مجلة الرسالة/العدد 487/مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية

مجلة الرسالة/العدد 487/مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية

مجلة الرسالة - العدد 487 المؤلف زكي مبارك
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
ملاحظات: بتاريخ: 02 - 11 - 1942


2 - حديث عيسى بن هشام

للدكتور زكي مبارك

تأريخ المجتمع ونقد المجتمع - جريمة أدبية - سريرة المويلحي - التحرش بالأزهريين - صفحات تعليمية - كلمة إنصاف

تأريخ المجتمع ونقد المجتمع

المجتمع أسمه الجمعية في لغة المويلحي وفي لغة من عاصروه، فهو يقول الجمعية الإنسانية ويعني بها ما نسميه المجتمع الإنساني.

وقد لاحظنا فيما سلف أن (الجامعة المصرية) معناها في كتابات لطفي باشا السيد (الرابطة المصرية) وأن الجامعة بمعناها الجديد كانت تسمى الكلية، وقد وردت بهذا النص في مجلة المقتطف عند الكلام عن إنشاء الجامعة المصرية. وبعض جرائد الشام لهذا العهد تذكر (الجامعة البشرية) وهي تعني الرابطة الإنسانية. فليلتفت الطلبة إلى أن في كتابات المويلحي ألفاظا هجرها كتاب اليوم، أو نقلوها من وضع إلى وضع، وللألفاظ أعمار وأزمان!

ثم أذكر أنه يجب أن نلاحظ الفرق بين تأريخ المجتمع ونقد المجتمع، ففي الكتاب فقرات تؤرخ المجتمع من غير قصد، فنعرف منها بعض أحوال القاهرة منذ نحو خمسين عاما، كأن يصف المؤلف دارا بالعزة والرفاهية فيذكر أنها تضاء بالكهرباء.

ونحن اليوم لا نقول ذلك، لأن الأغلب في القاهرة أن تضاء الدور بالكهرباء، وان لم يكن أهلها أغنياء. وكأن يذكر المؤلف أن محكمة الاستئناف في حي الإسماعيلية وأنها لم تكن تستقر في مكان. وكأن يقول: أن سكان مصر عشرة ملايين. وكأن ينص على أن المحامين أمام المحاكم الأهلية لا يعرفون اللغات الأجنبية، وكأن يشير إلى متحف بولاق ومتحف الجيزة، وليس عندنا اليوم غير متحف قصر النيل. وكأن يذكر أن كتاب المحكمة الشرعية تنتظرهم حميرهم وبغالهم على الأبواب،

وكأن يجعل سدنة (الدفتر خانة) أشياخا يحملون الدوي النحاسية في أحزمة القفاطين. وك يقول التشخيص وهو يريد التمثيل. وكأن يذكر في القانون الجنائي أشياء لا يعرفها قضاة هذا الزمان

التأريخ المقصود

وقد يقصد المويلحي إلى تأريخ بعض تطورات المجتمع في الزمن الذي سبق تأليف الكتاب، كأن ينص على (سر الليل)، فمن هذا (السر) نفهم أن القاهرة كانت تغلق أبوابها بالليل فلا يدخلها أحد إلا بإشارة يفهم منها الشرطة أنه في غنى عن الاستئذان

وهنالك تأريخ معاني النقد، كأن ينطق (الباشا) بعبارات ندرك منها أن النزعة التركية كان لها في زمانه مكان.

ففي ص 24 يعجب الباشا من أن لا يكون لأمير على مصري أمر. وفي ص 27 ينكر الباشا (أن يحكم الناس فلاح وينوب عنها حراث). وفي ص 43 يعجب الباشا من أن (يتعدى المصري على الجندي). وفي ص 48 يصرح الباشا بأنه

عاش دهوره لا يعرف أن السجن يكون في عقاب الكبراء والأمراء، وإنما يكون في عقاب السفلة من العامة والغوغاء من الناس!

