مجلة الرسالة/العدد 500/الحديث ذو شجون
مجلة الرسالة/العدد 500/الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
مقاومة التدخين - أين (الرسالة)؟ سنعرف الأدب في أيام الشدة
كما عرفنا في أيام الرخاء
مقاومة التدخين
في العام الماضي قام الدكتور شخاخيري بتأليف رابطة لمقاومة التدخين، ومضى يستهدي المفكرين والمؤلفين والوزراء كلمات في استنكار التدخين. ولم يكتف بذلك، وإنما اندفع فنظم سلسلة محاضرات في (دار الحكمة) دعا إليها أشهر المحاضرين ليقاوم آفة التدخين
والدكتور شخاخيري رجلٌ مخلص، ودعوته هذه تستحق التأييد، ولكنها معرّضة لأخطار سأنص عليها في هذا الحديث لأهدم الأساس الذي قامت عليه، ولعل الله يتفضل فيكتب لي النفع مما تعلمت، لأنني مع الأسف من المسرفين على أنفسهم بالتدخين
شاع وذاع أن الدخان يشحذ الفكر، ويوقظ الذهن، ومن أجل هذا كثر المدخنون من الشعراء والكتّاب والسياسيين، حتى صار من المألوف أن نرى صور الساسة والوزراء وفي أفواههم السجائر النحاف أو السمان، حتى صار من العسير أن نتصور شاعراً أو زعيماً خلت حياته من عبق الدخان
لن أقف موقف الواعظ في دفع هذه الآفة، ولكني سأقف موقف المؤرخ، ثم أترك الحكم للقراء فيما سأسوقه من البينات
أول أمة عريقة في التدخين هي أمريكا القديمة، أمريكا الأمريكية، لا أمريكا الأوربية، أعني أمريكا التي سبقت عهد كولمبوس، وسبقت عهد الاتصال بالأوربيين والأسيويين
فما الذي استفادت أمريكا القديمة من التدخين؟ هل فتق أذهان أهليها إلى ألوان من الفكر والعقل والبيان؟ هل جعل لأهليها ماضياً في رفع دعائم الحضارة الإنسانية؟
كلا، وإنما تركها التدخين أمة بلا تاريخ
وأقدم الأمم في رفع راية العقل هم المصريون والبابليون واليونانيون، فهل عرف هؤلاء التدخين حتى ننسب رقيهم إلى هذا المرض الفظيع؟ وهل عرف العرب التدخين حتى نرد السبب في تفوقهم إلى الدخان؟
هل دخن الجاحظ والغزالي وابن رشد والبحتري والمتنبي وأبو فراس؟
أترك التاريخ القديم وأذكر شواهد قريبة جداً من تاريخ مصر الحديث:
أعظم كاتب سياسي بإجماع الآراء هو المرحوم عبد القادر باشا حمزة، ولم يكن يدخن أبداً، وما أذكر أني رأيته طلب فنجان قهوة في أي وقت وهو يكتب أصعب المقالات
ومن عظماء كتابنا الأستاذ الزيات والأستاذ العقاد، وهما لا يعرفان التدخين. وهذا كلام لا يكاد يصدقه القارئ، ولكنه الواقع، ولا حيلة في إنكار الواقع
ولو أن الله أراد أن أنتفع بما تعلمت لتذكرت أني ألفت كتاب (الأخلاق عند الغزالي) وكتاب (النثر الفني) قبل أن أعرف التدخين، فمتى أنتفع بما تعلمت؟
أما بعد فقد دعاني إلى كتابه هذه الكلمة حوادث أغضبتني، لأن فيها دعاية إلى التدخين، وهو مرض يفتك بشبان هذا الجيل
الحادث الأول: في الأسبوع الماضي وقف الأستاذ زهير صبري يستجوب الحكومة في مجلس النواب عن تسعير الحاجيات الضرورية، فلما وصل إلى السجائر قال: إن السجائر قد غلت مع أن (كيف) القهوة والشاري لا يحلو إلا بسجارة (؟!) فهل فاته أن هذا الكلام إيحاء بأهمية السجائر في الحياة اليومية
الحادث الثاني: قي الأسبوع الماضي أيضاً (تفضلت) الإذاعة اللاسلكية فأذاعت أغنية تنطق بفضائل السجائر، أغنية منقولة عن أحد الأفلام السينمائية
وأنا سأثبت هذه الأغنية في هذا الحديث لغرض واحد: هو تأريخ الحياة الأدبية، فما يجوز لمؤرخ الأدب أن يترك شيئاً بلا تقييد، ولو كان في الدعوة إلى الدخان. وسأدعو الإذاعة اللاسلكية بعد ذلك إلى التفرقة بين جو الرواية وجو الغناء
