مجلة الرسالة/العدد 480/بجماليون
مجلة الرسالة/العدد 480/بجماليون
تحية للكاتب وعرض للكتاب
للأستاذ فخري شهاب السعيدي
جاء كتاب توفيق الحكيم الجديد في شكل حوار لأبطال بعثهم من أساطير اليونان، وابتداع لهم من خياله الخصب عبارات ذلك الحوار، وهيأ لهم رمزَّياً يصلح لهم، وتتناوبهم فيه العواطف والمشاعر
ما الحياة، وما الفن، وما ميزان الحكم عليهما؟ وما المرأة، وما الرجل، وما وجه المفاضلة بينهما؟ وما فكرة الآلهة والمخلوقات وما مقاييس الأحكام على الأمور عندهما؟ ما الخلود، وما الفناء؟ وما العقل، وما الجنون؟! ما هي الحكمة؟ وكيف توصف وتعرف وتقدر، وما البطش بالقياس إليها، وكيف يكون اتقاؤه والحذر من التورط فيه، وهل إلى ذلك من سبيل؟؟
وما هو الجمال وما هو الحب؟ وما مقدار لصوقهما بالحياة واتصالهما بها، وهل هملا وقف عليها؟!
تلك - ومثلها أكثر منها - أسئلة البشرية الخالدة التي مرت بكل فكر، وطلب أجوبتها من كل حكيم. . . وما دام البشر محدود القوى بالنقص والفناء، فإنه سيفتنّ في التسآل والأجابة، وفي الأخذ والرد، والإقناع والاقتناع، كل هذا تطميناً لفضول القوى العاقلة التي تثيرها في نفس مشاهد الكون!
. . أما عن الفن والحياة، فهما لدى توفيق الحكيم فكرتان إحداهما تتمّ الأخرى لإبداع الكمال المطلق الذي يتخيله في أذهانهم أرباب المثل العليا في الحياة، وهما من أجل إيجاد هذا الكمال ينبغي أن يكونا متلازمين يضيق عنه إدراك البشر المحدود؛ ومن هنا تبدأ عقد القصة الفلسفية في الظهور: فصانع التماثيل (المثال) (بجماليون) رجل فني نزاع إلى الكمال المطلق، ولكن نزوعه هذا نزوع يكتنفه الغموض، لأنه لا يدري به ولا يدري كيف يستقيم له هذا الكمال: هو يريد الحياة، لأن في أعماق نفسه شعور الإنسان الحي الذي إذا رنا إلى غاية نفسه الحية ألفاها متمثلة في الجسم النابضة عروقه بالحرارة والحياة. . . وهو يحب الفن لأن في طبيعته قبساً من عبقرية الخالقين المبدعين. . . وفي سريرة نفسه الصافية التي مزجت قوة الإبداع بجمال الحياة، استطاع أن يجمع بين النقيضين؛ وإلى ذلك توصلت روحه؛ ولكن عقله - وهو بشري محدود - لم يهتد إلى سر التوفيق بين ما يقع تحت فهمه من تناقض ظاهر في فكرتي خلود الفن وزوال الحياة، وبين طمأنينة روح (بجماليون) ونفسه إلى هذا التنافر البين الواضح. . .؟ وفي هذه المرحلة من القصة، تصل الفكرة الفلسفية إلى أبعد أغوارها، وتبدو عقدة الرمزية فيها رائعة الجمال، تمثل أبرع تمثيل وأصدقه ما يقوم من خلاف بين العقل في حدوده المادية من جهة، وبين الروح والنفس في جوهرهما المتجانس الموحد من جهة أخرى. وعلى قدر سعة اختلاف النظرتين، وبمقدار قصور العقل عن فهم ما تشمله الروح من آفاق، وما تصل إليه النفس من حقائق، يشتد الغموض على المثال البطل، ويشتد كرب نفسه، وتغشاه هموم العماء والعيش في المجهول. . . ولا يدرك هذا الألم النفسي الهائل الناشيء بين العقل والروح عن اختلافهما في الفهم واختلاف طبيعتهما في شمول الأشياء والنفوذ إليها، إلا عبقري كالبطل المثال، أو عبقري كالبطل الكاتب الحكيم!
وإذا عرفنا بعد هذا أن العقل هو الحكم في هذه الخصومة التي بينه وبين الروح عرفنا شقاء هذا البطل الشاب (بجماليون) ومقدار الحيف الذي لحق روحه الشاعرة وقواه المبدعة وصفاء نفسه الجميل!
