مجلة الرسالة/العدد 497/إلى الأستاذ البشبيشي

مجلة الرسالة/العدد 497/إلى الأستاذ البشبيشي

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 01 - 1943



للأب أنستاس ماري الكرملي

(تأخرت في البريد)

1 - تمهيد

أشكرك، يا سيدي الشكر الجزيل الصادق، على مطالعتك لمقالتي التي نشرتها لي (الرسالة)، بخصوص كتاب (الإمتاع والمؤانسة)، وأشكرك شكراً أعظم، على أنك تنازلت فأبديت بعض ملاحظات تتعلق بكلمتي تلك. والآن أستأذنك في إبداء ما عندي من النظرات. وأول كل شيء، أود أن أقول كلمة في تاريخ رسم الحروف في مصر، وهي:

2 - تاريخ رسم الحروف في ديار النيل

كان كتبة وادي النيل، قبل سنة 1275 للهجرة، يختلف بعضهم عن بعض، في رسم بعض الأحرف، ككتابة الأعلام المؤنثة المنتهية بالياء والهاء كأفريقية، أو بالياء والألف كبادوراية، أو بالألف القائمة كبخارا، أو بالألف الجالسة، وهي الألف المصورة بصورة الياء كبخاري أيضاً (على رأى من يكتبها بهذا الرسم)، وكالمهموز الآخر الوارد على وزن التفاعل كالتخاجؤ والتخاجئ، وكان أغلب اختلافهم في رسم الهمزة الواقعة في قلب الكلمة كرؤوس، وبدءوا، ومشؤوم

وسبب ذلك جميعه، أن كل واحد من أولئك الكتبة المصريين، اتخذ له إماماً نحوياً أو لغوياً، وحاول اقتفاء آثاره. ولما كان الأئمة الأقدمون كثيرين، ويختلف بعضهم عن بعض في هذه الأمور، اختلف أيضاً متتبعوهم ومقلدوهم في هذه الأزمان الأخيرة

أما بعد سنة 1275، فقد أخذ الاختلاف يزول شيئاً بعد شيء من بين ظهراني أبناء النيل، أو كاد يزول. وذلك لأن الشيخ العلامة نصر الهوريني وضع رسالة في ذلك العام (المطلع النصرية، للمطابع المصرية)، ووشاها بقواعد لم يتبع فيها إماماً واحداً من أئمة العربية ولغويها، بل جمع بينهم؛ لأن اختياره لهم لم يكن موفقاً ولا دائماً حسناً، فقد خالف أحياناً سيبوبه والحريري والخفاجي وغيرهم من أولئك الأساطين العظام الأقدمين، بل خالف أيضاً ثقات المتأخرين كجماعة الألوسيين: شهاب الدين ونعمان ومحمود شكري، فجاء تأليفه كفلك نوح، الذي كان يحوي زوجين من أطايب الحيوان وخبائثه، أي أن كتابه حوى أطايب القواعد وخبائثها. ومع ذلك راج كتابه أي رواج ولا سيما لأنه تولى تصحيح كثير من أسفار مشاهير الأقدمين، وكانت تطبع في مطبعة بولاق للحكومة المصرية، منذ أن تولى تصحيح ما يصدر فيها، حتى شاع رسم الهمزة في تلك المطبوعات على ما أراد لا على ما كان رسمها المؤلف الأصيل في كتابه

ومما زاد الطين بلة، أن جماعة ممن جاء بعده من المؤلفين أصدروا كتباً للمدارس، فأشاعوا وأذاعوا تلك القواعد التي سورها الشيخ الهوريني بأسوار من فولاذ، بل أقوى وأصلب، فكانت الطامة الكبرى ولا سيما جاء الشيخ العلامة حسين والي وكان ينتظر أن يصلح ما أفسده سلفهُ، لكنه تابعه في جل قواعده، ألم نقل في كلها، وسمى تأليفه (كتاب الإملاء) (كذا)، مع أنه كتاب الرسم، إذ الإملاء بهذا المعنى من كلام الترك واصطلاحهم. لا من كلام العرب، كما كتب لي بذلك المؤلف نفسه في كتاب أحفظه، وكان جواباً على ما بينته له. فسارت تلك القواعد سير النار في هشيم التين بين جميع المعلمين والمتعلمين، وهي لا تزال سائرة إلى هذا اليوم الذي نكتب فيه هذه الكلمة

إلا أنه - والحمد لله - قام مناوئاً للعالمين أعظم لغوي فخالفهما، وهو الشيخ محمد بن أحمد بن محمود التركزي المشهور بابن التلاميد (بدال مهملة في الآخر)؛ الشنقيطي: المغربي الأصل، فإنه تولى طبع (المخصص) لابن سيده (بهاء محضة في الآخر)، وعلق عليه حواشي هي درر بل دراري، فزاد قدر المخصص في عيون الناس زيادة لا تضاهي في شيء، وقد رسم الهمزات في مواطنها، كما يجب أن ترسم على مذهب السادة الأئمة الفصحاء كسيبويه وابن الأنباري وابن جني والحريري والخفاجي وإضرابهم في هذا الأوان كأبناء الألوسي والزهاوي والرصافي

