مجلة الرسالة/العدد 489/أطوار الوحدة العربية

مجلة الرسالة/العدد 489/أطوار الوحدة العربية

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 11 - 1942



ثورة العرب الكبرى

للأستاذ نسيب سعيد

قلنا في حديثنا الماضي إن الطور الثالث (للقضية العربية) يبدأ بإعلان الثورة الكبرى رسمياً يوم 10 يونيو عام 1916، ونزول العرب إلى ميادين الصراع والكفاح، وينتهي بإرسال الحسين بلاغه ما أجملناه أمس، ونقول: إن (القضية العربية) كانت في خلال هذه المرحلة - وقد امتدت عامين ونيفا - عرضة لتيارات مختلفة، وعوامل متناقضة، لأنها أعظم الأطوار التي اجتازتها شأناً. وقد ظن بها الكثيرون من كبار السياسيين الظنون، واعتقدوا أنه قد لا يكتب لها التغلب على المصاعب التي أحدقت بها من كل جانب، فكان جمال السفاح يهاجمها من الداخل بكل قواه، ويبذل جهوده للقضاء عليها، والتخلص منها فيتم بذلك عمله الأصلي، ويقضي على كل حركة عربية، فينال إكليل الغار والظفر. ولا ريب أن فشله في احتلال مكة وفي إنقاذ الحجاز أفقده ما كان يتمتع به من نفوذ في دوائر الأستانة، وجعل حكومتها تقلص ظله، وتنقص سلطته تدريجياً حتى جردته من كل حول وطول، فطلب أن يقال، وكانت الحرب في عامها الثالث، فأقيل وعاد حزيناً مغموماً إلى الاستانة، يعض كفيه شجناً وأسى، وقبع في وزارة الحربية هناك ينتظر ما خبأه له القدر، ولم يطل به المقام حتى فرّ إلى روسية فعاش فيها شريداً طريداً، ومات قتيلاً منبوذاً، وتلك عقبى الطاغين

ويجب علينا أن نعترف في هذا المقام أن معظم الفضل في إنقاذ الثورة، بل في إنقاذ القضية العربية في هذا الدور يعود إلى الجهود الخاصة التي بذلها الحسين وأولاده في الأشهر الأولى للثورة الكبرى، ولولا ذلك لتم لفخري باشا القائد التركي العام بلوغ مكة، واحتلالها، والقضاء على الثورة في مهدها

وعلى كل حال لابد لنا قبل الحديث عن حوادث الثورة ووقائعها، من دراسة مقدمات هذه الثورة وأسبابها وعواملها فقد يساعد هذا الدرس - كما نعتقد - على استخراج نتائج إيجابية تنير السبيل، وتجلي الحقيقة عن ثورة العرب الجبارة

وإذا أردنا البحث عن أسباب الثورة ومقدماتها، يجب علينا قبل كل شيء، استعراض علاقات العرب بالترك منذ اتحدا في ظل الهلال العثماني خلال القرون الوسطى، يوم كان للوازع الديني المقام الأول، وكان الشرق يعيش في عزلة تامة عن الغرب، ويدور في دائرة ضيقة من التقاليد والأساليب، تسللت إليه من أسلافه الأولين، وأجداده الأقدمين؛ فكل من يستعرض هذه العلاقات بين الأمتين المسلمتين، يسلم بأن العرب لم يجدوا غضاضة في الخضوع لسلطان العثمانيين حينما فرق يوم مرج دابق جيش السلطان (طومان باي خليفة الغوري) آخر المماليك المصريين، وتقدم إلى دمشق، فالقدس، فالقاهرة فاتحاً، فقد رحبوا به في كل بلد من بلدانهم، وقطر من أقطارهم، وبلغ من شريف مكة يومئذ وهو الأمير بركات أن أرسل إلى القاهرة من حمل إلى السلطان المنتصر كتاب بيعته ودخوله في طاعته، وبهذا الاعتراف اكتسب لقب خادم الحرمين الشريفين. والتعليل الصحيح لهذه الظاهرة الاجتماعية هو الفكرة الدينية ولاشك، فقد سرى في ذهن العرب من أبناء هذه الأقطار أن في تأييد السلطان الجديد تأييداً للإسلام وإعلاء لشأن الشريعة السمحاء فبايعوه سيداً وإماماً

وهبت على ديار الغرب بعد الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر ريح القومية، وتنشق العالم نسمات روح جديدة، حاملة معها حضارة الغرب الحديثة؛ وكانت بضاعة القومية في جملة صادرات الغرب الجديدة إلى الشرق القديم، فجاءت تجر ثوباً قشيباً فضفاضاً يغري ويفتن؛ إلا أن تأثيرها ظل محدوداً خلال القرن الماضي بسبب الجهل الذي كان مسيطراً وسائداً. حتى إذا بدت طلائع القرن الجديد شرع العرب ينتعشون تدريجاً، ويفتحون عيونهم لاستقبال نور الحياة المشرقة عليهم، المهيبة بهم إلى النهضة والعمل، لاحتلال المنزلة اللائقة بين الأمم. بدأت هذه الروح القومية الجديدة تهب عليهم نسمات خفيفة رقيقة، ثم أخذت تتابع وتقوى بتقدم الأيام والليالي، حتى كانت الحرب العظمى الماضية فإذا بتلك النسمات الرقيقة قد أصبحت ريحاً صرصراً عاتية، بل عاصفة هوجاء تتلاعب بالأمة العربية، وتقذف بها ذات اليمين وذات الشمال.

وما زال العرب اليوم يعيشون في وسط هذه العاصفة، وفي ملتقى التيارات المنصبة عليهم من كل صوب وناحية فإذا نحن تقصينا الأثر البارز للقوى العظيمة المتفاعلة وإياهم وجدناه في هذه الهبة القومية التي تدفعهم إلى استكشاف نفسهم، وتحرير أفرادهم ومجموعهم، واستعادة سالف مجدهم، وإثبات مكانتهم في المجتمع البشري. وما من أحد يلمس الحياة العربية الحاضرة إلا ويشعر بهذه الهبة المرتفعة من صدور العرب في شتى أقطارهم، المبشرة بنهضة جديدة، يرجى لها ما كان لسابقتها في العصور الوسطى - من عز منيع، ومجد رفيع، ومساهمة ذات شأن في تقدم التمدن الإنساني، والحضارة العالمية

وكما هبت ريح القومية على العرب، كذلك هبت على الترك حتى أن بعضهم تشبع بفكرة القومية الطورانية، فكان ذلك مقدمة تحول عظيم في صلات الأمتين: العربية والتركية، وقد ختم هذا الدور (23 يوليو عام 1908 - 30 أكتوبر عام 1918) بانفصالهما عن بعض بعدما عاشا متحدين مدى أربعة قرون، يخضعان لنظام واحد، ولعلم واحد؛ فانهار بذلك الانفصال بناء الإمبراطورية العثمانية، وقام مقامه صرح جمهورية أنقرة الجديدة، كما قامت هذه الدول العربية المنبثة في بلاد العرب من أقصى الجنوب حتى أقصى الشمال

أما الخلاف العنصري الذي نشأ بين العرب والترك، فمقدمته كانت - ولاشك - قضية إبعاد العرب عن وظائف الدولة؛ وقد بلغ اشده عن طريق الصحافة، إذ كانت الصحف التركية الجديدة تدعو إلى تعزيز القومية الطورانية، والتحامل على القوميات الأخرى، وتحض الحكومة على مقاومتها والقضاء عليها. ولم تقصر صحافتا الترك والعرب في التراشق بالألفاظ والجمل، والغمز واللمز، كما لم يقصر شعراء الأمتين في نظم القصائد والمقطوعات التي تزكي نيران القومية في القلوب.

أضف إلى ذلك عمل الكتاب العرب الذين نزحوا إلى وادي النيل السعيد، فقد أذكوا روح القومية العربية بما كتبوا ونظموا، فكان عملهم أشبه بعمل روسو وفولتير ومنتسكيو وديدرو في إذكاء ثورة فرنسا الكبرى سنة 1789

تلك هي إذن مقدمات الثورة العربية وأسبابها البعيدة، أضف إليها عمل الجمعيات العربية بصورة خاصة. أما الأسباب القريبة أو المباشرة لها، فهي تصرفات جمال السفاح ومظالمه التي ريعت لها دنيا العرب، وجزعت، فعجلت في إضرام ثورة لا تبقي ولا تذر، حتى قبل أن تعد معداتها وتهيئ أسبابها، بل وقبل أن يأتي أوانها؛ مما أثر في تطورها وحال بين العرب وبين اجتناء الثمرات التي كانوا يرجون اجتناءها في ختام جهادهم الأكبر، كما كانت سبباً في تنفير الرأي العام المتمدن من الاتحاديين الترك واحتقاره لحكومتهم

وكيف لا يجزع العالم العربي لتلك المظالم التي أقدم عليها جمال السفاح، وتلك الفظائع التي ارتكبها رجل الظلم والإرهاب من شنق أحرار العرب والتنكيل بأسرهم والتقليل من أمجادهم، مما لم يعرف التاريخ في صفحاته له مثيلاً؛ وكذلك كان لبعض رجال العرب من الذين أفلتوا من قبضة الظلم والإرهاق فلجئوا إلى مصر والعراق والحجاز، يد كبيرة في إثارة (الرأي العام العربي) على الترك، وتنفيره منهم، وتفهيمه (القضية العربية) على وجهها الصحيح، وفي إعداده للثورة الكبرى والغضبة المضرية العظمى طلباً للثأر والانتقام، كما بكى شعراء العرب وكتابهم في مصر والعراق والحجاز وأمريكا الشهداء الأبرار، مستنزلين سخط العالم المتمدن على الطغاة الظالمين

ويجب علينا هنا قبل الحديث عن وقائع الثورة وحوادثها أيضاً درس العلاقات التي كانت قائمة بين زعيم الثورة شريف مكة، وبين الاتحاديين الترك قبل الحرب الماضية، فإن هذا الشريف لم يبق في استطاعته أن يتجنب الاصطدام بالترك، وأن يحجم عن مصارحتهم الشر والعدوان بعد ما وصلت الحالة في بلاد العرب إلى الدرجة القصوى من الانحطاط والعدوان، رغم اصطناع المودة بينهما، وقد ظل كل فريق يبديها للفريق الأخر حتى اللحظة الأخيرة لظهور نيات الترك واضحة جلية إزاء (الحسين) شريف مكة، وإزاء أولاده أولاً، وإزاء قومه العرب ثانياً، وما كان هؤلاء يضمرون شراً للدولة العثمانية؛ وما كانوا - علم الله - يتمنون زوالها أو الخروج عن طاعتها لولا إنها بادتهم الشر

والواقع إنه كانت هناك جملة عوامل بعضها شخصي، وبعضها قومي، وبعضها ديني ترغم (الحسين) على التفكير فيما فكر فيه قبله عزيز مصر الخالد (محمد علي الكبير) في العمل على وحدة العرب، وضم شملهم، ولم شعثهم، وتأسيس دولة عربية كبرى لهم، تعيد مجدهم التليد، وعزهم المجيد. وهذه العوامل نفسها هي التي أهابت (بالحسين) لركوب هذا المركب الخشن، الوعر المسالك، العويص المرامي واضطرته إلى أن ينقض عهده مع الدولة العثمانية، وساقته إلى محالفة بريطانيا العظمى بعدما عرضت عليه من الشروط الرائعة ما يغري كل عربي، وأعلنت استعدادها لتنفيذ كل ما يطلبه. فأهم العوامل المباشرة للثورة العربية الكبرى إذن هي:

1 - العامل الشخصي

2 - العامل الإقليمي 3 - العامل القومي

4 - العامل الديني

وسنتحدث في مقالنا المقبل عن هذه العوامل مفصلاً فإلى اللقاء

(دمشق)

نسيب سعيد المحامي