مجلة الرسالة/العدد 478/أطوار الوحدة العربية

مجلة الرسالة/العدد 478/أطوار الوحدة العربية

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 08 - 1942



الصراع بين العرب والترك

للأستاذ نسيب سعيد

حدثنا في مقالنا الأول عن مراحل الوحدة العربية، وكيف تطورت فكرة العروبة في التاريخ، فبعد أن كانت حلماً ذهبياً جميلاً في مخيلة محمد علي الكبير عزيز مصر خرجت إلى الوجود وأصبحت حقيقة واقعة؛ فالمرحلة الأولى إذن انقضت والوحدة العربية لا تزال حلماً من الأحلام، أما المرحلة الثانية فقد طبعها الجهاد في سبيل تحقيق هذا الحلم بطابعه الخاص. وقد استهل هذا الجهاد العربي المبين بالنضال بين أبناء العروبة الأبرار وبين الأتراك وانتهت هذه المرحلة من سلسلة تاريخ القضية العربية عام 1918 وتشمل حوادث الفترة الممتدة من إعلان الدستور العثماني سنة 1908 حتى دخول الجيش العربي إلى دمشق في أول أكتوبر سنة 1918، وإنشاء الحكومة الفيصلية في ربوع الشام.

ولئن ذهب بعض المؤرخين المعاصرين من الشرقيين والغربيين إلى اعتبار ما حدث في العهد الحميدي التركي من حوادث فردية لا انسجام بينها ولا ارتباط كصدور كتاب أم القرى وطبائع الاستبداد، ونشر كتاب يقظة العرب في آسية التركية بالفرنسية في باريس عام 1905 من مقدمات الحركة العربية وطلائعها، أو إنشاء الجمعية السرية التي أنشئت في بيروت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فالنهضة العربية المادية الحقيقية لم تبدأ إلا بعد إعلان الدستور سنة 1908 وقد قامت على دعامتين جديدتين: حرية الكلام، وحرية الاجتماع، فقد كفلها النظام الحكومي الجديد لسكان تلك المملكة، فانطلقت الألسنة والأقلام، وارتفع الضغط عن الأفكار، وانتشرت العلوم، فساعد هذا الانقلاب وهو خطير الشأن على إيقاظ العرب، فأدركوا أنهم كمية مهملة في العالم، وأن لهم حقوقاً يجب أن ينالوها، وكرامة يجب أن تصان، ومجداً يجب أن يعملوا لإحيائه وتجديده.

وصدرت صحف عربية عديدة في ظل النظام الدستوري الجديد في دمشق وبيروت والقدس وبغداد والبصرة وغيرهما من بلاد العرب، وفي الآستانة نفسها، وإلى هذه الصحف، وبصورة خاصة إلى الصحف العربية التي كانت تصدر في القطر المصري الحبيب، يعود معظم الفضل في تكوين (الرأي العام العربي) وإنشائه، وبث الروح القومية بين طبقاته.

ولم يغتفر لها الترك ذنبها يوم نصبوا الميزان في عالية لمحاكمة أحرار العرب، فكان الصحافيون أكثر الطبقات ضحايا، فقد استشهد منهم في هذه المرحلة الكثيرون، وحكم في هذا الدور بالإعدام غيابياً على فريق من رجال الصحافة في مصر؛ ويأتي رجال الجمعيات والأحزاب السياسية بعد الصحافيين. ولئن كان ضحايا هؤلاء أقل من أولئك، فما ذلك إلا لعجز الترك عن اكتشاف أسرار الجمعيات السرية لما تذرع بها رجالها من تكتم شديد خلال التحقيق والمحاكمة. ومن تحصيل الحاصل القول بأن المنتدى الأدبي في الآستانة كان أكثر الجمعيات العربية ضحايا، لأنه كان أشهرها وأهمها، ولأنه كان مقر الدعاية العربية في الآستانة؛ فانتقم الترك من مؤسسيه انتقاماً مريعاً. ويأتي حزب اللامركزية بعد المنتدى الأدبي العربي، فقد فتك الترك بكل ما استطاعوا القبض عليه من رجاله، كما حكموا على المقيمين بمصر كافة بالإعدام. ثم يأتي بعد ذلك عنصر الضباط العرب في الجيش التركي، فكانوا يرسلونهم إلى خطوط النار في ميادين الحرب، وقد استشهد كثيرون منهم على هذا المنوال.

