مجلة الرسالة/العدد 481/مفاوضات الفتح العربي لمصر
مجلة الرسالة/العدد 481/مفاوضات الفتح العربي لمصر
للأستاذ السيد يعقوب بكر
- 3 -
الرواية الثانية
1 - يذكر أبو المحاسن (ص10 - 16) نقلاً عمن لا يسميه. ونحن نورد خلاصة ما قال:
لما حاصر المسلمون حصن بابليون وجدوا في فتحه خشي من في الحصن - وكانوا جماعة من الروم وأكابر القبط وعليهم المقوقس - أن يظهر عليهم المحاصرون، فلحق المقوقس وجماعة من أكابر القبط بالجزيرة تاركين وراءهم في الحصن جماعة لقتال العرب. ومن هناك - أي من الجزيرة - أرسل المقوقس إلى عمر رسلاً يحملون هذه الرسالة: (إنكم قد ولجتم في بلادنا، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلتكم الروم وجهزوا إليكم ومعهم من العدة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا فابعثوا إلينا رجلاً منكم نسمع من كلامهم، فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب وينقطع عنا وعنكم القتال قبل أن يغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفاً لمطلبكم ورجائكم فابعثوا إلينا رجالاً من أصحابكم نعاملهم على ما نرضى نحن وهم به من شيء). فرد عمر على المقوقس رسله بعد يومين كاملين ومعهم هذا الجواب: (إنه ليس بيني وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال: إما أن دخلتم في الإسلام فكنتم إخواننا وكان لكم مالنا، وإن أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين)
فلما رجع الرسل أتخبرهم المقوقس عما وجدوه من حال العرب، فأخبروه أنهم قوم يؤثرون الموت على الحياة والتواضع على الرفعة، وأنهم لا رغبة لهم في الدنيا ولا نهمة، وأنهم في معيشتهم سواء: وضيعهم كرفيعهم وسيدهم كعبدهم وأميرهم كواحد منهم، وأنهم لا يتخلفون عن صلاة. فلما سمع المقوقس من حال العرب ما سمع أيقن أنه إن لم يغتنم صلحهم وهم محصورون بالنيل فلن يغتنمه حين تمكنهم الأرض. فرد رسله إلى عمرو يقول له: (ابعث إلينا رسلاً منكم نعاملهم ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه يكون فيه صلاح لنا ولكم)
فبعث عمر عشرة نفر جعل عليهم عبادة بن الصامت، وأمره ألا يجيب المقوقس إلى شيء غير هذه الخصال الثلاثة سالفة الذكر
وكان عبادة أسود طويلاً موغلاً في السواد والطول، فلما دخل على المقوقس هابه هذا وسأل النفر العرب الذين جاءوا معه أن ينحوه عنه ويقدموا غيره للكلام. فقالوا جميعاً إن عبادة أفضلهم رأياً وعلماً، وإن أميرهم قد أمره عليهم فهم لا يخالفونه في رأي أو قول. فدهش المقوقس وأظهر لهم عجبه من أن يفضلهم رجل أسود. فأجابوه بأن السواد لا ينكر فيهم، وأنه لا يضع لصاحبه رفعة هو قَمن بها أو يغمط له حقاً هو جدير به
فقال المقوقس لعبادة: (تقدم يا أسود وكلمني برفق، فإنني أهاب سوادك وإن اشتد كلامك علي ازددت لك هيبة). فتقدم إليه عبادة فقال: (قد سمعت مقالتك، وإن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل كلهم مثلي وأشد سواداً منى وأفظع منظراً، ولو رأيتهم لكنت أهيب لهم مني. وأنا قد وليت وأدبر شبابي، وإني مع ذلك بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً، وكذلك أصحابي، وذلك إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد في الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في الدنيا ولا حاجة للاستكثار منها، إلا أن الله عز وجل قد أحل ذلك لنا وجعل ما غنمنا من ذلك حلالاً. وما يبالي أحدنا أكان له قناطير من ذهب أم كان لا يملك إلا درهما؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسد بها جوعته ليلته ونهاره، وشملة يلتحفها؛ وإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله تعالى. . . لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، بذلك أمرنا الله وامرنا به نبينا وعهد إلينا ألا تكون همة أحدنا في الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضاء ربه وجهاد عدوه)
فلما سمع المقوقس ذلك منه قال لمن حوله: (هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط؟ لقد هبت منظره وإن قوله لأهيب عندي من منظره إن هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض، وما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها). ثم أقبل المقوقس على عبادة بن الصامت فأقره على ما وصف به نفسه وأصحابه، ثم حاول أن يخوفه ويصرفه عن الهدف الذي يقصد إليه العرب فقال له: (وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنجدة والشدة ممن لا يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، وإنا لنعلم أنكم لم تقووا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم. وقد أقمتم بين أظهرنا أشهراً وأنتم في ضيق وشدة من معاشكم وحالكم، ونحن نرق عليكم لضعفكم وقلة ما بأيديكم. ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين ولأميركم مائة دينار ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوة لكم به). فقال عبادة: (يا هذا، لا تغرن نفسك ولا أصحابك. أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم وأنا لا نقوى عليهم لعمري ما هذا بالذي تخوفنا به ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، إن كان ما قلتم حقا فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم وأشد لحرصنا عليهم. . . وإنا منكم حينئذ على إحدى الحسنيين: إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا. . . وأما قولك إنا في ضيق وشدة من معاشنا وحالنا فنحن في أوسع السعة، لو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن فيه. . .). ثم يخير عبادة المقوقس بين هذه الخصال الثلاث التي عهد بها رسول الله ﷺ إلى المسلمين وأمر أمير المؤمنين عمراً بها ثم تلقاها عبادة عن عمرو: إما الإجابة إلى الإسلام الذي يوحد بين معتنقيه ويكف بعضهم عن بعض، وإما جزية مقدرة يؤديها القبط والروم للعرب في كل عام ولهم في مقابل أدائها أن يقتل العرب عنهم من يناوئهم ويعرض لهم في شئ من أرضهم ودمائهم وأموالهم، وإما الاحتكام إلى السيف
فيقول المقوقس: (هذا لا يكون أبداً، ما تريدون إلا أن تتخذونا عبيداً ما كانت الدنيا). فيجيبه عبادة: (هو ذلك فاختر ما شئت). فيسأل المقوقس: (أفلا تجيبوننا إلى خصلة غير هذه الثلاث الخصال؟). فيرفع عبادة يديه ويقول: (لا ورب هذه السماء ورب هذه الأرض ورب كل شيء، ما لكم عندنا خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم)
فيلتفت المقوقس حينئذ لأصحابه ويسألهم رأيهم؛ فيجيبون بأنهم يأبون ترك دين المسيح بن مريم إلى دين لا يعرفونه، وانهم يرون الموت أيسر لهم من أن يذعنوا للعرب ويسلسوا لهم القياد ويملكوهم منهم الرقاب، وأنهم يرضون أن يضاعفوا للعرب من المال حتى يتركوهم ويتولوا عن ديارهم.
