مجلة الرسالة/العدد 5/العلوم
مجلة الرسالة/العدد 5/العلوم
أسرع كمرة في العالم
صورة تؤخذ في جزء من 40000 من الثانية
إذا أردت أن تصور جسما ثابتا، كتمثال من الحجر، كفاك في ذلك أن تثبت أمامه كمرة غاية في البساطة، تتكون من خزانة مظلمة، بسطحها القريب من التمثال عدسة تركز الأشعة المنبعثة منه على فلم حساس في السطح المقابل من الخزانة، فترتسم عليه الصورة المرغوبة. ثم يستخرج الفلم في الظلام ويثبت بالطرق المعروفة. ومن أهم الأمور التي يراعيها المصور مدة التجلية أي مدة تعريض الفلم للضوء، وهي تتوقف على أمرين: أولهما درجة إحساس الفلم، وثانيهما شدة الضوء الذي ينير التمثال. وفي المثل الذي نحن بصدده يكفي أن يغطي المصور عدسة هذه الكمرة البسيطة بورقة مقواة سوداء، فإذا حان وقت التصوير جلى عن الفلم مدة ثانية أو ثانيتين أو ثلاث أو أربع حسب ضوء الشمس الحاضر، وذلك بإزاحة الغطاء ثم رده سريعاً إلى مكانه.
هب بعد ذلك أنك تريد تصوير رجل من لحم ودم، وهب أنك وقفته مكان التمثال وجليت عن الفلم ثلاث ثوان أو أربع، فهل تدري ما الصورة التي تخرج لك؟ صورة مغبشة على الأغلب لأن الإنسان ليس له سكون الحجر، فهو لا يستطيع صبراً على الوضع الواحد، فيتحرك فيتخذ أوضاعا كلها ترتسم على الفلم فتخرج الصورة مبهمة الحدود متضاعفة الخطوط مختلط بياضها بسوادها. فتجد نفسك عندئذ في حاجة إلى تقصير مدة التجلية حتى لا يتحرك الرجل، ومعنى هذا أنك بحاجة إلى زيادة حساسية الفلم، ومعنى هذا أيضاً أنك بحاجة إلى زيادة شدة الضوء، فبدل أن تصور في نور الصباح الأول أو في نور المساء الأخير، تصور والصباح ضاح مشرق، وعندئذ تكفيك بعض الثانية عن الثواني الكثيرة.
هب بعد هذا أنك تريد أن تصور رجلا وهو يسير، أو حيوانا كقطة أو كلب لا تستطيع أنت أن تريده على السكون، أو هب أنك تريد أن تصور حصانا وهو يجري، أو طائرا إذ يطير، أو قطارا ينهب الأرض، فقد لا تنفعك تجلية الفلم ثانية أو عشر الثانية، فالقطار الذي يسير بسرعة 60 كيلومتراً في الساعة يقطع في الثانية الواحدة نحو من 17 مترا. فانظر كم صورة تنطبع عندئذ على الفلم في الثانية الواحدة، وتخيل مقدار تغبش الصورة الحاصلة.
فكان لا بد من تقصير مدة التجلية تقصيرا كبيرا كان تكون مدة التجلية جزءا من مائة من الثانية أو من مائتين، ولما كانت اليد الإنسانية لا تستطيع كشف العدسة وتغطيتها بهذه السرعة كان لا بد من ابتداع غطاء تحركه قوة آلية كقوة الزنبركات مثلا، وتدخلت الكيمياء لتزيد في حس الأفلام لكي تتأثر بالضوء في المدة القصيرة الجديدة. وتقدم الإنسان في اختراع الكمرات السريعة حتى أصبح تصوير المتحركات أمراً سهلا لا يكلف تعبا ولا إجهادا، وأصبح مألوفا حتى لا يثير استغرابا ولا إعجابا. وصرنا نحلل بها حركات الحيوان لنعرف منها تفصيل سيره، ونحلل حركات الطائر لندرك منها كنه طيره، وصرنا نجمع هذه الوحدات التي تحللت إليها الحركة، والعناصر التي تقسمت إليها أفعال الحيوان والإنسان، فنعرضها على الشاشة البيضاء متتابعة متواصلة، فنحكي من حوادث الوجود ما نشاء أين نشاء ومتى نشاء.