وقد اتفق للشنقيطي أن فند بعض الأحيان تفنيداً فلسفياً وبصريح العبارة، كلام الشيخ الهوريني وزيف أقواله، وبذات الوقت لم يوافق على رأى الشيخ العلامة حسين والي، ونحن نورد لك هنا نموذجاً مما قال، وقد عثرنا عليه نبهاً، وقد جاء ذلك في المخصص 178: 8

3 - الآئب لا الآيب (آئب، الصواب أن يكتب بالهمزة بعد المد على قاعدة إبدال عين فاعل، لمعتل فعله همزة، وهي قاعدة مطردة لم يستثن منها حرف واحد بالإجماع. وقد عد في المغنى من اللحن قول الفقهاء: (بايع) بالياء غير مهموز. ولا عبرة بما كتبه الشيخ نصر الهوريني في مطالعه، حيث ذكر في صحيفة 48 (من الطبعة الأولى وص 71 من الطبعة الثانية) حكم الهمزة المكسورة المصورة ياء، وقال هناك: (نعم، إذا كان قبلها ألف نحو آبل وآيس وآيب، تبدل ياء حقيقية بمقتضى القياس الصرفي في نظير ما قالوه في جمع ذؤابة على ذوائب، حيث لم يجمعوه على أصله ذائب. وقد ورد من حديث الصحيحين قوله : آيبون تائبون عابدون. ولم يروه أحد بالهمزة) انتهى لفظه بحروفه وهذا كله خطأ مخالف للقياس والرواية، فلا يجوز التعويل عليه. ونحو ذوائب في جمع ذؤابة مما شذ عن القياس، والشاذ لا يقاس عليه. والدليل على صحة ما قلته من إثبات همزة آئب وتحقيقها قول النابغة:

تطاول حتى قلت ليس بمنقض ... وليس الذي يرعى النجوم بآئب

وقول ابن زيابة:

يا لهف زيابة للحرث الصابح فالغانم فالآئب

وقول تأبط شراً:

فأبت إلى فهم وما كدتُ آئباً

وقول الأخنس بن شهاب:

تطير على أعجاز حوشٍ كأنها ... جهام هراق ماؤهُ فهو آئب

ونحو هذا كثير مما أجمعوا على روايته بالهمزة فقط. وكتبه محققه محمد محمود لطف الله به. آمين.

إلى (آمين) هو كلام الشيخ الشنقيطي العلامة الأكبر، وهو في الوقت نفسه يرد على الشيخ حسين والي. وقد ورد كلامة مثل كلام الشيخ الهوريني في ص192 من الطبعة الثانية من كتاب الإملاء فلا حاجة لنا إلى نقله على غير جدوى.

4 - رؤوس. يبدءوا. مشؤوم. شؤم. شأم قال الحريري في درة الغوّاص، طبعة الجوائب في سنة 1299 في قسطنطينية في ص128

(فأما سؤول، ويؤوس، وشؤون، ومؤونة، وموؤودة، فالأحسن أن يكتبن بواوين، ومنهم من كتبها بواو واحد) اهـ ولم يقل وترسم مفردة أو على نبرة إذا لم يكن فصل ما بعدها عما قبلها كما في مشئوم، وكما قال حضرة أستاذي المحترم محمود البشبيشي

ومثل كلام الحريري، قال الشيخ الأجل الآلوسي في كتابه (كشف الطرة من الغرَّة في ص468)

فيؤخذ من كلام الحريري والآلوسي أن الهمزة إذا وقعت في قلب الكلمة، فإن كانت متحركة، كتبت على حرف علة يجانس حركة ما قبلها كما في رؤوس. وعليه تكتب (يبدءوا) على الألف لهذا السبب نفسه لأن حركة الدال فتحة.

أما مشؤوم فقد قال في التاج في مادة (ش أم): وشؤم عليهم ككرم ويَمن. . . ورجل مشؤوم، بالهمزة على مفعول، وكذلك يَمُنَ عليهم فهو ميمون. ومشؤم، كمقول والجمع مشائيم، نادر وحكمة السلامة. . .) والذي ورد مطبوعاً (مشؤم) وهي - ولاشك في النادر - من الناشر لا من المؤلف، لأن هذا يقول: بالهمزة على مفعول، وفي مفعول خمسة أحرف، فإذا كتبناها (مشؤم) كانت الأحرف أربعة، فظهر الخطأ من الطابع أو من الناشر، ولم يكتبها أحد من العلماء الثقات الإثبات (مشؤم على وزن مفعُل بضم العين، لأن هذا الوزن نادر في كلامهم وليس مشؤم منه.

