مجلة الرسالة/العدد 473/سر المهنة في التزوير الخطي
مجلة الرسالة/العدد 473/سر المهنة في التزوير الخطي
للأمير عبد القادر الشهابي
التزوير عمل إجرامي يقصد به جر مغنم أو دفع ضرر، وهذا يصح في عرف العلماء على وجوه ثلاثة هي:
الأول - خلق شيء لا وجود له كوضع توقيع.
الثاني - زيادة شيء من تاريخ أو رقم أو ما يماثل ذلك.
الثالث - حذف شيء، وهذا يتأنى الحك أو الطب الدقيق أو الإذابة أو الحل أو إزالة اللون بعرض الأشعة أو الأحماض أو بأي وسيلة أخرى. وخير وصف يطبق على هذا العمل الجنائي هو أن يقال: (إنه الإتيان بعمل لم يكن موجوداً). وله أركان لا بد من توفيرها:
1 - جلب النفع أو دفع الضرر.
2 - ألا يكون للشخص المجني عليه علم به.
3 - هناك عنصر دقيق نص عليه كثير من الفقهاء الفرنسيين والبلجيكيين والإيطاليين وفطنت له محكمة النقض والإبرام التركية في أحكام لها ما بين سنتي 1912 - 1916 وهو أن يشترط في التزوير تحقق ركن المحاكاة والمتشابهة، فإذا أريد تزوير ختم فلا يمكن أن يكون الشيء الذي يدعى تزويره ختماً مستطيلاً، بل ينبغي أن يكون مستديراً. وإذا كان الختم ذا زوايا فيجب أن يكون الختم مراد وصمه بالتزوير ذا زوايا. وهكذا يجب أن يتحقق عنصر المحاكاة والمتشابهة. فإذا فقد هذا الركن زال عنصر التزوير من أساسه.
على أن المشابهة والشكل لا يؤثران في الكتابة والإمضاءات بل في مواقع أخرى تختلف عن غيرها، إذ أحياناً لا يلزم استكتاب المتهم بحال وجود أوراق رسمية سابقة معترف بها تكون مداراً للتطبيق. ومن المهم حينئذ إلمام الخبير بروح الكتابة أي بمعنى (سر المهنة) وما زاد عليه من المشابهة والتناسب وتباعد النقط والأحرف فهذا شيء ثانوي بالنسبة للخبرة التامة بروح الكتابة، وهي بالأحرى سر المهنة لما ذكر؛ ويكفي الاستدلال بالسابق دون ما عداه مما يحدث أثناء التحقيق مثلاً، لأن السابق على التحقيق يعطي الخبير الملم صورة صادقة لنفسية الكاتب الطبيعية وحالته النفسية بأجلى مظاهرها دون أن يسيطر عليه الجزع أو الفزع أو تؤثر فيه عوامل التحوير والتصنع، فلا يكون إعطاء التقرير في ح كهذه وفي جانب العدالة أقوى مما لو كان في حالة الهدوء الطبيعية السابقة.
كذلك لو وجدنا إمضاء مطابقة للأخرى في حجمها وشكلها وأبعادها حينئذ تعتبر إحداهما مزورة بلا نزاع.
ولا يمكن إعطاء تقارير عن صورة فوتوغرافية، ولا بد أن نلفت حماة العدالة إلى هذا، إذ كثيراً ما ينطوي تحته أمور أقل ما فيها وضع لثام كثيف على عيوب وجنايات تهضم بها الحقوق، فيجب ألا تعتبر الصور الفوتوغرافية، بل يلزم أن يجري التطبيق على نفس الأوراق الأصلية المطعون فيها مهما كانت الأسباب.