ثم ينفجر المؤلف في ص72 فيقول في الأتراك كلاما لا يقال اليوم، لأن هذه النزعة قد اختفت أو ماتت،

بغض النظر عن الحادث الذي وقع منذ بضع سنين

النقد المقصود

يجري قلم المؤلف بعبارات نقدية خفيفة من صفحة إلى صفحات، ثم يعمد إلى النقد عمدا فيسهب ويطيل. ولعل المحامين والقضاة والأعيان لم يصابوا في سمعتهم بأذى ولا أوجع مما رماهم به المويلحي في غرامة نادرة المثال

هل كان المجتمع المصري قبل خمسين سنة على النحو ما صوره ذلك القلم الفاتك؟ وهل كان يغلب أن يكون القضاة من الفتيان الأماليد؟ وهل كانت المحاماة نصباً في نصب وخداعاً في خداع؟ وهل كان (العمدة) الذي تعقبه المويلحي نموذجا في ذلك الزمان؟

جريمة أدبية هي جريمة المويلحي في تصوير المجتمع المصري، فقد أهتم بتجسيم العيوب تجسيما بلغ الغاية في القسوة والعنف، وسكت عما في المجتمع المصري من محاسن أصيلة هي سر بقائه في صحة وعافية، برغم ما أصاب هذه البلاد من كوارث وخطوب

وعذر المويلحي أن نقاد المجتمع لعهده كانوا جميعا متشائمين، ولو شئت لقلت أنهم كانوا يجدون لذة في التذمر والتقزز والتفجع، ولهذا الاتجاه شواهد نجدها في كتابات توفيق البكري، وفي قصائد حافظ ابراهيم، وفي تلك البيئة ظهر المنفلوطي

فكان أدبه من صور القلق والانزعاج

وما أقول بأن أمثال هؤلاء الكتاب يفترون على المجتمع، لا، فقد صوروا بيئات موجودة بالفعل؛ وقد لا تنقرض، فلن تخلو الدنيا من محام نصاب، أو قاض كسلان، أو تاجر غشاش؛ وانما أنكر التعميم في الأحكام النقدية، التعميم الذي يضم المجتمع في جميع طبقاته بالتفكك والانحلال، مع أنه في الحقيقة لا يخلو من تماسك يضمن له البقاء

وانما عددت هذا المذهب جريمة أدبية لأنه ينتهي إلى التعجيز والتيئيس، ولأن أثره في تقويم المجتمع أثر ضئيل

يضاف إلى ذلك، أصحاب هذا المذهب لا يضعون النماذج للمجتمع المنشود، وان فعلوا فلن يكون المجتمع الصالح في نظرهم إلا بيئة خيالية لا يعرفها سكان الكرة الأرضية

سريرة المويلحي

حديث عيسى بن هشام يشهد شهادة صريحة بأن المويلحي قد ارتطم في حياته بمشكلات ومعضلات خلقتها معاملاته مع الناس. والظاهر أنه عرف المحاكم المصرية من مختلطة وأهلية وشرعية، عرفها مدعيا ومدعى علية. والظاهر أيضا

أنه أبتلى بمزعجات الأوقاف. ولا جدال في أنه عانى الغدر من بعض الأصدقاء، فله في الأصدقاء كلمات سارت مسير الأمثال. ويظهر كذلك أنه أتصل اتصالا وثيقا بالملاعب القاهرية في مكايدها الليلية، ثم يظهر أنه بادل الصحفيين من معاصريه ظلما بظلم، وعدوانا بعدوان

أقل هذا لأدفع تهمة وجهت إلى المويلحي من أديب عظيم هو أخونا الأستاذ الزيات الذي يرى في (الرحلة الثانية) شاهدا على أن الرحلتين ليستا لكاتب واحد، لأن الفرق بين الرحلة الأولى والرحلة الثانية بعيد بعيد

والحق أن الرحلة الثانية ضعيفة كل الضعف، بالقياس إلى الرحلة الأولى، ولكن ما سبب ذلك الضعف، مع تقارب الأسلوب في الرحلتين تقاربا يشهد بأن الكاتب هنا هو الكاتب هناك؟

يرجع السبب إلى أن المويلحي لم يعرف من أوربا غير فرنسا، ولم يعرف من فرنسا غير باريس، ولم يعرف من باريس غير ظواهر سطحية لا تقلقل الخاطر، ولا تبلبل الوجدان، فكيف جاز أن يدعي القدرة على تصوير المدنية الغربية؟

