّدت!!

قلت: والحيوية في الشعر يا بني أن يكون في الشعر تجويد في اللفظ والمعنى. فإن ما يصدر عن الشاعر الموهوب العظيم لا بد أن يترك في النفوس آثاراً عظيمة، وما يصدر عن الشاعر الماجن الواهن الضعيف النفس، المستهتر بالملاهي، لا بد أن يحمل في طياته عناصر فنائه، وإن أغتر به صاحبه، وتناقلته أفواه الرواة الماجنين. إن النفس لتطرب بالنثر البليغ فهي بالشعر الجيد أشد طرباً. ولقوة الشاعرية، وغزارة المادة، وسعة الثقافة، وسلامة المنطق، أثر بعيد الغور في سلامة تفكير الشاعر، وجنوحه إلى الأسلوب المنطقي، وسوق القضايا في مساق الاستدلال كلما زاول معنى من المعاني، فهو لا يكتفي باللمحة العجلى يرسلها على المعنى فيجيء غامضاً فاتراً، أو يصل إلى النفوس قلقاً مضطرباً. فإذا قرأت للشاعر الحي شعراً رأيت لوناً واضحاً من الفكرة يسود القصيدة كلها، أو ينصّب على كل معنى من معانيها

قال: ما ظنك (بأرواح وأشباح) للأستاذ علي محمود طه. . . إنها لصورة لسعة الثقافة، وغزارة المادة، وسلامة المنطق والتغلغل في أسرار المعاني، افتن فيها الشاعر فجاءت فتنة، تصور الوجد اللاعج، والجوى المستعر، وانطلاق الشهوات من قيودها، وعبثها بروعة الفن وقداسته. ذهب فيها الشاعر مذهباً جديداً من الفن الشعري، عرض فيه لسلطان الشهوات الكامنة، والنزعات الدفينة، والأحاسيس الملتهبة. وهو في عرضه لها صاحب نظرة صادقة لا يأخذ الحياة كما هي، بل يخلع عليها من إشعاع روحه ما يكيفها التكييف الذي يريد. . .

قلت: ومتى وصلت الحقائق والأخيلة إلى النفس على تلك الصورة المحكمة، وراضها بيان طيع، وصاغها شاعر ملهم، كان لها في النفس مستقر ومقام. وإنك لتدرك ذلك من نفسك فيما يقع لك من شعر بعض المعاصرين، فقد تقرع أذنك قصيدة أخاذة المظهر، رائعة العنوان، فلا تجد لها عاضداً من فكرة متحدة، ولا ضابطاً من منطق متماسك، فلا تنتهي منها حتى تصير عرضاً لفظياً يذهب مع الهواء، ولا يجد لنفسك مدخلاً. وقد تقع لك أبيات قليلة أو قصيرة فيها فكرة وفيها تماسك، فتحل من نفسك في الضمير، ولا يعييك أن تحتفظ بمعناها، بل لا يستعصي عليك متى (شئت) استظهارها

محمود البشبيشي