قال: (قوة الفن! وما قوة الفن تلك التي يستطيع بها الهالك أن يخلق الخالد!)
وقال الفن: (ردوا علىّ عملي. . . ردوا عليّ (جالاتيا) كما كانت تمثالاً من عاج. . . أيها الآلهة، دعوني وشأني، لنفسي ومخلوقات نفسي، وما أنا إلا صنوكم ونظيركم؛ بل إني عليكم سموت، وعلى قدرتكم تفوقت، فأنتم ما فعلتم غير أن أفسدتم الجمال الذي أقمت. . أفسدتم جمالي الخالد، أفسدتم جمالي الخالد).
وقالت الحياة كلاماً كثيراً ولكن على غرار ما نطقت به قولها: (نعم! المودة والرحمة. . . أشياء تعطيها الحياة، ولا يستطيع أن يعطيها الفن!)
وقال المثال كلاماً أطول من كلام الحياة ولكن كلمتين صدرتا منه أدين بهما في هذه الخصومة، وهما قوله في موقف المقارنة بين (جالاتيا) صنماً و (جالاتيا) امرأة: (كل ما فيك محدود وكل ما فيها غير محدود) وقوله في معرض الاعتراف بانكساره وخطيئته: (الخطيئة التي كُتِبَ على كل فنّان أن يحمل وزرها. . . الافتتان بالنفس، الافتتان بالذات!) ولولا صدور هذين الاعترافين لما حُكِم على (بجاليون) المثال العبقري الحي أن يموت وعلى آيته (جالاتيا) الخالدة أن تحطم تحطيماً!
تلك هي الفكرة الرئيسة التي تقوم القصة عليها؛ ولكن ليس معنى ذلك أن الأفكار الفلسفية الأخرى أقل منها روعة أو اضعف شاناً؛ ففكرة الرجل والمرأة والمفاضلة بينهما، وتمييز الرجولة بشهامتها على الأنوثة بضعفها ومكرها، وحبها الإطراء وانخداعها به، وولوعها بالمكابرة ورغبتها في الانتقام، فكرة واضحة تامة الوضوح في تصرفات الآلهة (فينوس) وفي هباتها وكلامها وكل دورها الذي قامت به في المسرحية
أحب بعد هذا أن أشير إشارة شريعة إلى فكرة أحسبها أسمى الأفكار الرمزية التي وفق إليها الأستاذ في هذا الجهد الرائع الجديد، تلك الفكرة التي أزال بها الحجاب بين الحي والجماد، وسما إلى نوع من الرمزية الحلولية الروحية التي لم تُقم للفارق العقلي الذي يأبه الناس له وزناً في التفريق بينهما. بل اعتبرهما جدلين لا يلبثان أن ينصبَّا في خضم الوجود العظيم، وهما إذا نمَّا عن شيء فعن وحدة متجانسة ينضم إليها كل ما في الكون والوجود. وإنك لترى ذلك واضحاً متمثلاً في مخاطبة الجماد بأسلوب الأحياء، وإنطاقه بما يعرب عن مثل أحاسيسهم ومشاعرهم. على أنه في هذه المحاولة الناجحة لم يخرج عن كونه جاء بصورة أخرى للعذاب الذي لقيه المبدع البديع (بجماليون) حين تعذر عليه أن يمزج جمال الفن الخالد الذي أنطق الجماد به، برقة الطبيعة الحية الفانية التي تمثلها جلايتا امرأة سوية الخلقة رائعة التكوين. ولكن الفرق بين العبقريين: العبقري المثال، والعبقري الكاتب الأديب، أن الأول أطاع عقله واحترام مقاييسه المادية، أما الثاني فقد استعار الحلول وسيلة إلى إظهار ما يريد بمظهر يصدق الاعتماد عليه
أكتفي بهذا المقدار لأسمع رأي الناقدين في هذا الأثر الخالد المجيد. وإذا أذن الصديق في سماع تحيتي وقبول تهنئتي فليسمع ذلك إذاً متجلياً في قولي إن أثره هذا وإن آثره وإن يكن مصدره الغرب، سيرتد بعد أن اتشح بوشاح من عبقرية شرقية إلى مصدره بعد قليل على قلم ناقل أو أسلة مترجم معجب محب!
فخري شهاب السعيدي