المويلحي لا يعرف باريس، وان زار باريس، ولو أنه عرف تلك المدينة في حياتها الحقيقية (كما عرف القاهرة في حياتها الحقيقية) لقال فيها كلاما غير الذي قال، ولكان من الجائز أن يفردها بكتاب يشرح ما تعاني من اصطراع المذاهب والآراء، فقد زار باريس وهي في عنفوان الفتوة، وفي اتصال وثيق بأمم الغرب والشرق، ومع هذا لم يستطع أن يدون حيواتها غير بوارق مهددة بالخمود

بدا لي أن أعرف ما ألف عن الحي اللاتيني، فجمعت نحو ثلاثين كتابا، منها كتاب يصور ما يعاني طلبة السوربون من اليهود المربين

وبدا لي مرة ثانية أن أحصي المكتبات القائمة بالحي اللاتيني وهو مهد الفكر الحر، فهالي أن أجد فيه مكتبة لا تبيع مؤلفات رينان بحجة أنه زنديق

وبدا لي مرة ثالثة أن أعرف إلى أي مدى تتصل باريس بأساطير الأولين فجمعت من ذلك أشياء وأشياء. . . فأين المويلحي من ذلك التعقيد العنيف؟

وخلاصة القول أن إخفاق المويلحي في تصوير الحياة الباريسية يرجع إلى أنه لم يعان فيها مشكلات تزلزل العقل أو تثير الوجدان، فجاء حديثه عن تلك الحياة أضعف وأضعف من أن يسامي حديثه الأول في وصف الحياة المصرية. . . والأدب يأخذ قوته من التجارب والمشاهدات، لا من الحدس والتخمين. وكذب من ادعوا أن الأدب أوهام وظنون

ومن الواجب أن نسجل أن المويلحي نظر إلى المدنية الغربية بالعين الشرقية، فلم يحاول إبراز ما فيها من خصائص إيجابية، كما حاول إبراز ما فيها من خصائص سلبية. وهو مع ذلك محمود الصنيع، فقد جاهد في حدود طاقته جهاد الرجال، ومن كان كذلك فهو جدير بكل ثناء.

التحرش بالأزهريين

والمويلحي لا يكف عن التنديد بالعقلية الأزهرية، فما تعليل هذه النزعة عند ذلك الأديب؟

يرجع السبب إلى أن انقسام المتعاملين إلى معممين ومطربشين كان في عهد المويلحي فتنة تثور بين طبقتين. . . كان المطربشون يرون أنفسهم طلائع الجيل الجديد، وكان المعممون يرون أنفسهم حماة الدين الحنيف. . . وكانت الدولة نفسها لا تسند المناصب الإدارية لغير المطربشين، بحجة أنهم أعرف بالأنظمة المدنية وأقدر على سياسة الناس. . . وهل ننسى أن منصب الوزير عرض على الشيخ محمد عبده فرفضه بأباء، لأن من عرضوا عليه ذلك المنصب دعوه إلى خلع العمامة ولبس الطربوش؟

كانت الفتنة قائمة بين هاتين الطبقتين، وكان من العسير أن توجد بينهما صلات خالية من شوائب التحاسد المستور أو المكشوف. ولتلك الفتنة عقابيل باقية إلى اليوم ولا موجب للتفصيل!

هذا هو السبب في حرص المويلحي على التنديد بالأزهريين، وهو أيضا السبب في أنه هادنهم بعد انقطاع أسباب الشقاق. ولكن كيف؟

قلت أن الطبعة الأخيرة هي الطبعة الرابعة، وأنا لم أقرأ هذا الكتاب إلا في الطبعة الثانية، وقد ظهرت منذ أكثر من ربع قرن، ومع هذا بقيت في ذاكرتي منها أشياء لم أجدها في الطبعة الأخيرة. وبرغم ضيق الوقت عن مراجعة الطبعة الأولى أو الثانية فأنا أذكر جيدا أن (عيسى بن هشام) مضى مع (الباشا) لزيارة الأزهر الشريف، وأذكر انهما سمعا الأزهريين يتحاورون ويتجادلون في بدعة إصدار الجرائد والمجلات، وانتهى الرأي إلى الأزهري يستطيع أن يكون صحفيا إن أراد، وقرأ أحدهم مقالة نشرها أحد الأزهريين، وهي مقالة افتعلها المويلحي، فقد كانت فيما أتذكر غاية في الركاكة والإسفاف، على نحو ما صنع وهو يفتعل ما يلقى في الأعراس من الخطب الرنانة والقصائد الجياد!!

فكيف استجاز المويلحي أن ينال كتابه بالتعديل فيما يتصل بحياة الأزهريين؟

كان ذلك لأنه أراد أن يقرر كتابه للمطالعة في المدارس الثانوية، وكان يعلم أن المفتشين الذين يحكمون لكتابه أو عليه هم في الأصل أزهريون، ومن الحزم أن يتقي شرهم بحذف ذلك الحديث. . . وآفة الأدب ان يعرض للمنافع، وأن تراعي فيه خواطر بعض الناس

وأذن يكون من الحزم - ونحن نؤرخ الحياة الأدبية والاجتماعية - أن نقرر أن الطبعات القديمة من هذا الكتاب هي الأساس في تصوير ما سماه المويلحي (فترة من الزمن)، بدون مبالاة للمجاملات اليومية على حساب التأريخ.

صفحات تعليمية

في الكتاب صفحات أريد بها التعليم، أعني أن المؤلف أراد بها شرح ما جد في مصر من الأنظمة واللوائح والقوانين، فما منهاجه المختار في الشرح؟

هو يشرح وينقد، يشرح أمورا وينقد أمورا كانت لعهده تحتاج إلى إيضاح مصحوب بالاعتراض، كالذي وقع في الصفحات 41 و42 و43، وهو يفصل أنواع المحاكم بهذه البلاد

يحدثنا المؤلف أن مفتي نظارة الحقانية - وزارة العدل - أقسم الأيمان المغلظة أن القانون الفرنسي غير مخالف للشرع الإسلامي، مع أنه لا يعاقب على الفسق أن تجاوز عمر المفسوق به الثانية عشر بيوم واحد ومع أنه ومع أنه لا يعاقب من يزني بأمه إذا هي رضيت وكانت غير متزوجة، ومع أنه يعد الأخ مجرما جانيا إذا تعرض للمدافعة عن أخته، ولا يعطي حق الدفاع لغير الزوج، ومع أنه يقبل شهادة المرأة الواحدة على الرجل، ولا يعاقب الزوج إذا سرق من امرأته ولا المرأة من زوجها ولا الولد من أبيه ولا الأب من أبنه

ويتكلم المؤلف عن المجالس التأديبية، فنعرف منه أنها خاصة بعقاب الموظف يخل بتأدية وظيفته، وأنها في الغالب تتألف من رؤسائه الذين يتهمونه ظالمين أو عادلين

أما حكم المؤلف على المحاكم القنصلية فلا يخففه غير الاطمئنان إلى ذهاب عهد الامتيازات الأجنبية

كلمة إنصاف

كان المويلحي فيما يظهر مفطورا على حاسة العدل، وهي حاسة تميل من الوجهة التشكيلية إلى تجسيم العيوب، وتغفل أو تتغافل عن مكافأة من يتهمون وهم أبرياء

أعظم ما يجازى به المتهم البريء هو الحكم بأنه بريء، ولم نسمع أن متهما بريئا جازاه قاضيه بجائزة تذهب عنه أفاك المرجفين

لا رجاء في الدنيا ولا أمل في الناس، أن لم يأت يوم يكون فيه حكم البراءة بشيرا بالرفاهية والرخاء

فأين المويلحي من هذه المعاني؟

ظلمه معاصروه فظلم معاصريه، والظلم بالظلم بغي وعدوان كان المويلحي ابن زمانه، فلم يهتد إلى فكرة العدل الصحيح، ولو أنه عقل لأدرك أن المظلوم لا ينبغي له الوقوف في صفوف الظالمين

لو كان للمويلحي نصيب من الروحانية الصوفية لأدرك أن اضطراب المجتمع المصري عقوبة فرضها التفريط الذي توارثته أجيال عن أجيال، وعجز عن طبه الدهر والزمان

ونحن في مصر، ومصر أمةآذت وأوذيت، وقاتلت وقوتلت، وهي إلى الأبد في عراك وقتال وصيال

ليت المويلحي أدرك هذه المعاني، وليته فهم أننا نجرجر تاريخا له في ضمير الإنسانية جذور وجذوع وفروع.

لو عقل المويلحي لقال في مصر كلاما غير الذي قال

ولكنه معذور، لأن (العدل الرسمي) ساقه إلى أن يقول ما يقول

وفي الكلمة الآتية فصل القول في ذلك الأديب الفنان.

زكي مبارك