مجلة الرسالة/العدد 471/شعر علي بن أبي طالب

مجلة الرسالة/العدد 471/شعر علي بن أبي طالب

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 07 - 1942


2 - شعر علي بن أبي طالب

للأستاذ السيد يعقوب بكر

على أننا وقد ذكرنا أقوال بعض المؤيدين نحب أن نعرّج على أحد المعارضين وهو الأب لامانس فنناقش مقالته وننقصها ليتم لنا بذلك وجه البرهان على الرأي الذي رأيناه.

فقد كان أنكر في كتابه (ص58) أن علياً كان شاعراً، واستشهد على ذلك بما ذُكر في الأغاني (ج4 ص137 ط دار الكتب) من أنه (كان يهجو رسولَ الله ثلاثة رهط من قريش: عبد الله بن الزبعري، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعمرو بن العاصي؛ فقال قائل لعلي بن أبي طالب رضوان الله عليه: أهج عنا القوم الذين قد هجونا؛ فقال علي رضى الله عنه: إن أذن لي رسولُ الله فعلتُ؛ فقال رجل: يا رسول الله، ائذن لعلي كي يهجو عنا هؤلاء القوم الذين قد هجونا؛ فقال: (ليس هناك) أو (ليس عنده ذلك).

ثم إن المستشرق الإيطالي الدكتور عارض الأب لامانس في رأيه هذا في بحث نشره بمجلة (مجلد 4 ص536 - 547). فقد ذهب إلى أن معنى النص المذكور في الأغاني هو أن محمداً رأى أن هجاء قرشيّ كعلي لقريش ليس من الأمور التي يتطلّبها الهجاء ليكون نافذاً لاذعاً مؤثراً، فإن هجاء غير القرشي لقريش يكون شديداً عليها ذا واقع كوقع السهام أو أشد. واستدل هذا المستشرق الإيطالي على ما ذهب إليه في هذا النص بأن الشعراء الذين كانوا ينافحون عن الرسول ودعوته ويدفعون عنه عادية شعراء قريش كانوا كلهم من المدينة أي من الأنصار مثل: حسان بن ثابت وكعب بن مالك.

فردّ عليه الأب لامانس رداً طويلاً تجده في مجلة: (مجلد 7 سنة 1921، ص320311)، وكذلك في أول كتابه: (ص1 - 7). ونحن سننقض هنا هذا الرد؛ ولكننا قبل هذا نورد خلاصة كلام قدمه بين يدي رده ونقول رأينا فيه، وذلك لأنه يتصل بموضوعنا من قريب

يبدأ الأب لامانس كلامه هذا بأن يقول: إن مكة لم تنجب قبل الهجرة أي شاعر ملحوظ المكانة ذائع الصيت، وإن هذه الحقيقة تقوم دليلاً على زيف ما في سيرة ابن هشام من أشعار كثيرة، كهذه الأشعار المنسوبة إلى عبد المطلب جد علي بن أبي طالب وإلى طالب أبيه ثم إلى علي نفسه

ثم يقول بعد ذلك إن الشعراء كانوا في الجاهلية الحكماء وأصحاب الرأي، وإن الشعر كان فيها من الصفات اللازمة للرجل الكامل حتى يدعى كاملاً، وإنه قيل على هذا الأساس إن الخلفاء الأربعة الراشدين كانوا شعراء أو كانوا على الأقل أصحاب علم بالشعر العربي القديم. ولقد عنى أهل السنة بالنص على علم عمر الواسع بالشعر، وكان عمر منافساً لعلي ومنازعاً له، فكان أن قال الشيعة بعلم علي بالشعر وحاولوا تصويره لنا في مستوى عال جداً أو على الأقل في مستوى مساوي لمستوى منافسه الخليفة الثاني

ولقد أظهر علي أثناء حياته السياسة جهلاً تاماً بأساليب السياسة أو قل بأساليب الحياة، وجاء في الحديث وصفُه بأنه محدود، ووصفه معاصره غير المتشيعين له بأنه تلعابة

وعلى الرغم من ذلك كله، فإن الشيعة لم يدخروا جهداً في إطراء علم علي. ولقد كان أهل السنة يمجدون عمر ويرون فيه الرجل المطلق، والمتمم العبقري لعمل محمد، والخليفة الذي لا تأخذه الأحداث على غرة؛ ولذلك وجدنا الشيعة يصورون بطلهم مخرجاً لعمر من حيرته وحرَج موقفه في الوقت المناسب بحصيف رأيه وصادق نظره. وكان الشيعة يدَّعون أن الله حبا عليًّا بتسعة أعشار العلم الإنساني، وقد بثُّوا هذا الإدعاء في حديث وضعوه، وادعوا أيضاً أشياء أكثر من هذا

هذه خلاصة الكلام الذي قاله لامانس قبل رده على المستشرق الإيطالي؛ ورأينا فيه أنه كلام متهافت لا يسند أوله آخره ولا آخره أوله، ونبين هذا فيما يلي:

1 - يشك لامانس في الشعر المنسوب إلى عليَّ في سيرة ابن هشام لما هو معروف من قلة شعراء مكة قبل الهجرة؛ ونحن إن قبلنا هذا الشك، فإننا لا نقبل الأساس الذي بُني عليه؛ وذلك لأننا نعرف أن علياً نشأ بنشأة الإسلام وترعرع في ظله فلم يكن وليد الجاهلية. وإنما كان وليد الإسلام. وعلى ذلك فإذا شككنا في الشعر المنسوب إليه في سيرة ابن هشام، لزم ألا يكون شكنا مبنيًّا على هذا الأساس الذي بنى لامانس عليه شكه، وإنما لزم أن يكون مبنيًّا على أساس آخر، كأن يكون مبنيًّا مثلاً على أن ابن اسحق الذي يروي عنه ابن هشام ممن لا يوثق بروايتهم للأشعار، أو يُعتمد عليها

2 - يرى لامانس أن الخلفاء الأربعة الراشدين إنما زُعم إنهم شعراء، أو - على الأقل - أصحاب علم بالشعر، لأن الشعر كان في الجاهلية من مستلزمات الكمال؛ وهذا الرأي لا أساس له، لأن الحياة العربية اختلفت مُثُلها في الإسلام عنها في الجاهلية، فأصبح العرب لا ينظرون إلى الشعر كما كانوا ينظرون إليه من قبل، وبعد أن كان الشعر من مستلزمات الكمال، أصبح وقد تحرّج من قوله كثير من الشعراء مثل لبيد

3 - مهما قيل من أن الشيعة أضفوْا على عليّ أثواباً من الكمال والحكمة وقوة العقل والقدرة على حل المشكلات، فلسنا نستطيع أن ننفى عن عليّ صفات الرجل العاقل، إذ يكفيه ليكون كذلك أن يربَّى في حجر محمد ويشبّ في كنف الإسلام. فمحاولة لامانس تجريده من العقل الحصيف محاولة غير ناجحة، فضلاً عن أن النصوص التي يستند إليها في محاولته هذه مما لم تثبت صحته

بعد هذا التفنيد لكلام لامانس، نعرِّج على ردِّه على المستشرق الإيطالي، فنأتي بخلاصته ثم نقول رأينا فيه

يقول لامانس إن العبارة التي وردت في الأغاني وهي (ليس هناك؛ أو ليس عنده ذلك) مكونة من جزأين، فالجزء الأخير منها هو الأدلُّ على المعنى والأعمق في الأثر، وليس الجزء الأول منها إلا مؤكداً له ومقوِّياً. وهذا الجزء الأول أوجز وأكثر إمعاناً في البداوة من الجزء الثاني

وبعد ذلك يورد لامانس العبارة التي وردت في أسد الغابة وهي (إن علياً ليس عنده ما يراد من ذلك)، ويبين كيف أنها تؤكد ما فهمه هو من عبارة الأغاني

ثم يأخذ في محاولة تحديد معنى عبارة (ليس هناك) المرادفة لعبارة (ليس عنده ذلك)؛ وذلك بالرجوع إلى استعمالاتها الواردة فيما يرويه صاحب الأغاني. وقد استخلص من هذه الاستعمالات أن عبارة (ليس هناك) تشير حين يكون المدار حول الشعر إلى عجز من تقال فيه عن قول الشعر ونظمه

وأخيراً ينهي لامانس رده بأن يقول إن أي مستشرق لا يمكنه قبول الأشعار المنسوبة إلى علي، وإن الأقدمين أنفسهم أحسوا بانتحال هذه الأشعار أو خامرهم الشك فيها، ومنهم أبن هشام ويونس بن حبيب

هذه خلاصة رد لامانس، ونحن نرد على هذا الرد فيما يلي: 1 - صحيح أن عبارة (ليس هناك) تشير حين يكون المدار حول الشعر إلى عجز من تقال فيه عن قول الشعر ونظمه، ولكن لا يمكن أن تشير إلى ذلك إذا كانّ المدار حول فن من فنون الشعر كالهجاء وحده أو المدح وحده، فإنها تشير حينئذ إلى عجز من تقال فيه عن هذا الفن وحده دون سواه. وهذه هي الحال بالضبط في القصة التي يرويها أبو الفرج، فإن رجلاً سأل الرسول أن يأذن لعلي كي يهجو قريشاً فقال له الرسول: (ليس هناك) أو (ليس عنده ذلك) أي ليس هو بالقادر على الهجاء

ويؤيد رأينا هذا أننا لا نجد في الصحيح من شعر علي بيتاً واحداً في الهجاء

ثم إنه لو لم يكن علي شاعراً حقاً لما سأل هذا الرجل الرسول أن يأذن لعلي بهجاء قريش، لأن سؤاله هذا مبني على علمه بأن علياً شاعر قادر على نظم القصيد.

2 - إذا كان بعض الأقدمين شك في الأشعار المنسوبة إلى عليّ، فليس يمكن أن يكون هذا الشك حجة للامانس، لأن بعض الأقدمين أيضاً قال بأن علياً كان من الشعراء كما سبق أن بينّا

فعليّ إذن كان شاعراً، ولكن لا يمكن القول بأنه كان مكثراً، فهو كان في أغلب الظن مُقلاً، بدليل أنه لم يُرْو له شعر كثير في المراجع العربية المعتمدة؛ ولكننا على كل حال لا نسلم بأنه لم يقل غير بيتين كما يذكر ياقوت فيما سبق لأن نقلناه عنه وكما يذكر السيوطي فيما سبق أن نقلناه عنه كذلك. ونحن لا نسلم بهذا لأن المراجع العربية المعتمدة روت لنا أكثر من بيتين لعلي.

(للبحث بقية أخيرة)

السيد يعقوب بكر