عنوان الأغنية (خد سجارة وهات سجارة) وهي من الشعر الملحون:
السجارة في الحياة زّيي أنا ... تِتْحرق يضحي روحها لأجل غيرها
عمرها في الدنيا ما شاقت هنا ... تحيا بين النار عشان يرتاح ضميرها
خد سجارة، وهات سجارة
السجارة إن كنت يوم حتْدوق حنانها ... تلقي نفسك في حياة غير الحياةْ تلقي طيف اللي تحبه بين دخانها ... لما فكرك يبقى سارح في هواه
خد سجارة، وهات سجارة
أنت زعلان؟ خذ سجارة، خذها مني ... يا لله ولَعها واطفي الشوق بنارها
أنت تبقى في جوها عايش مهني ... والسجارة تبقى زيي في مرارها
خد سجارة، وهات سجارة
السجارة لما تيجي وتواسيك ... تنكوي بتارك ومن شوقك تبوسها
هي بتْصون الجميل حرام عليك ... بعدما تحرقها بالأقدام تدوسها
خد سجارة، وهات سجارة
وهذه القطعة قوية جداً في الإبانة عن الغرض الذي نُظمِت فيه، ولكن محطة الإذاعة تنسى أن ما يبيحه جو الرواية لتصوير إحدى الحالات النفسية لا يباح عرضه على جماهير بريئة يؤذيها الإيحاء بجمال الدخان
جو الرواية المسرحية أو السينمائية قد يدعو إلى تجميل إحدى الرذائل ولكنه قد يسوق بعد ذلك عبرة تقتل السم الذي بثه المنظر الأول، وبهذا يتعادل النضال بين السم والترياق
فما عذرُ محطة الإذاعة في أن تبثّ داءً بلا دوار؟
الحادث الثالث: رأيت في أحد الأفلام ممثلاً يدخن بإسراف مع أنه صديق أعرفه منذ سنين، وهو يبغض الدخان، فلما سألته عن السبب أجابني بأن الأفلام المصرية تجعل الناس جميعاً مدخنين فما هذا الذي نرى؟
أنُزّور الحياة المصرية لتشابه الحياة الأمريكية؟
أنكذب على الواقع في سبيل الفن، مع أن غاية الفن هي أن يجسم المحاسن والعيوب، حين يراد به تهذيب الأخلاق؟
اللهم حوالَيْنا ولا علينا!!
أين الرسالة؟
حدثت قرائي مرة أني رفضت أن تُهْدى إليّ الرسالة، لأني أجد أنساً في اشترائها من السوق، كأني أوجه تحية إلى صاحبها الصديق. وبالأمس انقبض صدري حين حدثني باعة الجرائد أنها احتجبت لعدم وجود الورق، ثم لطف الله فعرفت بعد ذلك أنها اكتفت بطبع كمية بقدر عدد المشتركين، إلى أن يأذن الله بالورق الذي يساعد على أن تغمر السوق من جديد. ليتني اشتركت في الرسالة!
هل خطر في بال من تهمهم سمعة مصر الأدبية في الشرق خاطر احتجاب الرسالة عن الأسواق؟
هل آذاهم أن يقال إن مجلة مثل الرسالة لا تجد قوتها من الورق مع أنه قوت مبذول لمنافع قد تضر بسمعة مصر في أنظار من لا يعرفون غير الجد الصريح؟
ليست الأزمة أزمة الورق، فهو موجود، وإنما الأزمة تنحصر في انعدام التعاون والتساند، هي أزمة الأدب اليتيم الذي لا يسأل عنه أحد حين يغيب!
هل صلصل الهتّاف في بيت الأستاذ الزيات من إحدى الجهات للسؤال عن الأسباب التي حجبت الرسالة عن الأسواق؟
أكان يجب ألا تقتصر الرسالة على الأدب الصرف لتجد من يسأل عنها حين تحتجب؟
سنعرف طاقة الأدب في اجتياز هذه المحنة العاتية. وإن اقتضى الأمر أن نرجو الحكومة أن تسمح بإذاعة محصول الرسالة عن طريق المذياع فسنفعل
أيها الأدب
أنا غير خائف على مصيرك، وهل كانت هذه أول محنة صارعتَها وصارعتْك حتى أخاف عليك؟
لا تصدِّق أيها الأدب أننا سنفرّط في استقلالك بأي ثمن، ولا تتوهم أننا سنتخلى عنك بما يسمونه الظروف أو الصروف
سنعرفك في أيام الشدة، كما عرفتنا في أيام الرخاء، والله وليّ الصابرين.
زكي مبارك