ولا بد لنا من القول بأن (القضية العربية) مرت في هذه المرحلة بثلاثة أدوار:

1 - يبدأ الدور الأول بإعلان الدستور سنة 1908، وينتهي بإعلان الحرب العظمى عام 1914، فقد نهج العرب في خلاله نهج الأمم المناهضة العاملة للحرية والاستقلال، فألفوا الجمعيات السرية، وأصدروا الصحف، ونظموا القصائد الحماسية القومية، وأنشئوا الأحزاب السياسية، وعملوا على التنظيم الداخلي، وانشئوا الروابط بين لجانهم وجمعياتهم وأنديتهم، واستعدوا للعمل الكبير الذي وضع نصب أعينهم القيام به، تحقيقاً لحلم عزيز مصر العظيم محمد علي باشا

ولا يسع الباحث في أعمال هذا الدور إلا الإعجاب بما يشهده من انتظام وتضامن وتعاون بين أبناء العرب في جميع الأقطار والأنحاء

2 - أما الدور الثاني، وهو دور الإرهاب والظلم، أو دور مطاردة رجال (القضية العربية) وأحرار العرب ومفكريهم، فيبدأ من أوائل عام 1915، أي من زمن وصول جمال باشا السفاح إلى دمشق وإصداره أمره بإلغاء كتيبة الضباط العرب الشباب من خريجي المدارس العليا؛ وكانوا يمرنونهم في دمشق ويعدونهم ليكونوا ضباطاً، على أثر ما سمعه من أناشيدهم القومية؛ فأرسلوا إلى ميادين القتال في شتى الجهات، وهلك معظمهم. وينتهي هذا الدور بإعلان الثورة العربية الكبرى رسمياً يوم 10يونيو سنة 1916

على أن أقطاب الاتحاديين قرروا في شهر يناير عام 1914، أي قبل وصول جمال باشا إلى سورية بسنة تقريباً اتخاذ تدابير متعددة للقضاء على الحركة العربية، وتتريك العرب، إلا أن تأثير هذه التدابير ظل محدوداً، لأنها سلبية في طبيعتها لا تتعدى المقاومة الخفية. ولقد تحول الحال حينما أعلنت الحرب العظمى عام 1914، وبسطت الأحكام العسكرية، ونصبت المحاكم العرفية وأوقف البرلمان، ووضعت المراقبة، وعطلت الصحافة، وانطلقت أيدي الاتحاديين في البلاد العربية يفعلون ما يشاءون، لا رقيب ولا حسيب. ويلوح لنا أن اختيار جمال باشا لمنصب القائد العام في بلاد العرب - وهو المعروف بشدة الشكيمة، والميل إلى سفك الدماء - وتحويله إلى سلطة لا حد لها، ليس من قبيل الصدف، بل هو نتيجة خطة أحكم الترك تدبيرها، وأرادوا من ورائها الفتك برجال العرب ومفكريهم وشبابهم الذين أشربوا الروح القومية أملاً بأن يخرجوا منصورين من الحرب الكبرى، وكانت الدلائل تدل في سنيها الأولى على أن النصر سيكون في جانبهم، فينفذون سياسة التتريك، ويقضون على كل نغمة عنصرية، وينشئون إمبراطورية طورانية تحيي مجد جنكيز خان وتيمورلنك، وبقية عهد الذئب الأغبر

لا تلحق تبعة ما جرى في ذلك العهد الدموي جمالاً وحده، بل تشمل أقطاب الاتحاديين الذين كانوا مسيطرين على البلاد العثمانية وفي مقدمتهم أنور باشا وزير الحربية ووكيل القائد العام والدكتاتور الحقيقي؛ فقد كان مصدر كل سلطة في الدولة. وقد استمد نفوذه من سيطرته على الجيش، ولو أراد لوضع حداً لتلك الأعمال، ولكنه تغاضى عنها ومنح جمالاً كل ما طلبه من سلطة، ووضع تحت تصرفه كل ما أراد من قوى. على أن سير الحوادث، وقد جرت على غير ما يشتهونه جعل أنور يعدل عن تلك السياسة فيضيق اختصاص صاحبه ويسلبه ما كان منحه إياه، يؤيد ذلك ما جرى حين النظر في قضية خان الباشا بالشام والحكم على أحرار العرب، فهو لم يجسر على إعداد الذين ألح بإصدار الحكم بإعدامهم بل أرسل الإعلام إلى ديوان التمييز العسكري لفحصه عملاً بالأوامر الجديدة، وقد سلبت منه اختصاصاته فعاد منقوضاً يقول إنه لا وجه لإقامة الدعوى على أحد لأن الجرم الذي حوكموا لأجله لم يدخل في حيز التنفيذ

وينقسم العمل السياسي في خلال هذا الدور إلى ثلاث حلقات:

(ا) فالحلقة الأولى تبدأ من إعلان الحرب العظمى أي من شهر أغسطس عام 1914 حتى شهر أغسطس 1915 وقد انضم العرب في خلال هذه الفترة إلى الدولة قلباً وقالباً وأيدوها رغم ما كان بينهم وبين الاتحاديين، ورغم ظهور دلائل تدل على سوء نية هؤلاء وترقبهم دوائر السوء بالعرب لأنهم أدركوا أن الاحتلال التركي أهون من الاحتلال الأجنبي مهما كان الحال وأقل شراً، ولأنهم اعتقدوا أنهم لا يعدمون وسيلة للتفاهم مع أوليائها حينما تضع الحرب أوزارها، وتنقشع غمامتها. وأطمع هذا العطف الاتحاديين كما غرهم ما كانوا ينعمون به من قوة ومن سلطان عظيم لم ينالوا مثله في غابر أيامهم فقالوا إنها فرصة ثمينة لا يجود الدهر بمثلها، فأقدموا على تصفية حساب الحركة العربية، ونصبوا الميزان في عاليه كما نصبوه من قبل في أشقودرة يوم أرسلوا شوكت طورغود إلى ألبانيا في سنة 1911 للقضاء على الحركة الألبانية القومية فعجلت أعمالهم تلك في إخراجهم من ألبانيا وطردهم من البلقان، كما عجلت حركة عالية على إخراجهم من بلاد العرب وطردهم منها.

ولا يسع المؤرخ النزيه إلا التنويه بإخلاص العرب للدولة في هذه الفترة، وإذا اضطروا إلى الاتصال بأعدائها بعد ذلك وتعاونوا معهم على هدمها أو القضاء عليها، فالذنب ذنب الترك أنفسهم قبل أن يكون ذنب العرب والتبعة لاحقة بهم وحدهم، فلو جزوا العرب على إخلاصهم بإخلاص، وصافحوا اليد الممتدة إليهم، وتغاضوا عن كل حادث في الماضي وهو ما جرى العرف أن يحدث في الشدائد، وأي شدة أعظم من تلك الحرب، لما وقع ما وقع ولما كان ما كان

(ب) وتبدأ الحلقة الثانية بعد إعدام الرعيل الأول من شهداء العرب ومجاهديهم الأبطال، فقد كشر (جمال) السفاح عن أنيابه وتنكر للعرب، ولبس ثوب الأسد بعد ما نزع ثوبه الجميل، وأخذ ينادي بأنه لا بد من عقاب الخونة، والخونة في عرفه واصطلاحه هم أحرار العرب، والناهضون المجاهدون من رجالهم، مع أنه دعا هؤلاء في الخطبة التي خطبها في النادي الشرقي شهر يناير عام 1915 إلى إحياء شهامة العرب، وإعادة مجد العرب. ولا بد لنا من الاعتراف بأن العرب فوجئوا بأعمال جمال السفاح مفاجأة، فتشتت رجال الجمعيات في كل ناحية من أنحاء السلطنة العثمانية بعضهم منفي، وبعضهم سجين، وبعضهم مقتول، وأرسل آخرون إلى ميدان الصراع العالمي وجند آخرون في الجيش، وفر غيرهم. أضف إلى هذا أن الصلة كانت مقطوعة بين الشام وبين العراق والحجاز من أقطار العرب فضلاً عن العالم الخارجي لصعوبة السفر والانتقال في تلك الأيام العصيبة السوداء، ولوجود مراقبة شديدة على المراسلات. والحقيقة أنه لم يبق خارج القفص في تلك الأيام سوى عدد ضئيل جداً كان يقيم في دمشق على حذر ووجل يترقب القبض عليه من ساعة إلى ساعة، ويودع أهله وأسرته عند خروجه من المنزل في الصباح لأنه قد لا يعود إليهم في الظهيرة، وكذلك يودعهم في الأصيل لأنه ما كان واثقاً من الرجوع إليهم في الغسق. فهذه الفئة القليلة كان بقاؤها في الفيحاء بفضل عوامل محلية خاصة؛ فبعضها أقام بضمانة الوالي خليص بك والي الشام كالمرحوم الدكتور شهبندر، وبعضها أقام في جلق لأن الوحدة العسكرية المنسوب إليها كانت تقيم فيها كالدكتور احمد قدري، ويسن الهاشمي وغيرهما، نقول أن هذه الفئة هي التي اتصلت بالأمير فيصل عند مروره من دمشق في غدوه إلى الآستانة ورواحه منها. وهي التي أطلعته على ما يقاسيه العرب من الترك، فنقل شكايتها إلى رجال الدولة، وعمل على تعديل هذه السياسة في دمشق فلم يوفق. وهي التي نفخت فيه روح الثورة، وكان معروفاً في إعلان الحرب العظمى بمصافاة الترك قائلاً بعدم الخروج عليهم مهما كانت الظروف. وهي التي أقنعته بوجوب العمل لإنقاذ العرب من خطر محقق؛ فضم جهوده إلى جهود أخيه الأمير عبد الله، وكان متصلاً بالبريطانيين فتقررت الثورة ووضعت أسسها. ومما لا ريب فيه أنه كان للعامل المحلي والشخصي يد لا تنكر في إعدادها وتكوينها

(ج) وتبدأ الحلقة الثالثة بمؤتمر الطائف في خريف سنة 1915 وقد قرر إعلان الثورة العربية، وإعداد معداتها في الداخل، والاتصال برجال بريطانيا العظمى في الخارج. وقد سارت الأمور على أفضل ما يرام، فأقام الأمير علي في المدينة يستميل القبائل الضاربة في تلك البطاح، وأخذ عليها العهود والمواثيق، كما انصرف الأمير عبد الله من ناحية إلى جمع كلمة قبائل العرب في الطائف وإعدادها لليوم العصيب

أما الأمير فيصل، فكان يقيم في دمشق يفتل خيوط الرأي ليجد مخرجاً يخرجه من معتقله، فقد استبقاه الترك رهينة يهددون بها والده، ويغلون يده عن كل عمل، ولولا تخلصه منهم بكل لباقة وإفلاته من قبضتهم الحديدية لتأخر إعلان الثورة ولسارت الأمور في غير هذا الاتجاه. وامتدت المكاتبات بين الحسين أمير الحجاز يومئذ والإنجليز سنتين وأشهراً، وانجلت عن تلك العهود التي بذلها السر هنري مكماهون للعرب باسم حكومة صاحب الجلالة البريطانية وبالإضافة إليها

(د) ويبدأ الدور الثالث بإعلان الثورة العربية الكبرى رسمياً، ونزول العرب إلى ميدان الصراع والنضال وينتهي بإرسال الحسين أمير الحجاز يومئذ بلاغه الشهير إلى الدول العظمى يوم 30 أغسطس عام 1918 مما سنفصله في حديثنا المقبل فقد ضاق النطاق اليوم، فإلى اللقاء. . .

(دمشق)

نسيب سعيد المحامي