ولكن من حوادث الوجود ما يحدث في مدد قصيرة تنافس العين في لحظتها والخاطر في لمحته، فلا بد من تقصير مدة التجلية إلى ما يسبق لحظة العين ويقاصر لمحة الخاطر، وإذن فلا بد من الزيادة في حساسية الافلام، ولا بد من زيادة الضوء حتى يزيد على ضوء الشمس، فجد الباحث بعد الباحث، وعاون المفكر المفكر، وتضافر الطبيعي والكيميائي، والرجل النظري والرجل التطبيقي؛ حتى جاءت الأنباء حديثاً بأسرع كمرة عرفها الزمن، كمرة إذا صدقت الأخبار العاجلة تصور الصورة في جزء من أربعين ألفا من الثانية، اخترعها أستاذان من أساتذة معهد الصناعات بماساشوسيت بالولايات المتحدة، وهي تعتمد بالطبع على فلم شديد الحس، ولكن اكبر اعتمادها على دورة كهربائية تستطيع أن تحدث برقة ضوئية أسطع من شمس الظهيرة مرات وهي تعدل في شدة ضوئها 40000 مصباح كهربائي مركزة كلها في صعيد واحد، قوة الواحد منها خمسون واطاً.
وقد استطاعا أن يصورا بها أموراً عدة لا تستطيع أن تصورها الكمرات السريعة المعروفة، نذكر من ذلك صورة للماء النازل من الصنبور، فهذا يخرج تحت ضغط وتسير قطراته في السيل المندفع بسرعة كبيرة، وإلى هذا فهي تتحرك في كل جهة بحركات تختلف سرعاتها باختلاف تدافع القطرات واتجاهها، وتراها في الصورة المرفقة كأنما قال لها الله اجمدي مكانك فجمدت، وتراها على غير ما تراها العين من الانسجام والملاسة.
ومن ذلك صورة للمضرب إذ يضرب به اللاعب الكرة في اللعبة المعروفة بالجلف، فأنك ترى الكرة المصنوعة من المادة الصلبة القوة قد انبطحت من قوة الضربة؛ ولأن انبطاحها لا يستغرق الا جزءاً من الثانية في غاية الصغر كان من المتعذر على العين أن تراه؛ وكان من المتعذر على الكمرات العادية أن تسجله. وبقي أمراً مفروضا حتى أتت الكرة السريعة فجعلته رأى العين، والعين جهيزة الحجج، إذا رأت قطعت قول كل خطيب.
على أنه لا يفوتنا أن ننبه إلى أن كل صورة لشيء متحرك، مهما كان نوعها، وبأي كمرة صورت، ما هي الا مجموعة من صور لا حصر لعددها. هب أنك أخرجت يدك من جيبك فوضعتها تحت ذقنك؛ وهب أن هذا حدث في ثانية واحدة، فأنك لتجد يدك اتخذت عدداً من الأوضاع لا حد له. فما دامت يدك في حركة مستمرة ففي كل أجزاء الثانية، مهما صغر، وضع خاص به يختلف عن وضع الجزء الذي يليه من الثانية، ومن الطبيعي أننا كلما زدنا في التجزئة قل الخلاف بين أشكال هذه الأوضاع العديدة حتى تعجز العين الإنسانية عن إدراكه. فصور الكمرة السريعة المرفقة هي في الواقع عدة من صور عجز حس الإنسان عن إدراك الفروق بينها، فحس الإنسان لدقائق المكان محدود، كما أن حسه لدقائق الزمان محدود.
ولعل هذا التثلم في الإحساس نعمة من نعم الله، ولو أن هذه الحدة في الإحساس بالزمان والمكان أعطيت لي هبة لترددت كثيراً في قبولها، لأني إن قبلتها لم أجد في الكون شيئا ناعماً، حتى أكثر المرايا انصقالا تصبح في عيني كسطح الصخرة المتهشم، ولأني أن قبلتها تراءت لي الدنيا تموج بمخلوقات أنا الآن عنها أعمى، وتكشف لي في طيات الدنيا التي أعرفها وفي حواشيها دنى أنا سعيد بجهلها، ولأني أن قبلتها لم يكن للفظة السكون موضع من قاموس لغتي، ولأصبحت أحس في هدوء هذا الليل وأنا أكتب هذه الكلمة على مكتبي هذا الساكن، وفي حجرتي هذه الهادئة كأني اكتبها في عربة رجراجة من عربات الترام إذ تمر نهاراً في أشد أحياء المدينة صخباً وجلبة، وأخيراً لأني أن قبلتها وقبلت زيادة الإحساس بالزمن أصبحت ثانيتي ساعة وأصبحت ساعتي سنة وسنواتي ألوفاً.