ويخبر المقوقس عبادة بما انتهى إليه رأي أصحابه، فيقوم هذا وأصحابه. وهنا يقول المقوقس لصحبه: (أطيعوني وأجيبوا للقوم إلى خصلة واحدة من هذه الثلاث، فوالله ما لكم بهم طاقة؛ ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كارهين) فيسألونه: (وأي خصلة نجيبهم إليها؟) فيجيب: (إذن أخبركم أما دخولكم في غير دينكم فلا آمركم به، وأما قتالهم فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليهم ولن تصبروا صبرهم، ولا بد من الثالثة). فيقولون: (فنكون لهم عبيداً أبداً؟). فيقول: (نعم، تكونون عبيداً مسلطين في بلادكم آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم خير لكم من أن تموتوا عن آخركم وتكونوا عبيداً تباعون وتمزقون في البلاد مستعبدين أبداً أنتم وأهلكم وذراريكم). فيقولون: (فالموت أهون علينا)
فواضح مما لخصناه عن أبي المحاسن أن المفاوضة كانت في جزيرة الروضة بين المقوقس وعبادة بن الصامت.
2 - ويذكرها المقريزي (ص 65 - 70) نقلاً عن كتاب ابن عبد الحكم بما لا يخرج عما ذكره أبو المحاسن.
3 - ويذكرها السيوطي (ص 65 - 69) نقلاً عن كتاب ابن عبد الحكم بما لا يخرج عما ذكره أبو المحاسن ايضاً
4 - ويشير إليها القضاعي فيها لخصه في كتابه (الخطط من قصة فتح مصر)؛ وذلك فيما ينقله عنه السيوطي (ص77) يقول القضاعي: إن العرب لما ظفروا بالحصن (حصن بابليون) لحق المقوقس وأهل القوة بالجزيرة، وتحصنوا هناك والنيل حينئذ في مده، فسأل المقوقس في الصلح، فبعث إليه عمرو بعبادة ابن الصامت، فصالحه المقوقس على القبط والروم، على أن للروم الخيار في الصلح إلى أن يوافي كتاب ملكهم، فإن رضي تم ذلك، وإن سخط انتقض ما بينه وبين الروم؛ وأما القبط، فبغير خيار. . .
فواضح أن القضاعي متفق مع من ينقل عنه أبو المحاسن، وكذلك مع ابن عبد الحكم في مكان المعاهدة وطرفيها، ولكنه مختلف عنهما في وقتها، فهو يقول: إنها كانت بعد سقوط (حصن بابليون)؛ وهم يقولون إنها كانت قبل ذلك
ولا يرد في كتاب حنا النقيوسي شيء من ذلك
والأستاذ بتار لا يجد ما يشككه في هذه الرواية، فهو يسلم بها ولا يرفضها؛ وهو ينقل إلينا في كتابه (ص223 - 277) طرفاً من هذه المفاوضة، وهو يتفق مع ابن عبد الحكم، ومن ينقل عنه أبو المحاسن في أن المفاوضة كانت قبل سقوط الحصن
ونحن نسلم بما يراه الأستاذ بتلر بصدد هذه الرواية، ولكننا لا نظن بعد ذلك أن الحديث الذي دار في المفاوضة هو نفس الحديث الذي نقلته إلينا تلك المراجع التاريخية العربية؛ إذ يظهر أن يد أديب صناع قد امتدت إلى هذا الحديث الذي دار في المفاوضة فنمقته ووشته وهذبت حواشيه وخرجت به عن صورته الأولى الساذجة، إلى صورة أخرى أدبية، لا نشك في روعتها وجمالها. . . نقول: إننا لا نظن أن الحديث الذي دار في المفاوضة هو نفس الحديث الذي نقلته إلينا المراجع التاريخية العربية؛ ولكننا - مع ذلك - لا نظن أن الحديثين يختلفان في الروح المسيطرة عليهما المنبثة فيهما
(للبحث بقية أخيرة)
السيد يعقوب بكر