مجلة الرسالة/العدد 49/بين المعري ودانتي في رسالة الغفران والكوميدية

مجلة الرسالة/العدد 49/بين المعري ودانتي في رسالة الغفران والكوميدية

مجلة الرسالة - العدد 49
بين المعري ودانتي في رسالة الغفران والكوميدية
ملاحظات: بتاريخ: 11 - 06 - 1934


المقدسة

بقلم محمود احمد النشوي

الوطنية لدى الشاعرين

رأينا فيما عرضنا له من وطنية شاعر الطليان أنه كان يخلق المناسبات ليصدع بشعوره نحو بلاده ووطنه، فيحاور شخصيات وايته في جرائمهم الوطنية، ويتخيل لهم من صنوف العذاب ما تقشعر لهوله الأبدان، وفي الحق أن وطنية دانتي ملكت عليه كل نفسه، وسأقص عليك حديثاً طرز به كوميدتيه، فكان حليتها وزينتها، وسأعرض عليك تلك الأنشودة لتعلم أي حد بلغت به وطنيته، وأي مقدار بلغه النزاع والفشل بين الطليان في عهده، وكم برح بهم الظلم، وهدت من أركانهم الفوضى، ثم تقرن حالهم بالأمس بحالهم اليوم لتعلم أن الأمم تسقم وتبرأ، وتضعف وتقوى، فلا يخالج اليأس نفسك، ويمتد بك الأمل فتوقن باليوم الذي تتبوأ فيه بلادك مركزها تحت الشمس مستعيدة عصر صلاح الدين، وأيام رمسيس.

فبينا دانتي يجوب (الأعراف) مع فرجيل إذا بروح نبيل يرمقهما ملياً، ثم يسألهما قائلا: من أنتما أيها القادمان؟ فيكون تعارف يعقبه عناق، وإذابهذا الروح روح الشاعر سوردلو مواطن فرجيل، ولم يكد يعرفه حتى انتحى به قليلا يحدثه، وبقى دانتي منفرداً يفكر في لقاء المواطن للمواطن، ومحبة ابن الشعب لابن الشعب. فثارت شاعريته، وصدح بما خلدته الأجيال، فقال:

(لك الله يا إيطاليا، أيتها الأمة الذليلة المستعبدة، يا موطن الآلام وميدان المظالم، لقد أصبحت وكأنك سفينة بغير ربان ينقذك وسط هذه الزوبعة، ويقودك إلى شاطئ السلامة وبر الأمان، إن هذه الروح الكريمة قد وقفت تحتفل بمواطنها بمجرد أن سمعت باسم وطنها، بينما أنت لا يستطيع أبناؤك الأحياء أن يعيشوا دون أن يتقاتلوا ويحارب بعضهم بعضا، وحتى أبناء المدينة الواحدة قد أخذوا يتخاصمون ويتنازعون!

أنظري أيتها البلدة التعسة الذليلة، وابحثي في كل بحارك وجبالك ووديانك وفي كل ناحية من نواحيك، فهل ترين جزءاً واحداً يتمتع بالسكينة والراحة والسلام؟ آه. إنك لو قيض الله لك حاكما أو رئيساً حازماً لحسنت حالك، وهدأ بالك، ولكن القياصرة يعيشون بعيدين عن أرضك التي سيئول أمرها لا محالة إلى الخراب والدمار. إن روما تبكي وتستغيث بالإمبراطور، وكل بلاد إيطاليا قد امتلأت بالظلمة قساة القلوب، وفي فلورنسا أصبحت الأحوال أسوأ منها في أي مكان آخر؛ فقد تسن فيها القوانين ولا تلبث أن تلغي بين عشية أو ضحاها، وأصبحت كالمريض الذي ألح عليه الداء، وأعوزه الدواء، وأخذ يتقلب من جنب إلى جنب لكي يخفف من آلامه وعذابه دون أن يشعر بالراحة أو يذوق لها طعما).

أفرأيت إذا كيف كان دانتي حدباً على وطنه يندبه ويبكي انقسامه واضطرابه، وضعف قوانينه وتذبذبها بين الإلغاء والوضع كل عشية وضحاها؟

فلو أنه بعث الآن من مرقده ورأى بلاده اليوم وهي تنعم بالقوة وبالمنعة لقرت عيناه، ولرفأ مدمع كان هتاناً على وطن ملكت فكرته عليه كل شعاب نفسه.

الانتحار في الروايتين

كلا الشاعرين ذم هذا المرض الفتاك، وثار على ذلك الداء الوبيل؛ وما كان شاعر المعرة بالذي لا يعرض للانتحار: يهجنه ويزري به؛ فقد افتن في الزراية به بعبارة احتفل بها، وأسرف في احتفاله، فكانت جد غامضة ومبهمة. وما نحسب أن كثيراً من الأدباء يستشف غرض أبي العلاء دون أن يلحق به كبير من عناء ومن جهد. على أن في تهذيب الأستاذ كامل كيلاني لرسالة الغفران، وفيما حلى به جيدها من شرح وعنوانات، ما يجعل الطريق أمام روادها معبداً شائقاً إلى حد كبير.

ورغماً من أغراب أبي العلاء هنا فانك تراه جانف الخيال، وسلك سبيل الفلاسفة والحكماء؛ فجعل يبرهن ويعلل متخذاً من جهالة الإنسان بمصيره بعد الموت، ومن تقلبات الأيام وابتسامها بعد العبوس أدلة يهجن بها الانتحار، ويقبحه. وإني ذاكر لك شيئاً من قوله في ذلك، فاستمع إليه حين يقول: (قد كدت ألحق برهط العدم، من غير الأسف ولا الندم؛ ولكنما أرهب قدومي على الجبار، ولم أصلح بخلتي بأبار. وقيل لبعض الحكماء: إن فلاناً تلطف حتى قتل نفسه، وكره أن يمارس بدائع الشرور، وأحب النقلة إلى دار السرور. فقال الحكيم قولاً معناه: أخطأ ذلك الشاب المقتبل، له ولأمه يحق الهبل، هلا صبر على صروف الزمان، فانه لا يشعر علام يقدم، ولولا حكمة الله جلت قدرته، وأنه حجز الرجل عن الموت بالخوف من العلز والفوت، لرغب كل من احتدم غضبه، وكل عن ضريبة مقضبه أن تترع له من الموت كؤوس)

أفرأيت في حديث أبي العلاء كيف سلك سبيل الحكماء، وكرر معنى ذكره في لزومايته، ذلك المعنى هو رهبة ما بعد الموت، وصدها عن ورود حوضه حين يقول:

لو لم تكن طرق هذا الموت موحشة ... مخشية لاعتراها القوم أفواجا

وكان من ألقت الدنيا إليه أذى ... يؤمها تاركاً للعيش أمواجا

فما هو سر ذلك وما سببه؟ أكبر الظن أن سر ذلك هو وقوع ذكر الانتحار في الرد على رسالة ابن القارح بعد أن انتهى حديث الفردوس والجحيم. ولقد نرى أبا العلاء يتطاحن خياله، بل يودعه خياله حين يودع الجنان والنيران، وحين يأخذ في الرد على ما جاء في رسالة ابن القارح وما فيها من أشخاص يساجله الحديث عنهم، ويزيد عليه بسطاً في القول، والمساجلة في الشخصيات وفي تواريخها، وفي المذاهب والعقائد أبعد شيء عن الخيال، وأحوج شيء للعبارة البينة في دلالتها، السافرة عن غرضها

ولكن دانتي يحدثنا عن الانتحار وهو في دوره الثاني من الطبقة السابعة في جهنم فأعمل خياله في تهجينه، ووصف عذاب المنتحرين وصفاً يبعث في الجلود قشعريرتها، وفي القلوب هلعها.

وموعدنا بالحديث عن ذلك العدد القادم.

محمود احمد النشوي