فتكون القاعدة: إذا وقعت الهمزة متحركة في الوسط وسكن ما قبلها كتبت على حرف علة يجانس حركتها. ولما كانت حركة مشؤوم ضمة كتبت على الواو، وهي غير واو مفعول الملازمة له

أما إذا كانت الهمزة الواقعة في الوسط ساكنة فترسم على حرف علة يجانس حركة ما قبلها. فتكتب شؤم على الواو، وشأم على الألف، وبئس على الياء. وهذا كل ما يقال في رسم الهمزة الواقعة في الوسط

وقد تكلم الشيخ نصر الهوريني على الهمزة في كتابه المطالع النصرية في 44 صفحة، وبعد أن يتم القارئ الوقوف عليها، يقول في نفسه: هل عرفت كيفية رسم الهمزة؟ أما الشيخ أحمد فارس الشدياق، فقد تكلم عليها وعلى مواطنها من الكلم في كتابه (غنية الطالب) المطبوع في قسطنطينية سنة 1289 في 13 سطراً لا غير. ونحن ننقل هنا نصه ليطلع عليه من لا يملك الكتاب. وهذه هي وقد جاءت في آخر ص31 وبلء 32:

(إن كانت الهمزة في الابتداء كتبت بصورة الألف دائماً نحو أنصر وأضرب وأكرم. وإن كانت متوسطة ساكنة كتبت بحرف يجانس حركة ما قبلها، نحو: يأس وبؤس وبئس. وإن كانت متحركة وما قبلها ساكن نحو: يسأل ويلؤم وييئس، لغة في ييأس بمعنى يقنط، أو كانت متحركة وما قبلها متحرك نحو سأل ولؤم وبئس

وإذا كانت متطرفة، فإن كان ما قبلها متحركاً كتبت بحرف حركته نحو: قرأ وقرئ وقمؤ. وإلا فتكتب من دون حرف، نحو وبلء وجزء

وإذا وقعت همزتان ثانيتهما ساكنة قلبت ألفاً لينة وكتبتا بصورة المد نحو: آمن أصله أأمن على وزن أفعل. وأهل الغرب يكتبون الهمزة منقطعة وبعدها ألف نحو ءامن. وكذلك إذا وقع بعد الهمزة ألف نحو: المآكل جمع مأكل

وإذا اجتمع همزتان متحركتان، جاز لك أن تفصل بينهما بألف نحو آأنت أم أُمْ سالم. أما ماضي مهموز اللام المثنى فيبقى كتبهُ بألفين نحو قرأا

وللهمزة أحكام كثيرة قد أختلف فيها أهل الرسم؛ ولو أنها رسمت من الأصل بصورة معلومة خاصة بها، لما نشأ من هذا الخلاف) انتهى كلام الشدياق

والسوريون المعاصرون، والعراقيون واللبنانيون جروا ويجرون على هذه القواعد المذكورة هنا، وهي أيضاً قواعد الحريري والخفاجي والآلوسي والشدياق، ولا يخالفونهم في شيء

وإذا كان ثم من يجاري كتاب وادي النيل، فهو لأنه تعلم في مدارس أبناء مضر من المصريين، وطالع أشعارهم فخالف بذلك أهالي وطنه وعلماءه، من عهد غير بعيد

والآن، وقد بسطنا كل ما يهم القارئ في هذا الموضوع فهل يستطيع الأستاذ البشبيشي أو غيره من العلماء أن يأتي لنا بنص صريح يرتقي إلى أربعمائة سنة أو تدوينها وفيه نلغي رسم الهمزة وحدها في حشو الكلمة في أي حال من الأحوال، ويكون النص لعالم ثبت ثقة يعتمد عليه. فإننا نتحداهم حاق التحدي!

يا سيدي الأستاذ البشبيشي، إننا نعلم العلم اليقين، أن أسلافنا العرب كانوا فلاسفة إجلاء في سليقتهم، حتى في قواعدهم الصرفية، والنحوية واللغوية، فهي تتدفق منطقاً، وفلسفة، وحكمة؛ ونظن أن الذي حملهم على أن يرسموا الهمزة الواقعة في قلب الكلمة على حرف، هو أنهم شبهوها بحشو البطن، أو بقلب الإنسان. فكما أن الأحشاء لا تكون وحدها، بل تقع بين الصدر والطرفين، أي الرجلين، كذلك الهمزة لا تكون وحدها، بل تقع على ما يسندها بصدرها وطرفها

أفبعد هذه الفلسفة أو الحكمة العميقة، والواضحة لكل ذي عينين نيرتين من يدم أحكام العربية وقواعدها؟ - فإذا كان هناك من يفعل ذلك، فهو من الشعوبية وأعدى أعداء العرب كهتلر ومصوليني!

ونظن أن في هذا القدر في هذا الموضوع، مجزأة، بل مكرهة لكل قارئ. فالعفو يا سادتي الكرام، والمغفرة من شيم العرب الفخام!

(البقية في العدد القادم)

الأب أنستاس ماري الكرملي

من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية