مجلة الرسالة/العدد 497/رفيق الصبا
مجلة الرسالة/العدد 497/رفيق الصبا
للأستاذ محمد مندور
ها أنا اليوم أتماسك فأستطيع أن أذكر رفيق صباي الدكتور محمد الشحات أيوب الذي نقلت إلى الصحف خبر وفاته. ولقد بكاه قلبي فكان البكاء رحمة من الله وقد أوشكت حياتي أن تختنق ضيقاً بوفاته.
أيوب رفيق صباي منذ مدرسة الألفي الابتدائية بمنيا القمح سنة 1917 إلى آخر عهدنا بتحصيل العلم سنة 1939 بباريس.
وهو زميلي في دراستي، كان يحب كما أحب حضارة اليونان لأنها تسمو بالروح إلى أفق لا يمكن أن يدركه إلا من يصل إليه بنفسه بعد جهد طويل. ولقد علقت روحه بمثل اليونان: الخير والحق والجمال، فأبغض الظلم والشر والقبح. من لي اليوم برفيق سواه؟ كنت ألقاه فنرفع من قلوبنا بذكر من نحب من كتاب تلك الحضارة المشرقة. ولقد عرف أيوب كما عرفناه مرارة الظلم الذي ينزله الجهل بالنفوس الخيرة. ولقد تعزى أيوب كما تعزينا بالقيم الروحية. ولقد جاهد أيوب معنا لأننا عقدنا العزم على أن نكسب النفوس بأيماننا. وهاهو أيوب يغادرنا ونحن لم نكد نبدأ الشوط. أيها الأخ الراحل: لقد كنا بحاجة إليك. ها أشعة الأمل تشرق في الأفق البعيد. عزيز على نفسي أن نستأثر بنصيبك فيها. اللهم أملأ قبره ضوءاً. اللهم اهد إليه ضوء قلوبنا.
قد يجهل الناس أيوباً، فهل لي أن يصدقوني إن قلت إنه أمل خبا، أمل قوي لا أعرف أملاً يساويه. لقد كان أيوب (مدرس) التاريخ القديم بجامعة فؤاد الأول (أستاذاً) منقطع النظير. كانت له قدرة عجيبة على البناء التاريخي. كنت تراه يجمع مواده لا من ملخصات التاريخ بل من مصادر التاريخ. وكان رحمه الله يعلم ويحس أن التاريخ قصة نفاذ الروح البشرية إلى العالم والكائنات، ولهذا كان يتتبع مسارب تلك الروح في مظانها. مصادر التاريخ عنده كانت تماثيل فدياس وبراكستيل، خطب بركليس وديموستين، مسرحيات سوفكليس وأربيدس، ملاحم هوميروس، وأغاني بنداروس، قصص هيرودوت، وتحليل توكيديدس. التاريخ عنده كان شيئاً واحداً: الروح البشرية في مظاهرها المتعددة. جاءني يوماً يطلب إلى رواية الفُرس لأيسكيلوس ليتخذها مصدراً من مصادر المعرفة الحقة. المعرفة الإنسانية بمعركة سلامين.
درس أيوب التاريخ بمصر فكان الأول بين أقرانه؛ وأرسل أيوب في بعثة إلى باريس ثماني سنوات حيث أخذ العلم عن جلوتز وجنبير وسينوبوس وأمثالهم ممن تتطأطأ لهم الهامات في العالم أجمع. ولم يكتف بتحصيل المعرفة من بطون الكتب وأفواه الأساتذة بل ذهب عاماً كاملاً إلى بلاد اليونان يقلب آثار الماضي المجيد ويستنطق الحجارة. وعاد أيوب إلى مصر بعد أن طوف بدلف وديلوس وفيليب وأولمبي وقد انصهرت المعرفة بنفسه فإذا بالتاريخ القديم عنده كذكريات حياته الخاصة يحدثك عنه في طلاقة وحرارة وقوة فيكسبك.
عجيب أن يموت أيوب! عجيب أن يجف هذا النبع قبل أن يتدفق! لقد حاضر أيوب بالجامعة ثلاث سنوات فقط. لكن سل زملاءه، سل تلاميذه وهم موضع أمله، سلهم يخبروك عن هذا العالم الثبت الذكي الفؤاد الفصيح اللسان. لقد أخصب أيوب نفوساً سيتذكره بالرحمة.
لم يتوان أيوب عن أداء رسالته. ولقد عقد العزم ونحن معه على أن نؤديها، تنكر الناس أو رضوا، ظلموا أو أنصفوا. ولقد أحس بالظلم تكوينا ناره فصمد له وشمر عن ساعده فترجم جزءاً هاماً من (تاريخ مصر) لهانوتو، ذلك الكتاب الضخم الذي وضعته جماعة من علماء فرنسا بتكليف من ملكنا العظيم فؤاد الأول رحمه، ورأت وزارة المعارف أن تنقله إلى لغتنا، فأدرك بعض رجالها أن أيوباً في طليعة من ينهضون بهذا العمل الجليل الشاق
وقالوا إن المرء لا يثبت علمه إلا إذا كان (دكتوراً)، وكان أيوب يعد رسالة أصيلة باللغة الفرنسية عن تاريخ طيبة اليونانية. وقسموا على أيوب فلم يرد أن ينتظر حتى تسكن الحرب، فيقدم رسالته إلى السوريون بل قدمها إلى جامعة فؤاد الأول، فإذا به يمنح أعلى درجة تعرفها جامعتنا. وهذا ليس موضع فخارنا بأيوب، وإنما نفخر بأنه استطاع أن يتمتع بصداقة أستاذنا جميعاً البروفسير جوجيه أستاذ التاريخ القديم بجامعات فرنسا سابقاً ومدير المعهد الفرنسي بالقاهرة في السنين الأخيرة، والذي كان من حظ جامعة فؤاد الأول أن تنتدبه للتدريس بها. لقد كان البروفسير جوجيه ولا يزال يعز أيوباً بل يحبه حب تقدير لعلمه وإخلاصه وتفتح نفسه، وكان يخصه دائماً بالثناء. وكانت محبة البروفسير لتلميذه وزميله محبة فعالة لأنها قامت على أساس شريف: أساس العلم. فكنت تراه يعين أيوباً على كل أموره. صغيرها وكبيرها. عامها وخاصها. كم اهتزت نفسي لنبل هذا الأستاذ الكريم إذ حدثني أصدقاء القاهرة أن البروفسير جوجيه لم يتخل عن أيوب أثناء مرضه ولا نسيه بل تردد عليه في كل حين وأعانه على تلقي الموت بروح مطمئنة
وأحس أيوب أن ضعف المؤلفات العلمية من أكبر أسباب انحطاط التعليم ببلادنا لاشك فيه، فأخذ نفسه بوضع مؤلفين أحدهما عن النظم اليونانية والآخر عن النظم الرومانية. ولقد افترقنا منذ أشهر، فلم أدر إلى أي مرحلة وصل في كتابيه، ولكنني على ثقة من أنه قد خطا بهما خطوات واسعة، لأن أيوبا كان عقلاً نشيطاً، وكان إذا قال نفذ وإذا وعد صدق. ترى ما مصير هذه الكتب؟! إن كاتب هذه الأسطر يعتبرها نعمة من الله أن يستطيع ترتيب المواد وإتمام التفاصيل وإيضاح الغامض والإشراف على نشر تلك الأبحاث القيمة التي خلفها رفيق صباه؛ وكلي أمل أن الجامعة والوزارة ستقدران قيمة هذه الأشياء فترصد المال اللازم لإذاعتها بين الناس
يجب أن ننشر رسالة الدكتوراه لأيوب، والجزء الذي ترجمه أيوب من هانوتو، ومذكرات أيوب ومقالاته. هذه كنوز. وقد ذاق أيوب المر في حياته، فهل لنا أن نكفر عن ذلك بالإحسان إلى ذكراه؟
أما حزني على هذا الصديق فأعز من أن يحتويه لفظ. اللهم ارحمه!
أيها الصديق الراحل! سنجاهد كما جاهدت حتى نلحق بك. سنظل كما عهدتنا جنداً في خدمة الروح. إلى اللقاء.
(الإسكندرية)
محمد مندور