أما التزوير، فخير ما يقدم في موضعه الرجوع إلى ما ذكره غير واحد من أولئكم الفقهاء وهو قولهم أن كل فرد يستوحي غريزته حين العمل مهما كانت حاذفاً في مزاولته جريمته، ولا بد من أن تطل غريزته من إحدى جزيئات أعماله، فالكاتب الذي يبتدئ السطر أو الكلمة أو الحرف أو المقطع أو زاوية الحرف، أو اعتاد أن يرسمها، أو يحدث بها تعريجاً، أو يظهر منه اضطراب، لا بد وأن ينكشف أمره وتتغلب عليه عادته، ولهذا لجأ القضاة والخبراء إلى أن استكتاب المتهم المجني عليه في أغلب الأحيان، حتى قال بعض الباحثين الأمريكيين أن الخبير إذا كان حاذقاً ما استطاع أن يعرف الجاني فحسب، بل استطاع أن يغرف نفسيته والظروف التي كانت تسيطر عليه حين الكتابة؛ ولذلكم كان على الخبراء أول ما يبادرون إليه بعد استكتاب المتهم الجمل والكلمات والأحرف أن يدققوا في روح الكتابة. ومعنى هذا معرفة سر المهنة، وأن ينظروا في تلكم الزوايا ويدققوا فيه وفي مبادئ الكتابة وانتهائها، فإنها المظاهر التي يمكن أن تفضح الجاني. ولقد ارتقى فن كشف التزوير الخطي بارتقاء فن التزوير تبعاً لناموس الارتقاء العام. وأصبحت هنالكم الأشعة والأحماض والتلوينات ووسائل التحليل وما شابه ذلكم من فحص حياة المكروبات الموجودة في المادة التي كتب الخط بها لمعرفة عمر تلكم المواد والمقايسة بين هذا وبين تاريخ المستند أو الخط. وهكذا أصبح لدى العلم وسيلة كيميائية لا تكذب؛ فمثلاً إذا ادعى تزوير سند مؤرخ من ثلاثة أعوام، وأمكن فحص المداد الذي كتب به ذلكم المستند، وظهر أن عمر هذا المداد لا يتجاوز السنة، هنالكم يكون الإقناع التام بحدوث التزوير. وهكذا في كل شيء يمكن أن يستفاد بالعلم لكشف الجريمة. وقد قال بعض الباحثين يكفي أن يكون الخبير خبيراً بالخط بصيراً بفنونه وبالتصرف فيه فقط، بل ينبغي أن يكون عالماً، ولو على جانب لا بأس به من علم النفس والإحاطة بمقتضيات المجتمع الذي انتدب لفحص الخط المدعي تزويره فيه.
وهنالكم اعتبارات كثيرة ينبغي ألا تكون طبيعة فاحص الخط كطبيعة الإقليم الذي حدثت فيه عملية التزوير. فمثلاً البلاد المصرية وهي بلاد حارة قد يكون مرور بعض من الزمن فيهاً مؤثراً أضعاف مرور جزء من الزمن في بلاد أخرى. كذلكم تعاقب فصول متكررة من صيف بعد صيف على وقوع تزوير لا يمكن أن يمر دون أن يترك أثراً في تطور الخط فيما يمكن أن يعرض له من التطورات. على أنه في غضون خبرتنا وممارستنا للخطوط لاحظنا أن المداد العربي الأسود القديم الذي كتبت به المصاحف القديمة وغيرها كان أثبت على الزمن من غيره؛ وإن كان آخرون يرون أن العين المجردة قد لا تستطيع ما تستطيعه الآلات العلمية الحديثة من اكتشاف التطورات مهما كانت بسيطة ومحدودة. على أن هنالكم أنواعاً كثيرة من المواد المحدثة ضعيفة الثبوت تتنافى مع مستلزمات الأحوال؛ بل يكفي مرور يسير من الزمن لحدوث تغير فيها، بل إن تعرضها للنور والهواء أو لمؤثرات أخرى قد يكون سبباً في كشف حقيقتها. بقي الشيء الوحيد الذي يمكن إخفاؤه والذي لا يهتدي إليه إلا بالاستكتاب ألا وهو الكتابة بالآلات الكاتبة؛ فهذا الضرب من الكتابة قد يكون من الصعب اكتشافه لأن المصنع الواحد يخرج الآلات الكثيرة وكلها على غرار واحد، فمن العسير، بل من المعتذر معرفة الحقيقة، إذ يمكن أن تتشابه تلكم الآلات ولا يكون هنالكم مجال إلا لفحص المداد الذي كان في الآلة الكاتبة أو الشريط الذي يكتب به أو ما شاكل هذا. وما دام العلم قائماً وما دامت الغرائز البشرية واقعة تحت تأثير عبادة المال فسيظل الصراع عنيفاً بين العلم والإجرام حتى يعين الله العالم والعلم على وضع حد من نزوات الغرائز البشرية الجامحة هدانا الله إلى الحق وأذاقنا حلاوة اليقين.
(القدس)
الأمير عبد القادر الشهابي