مجلة الرسالة/العدد 504/الحكم الذاتي في المدرسة
مجلة الرسالة/العدد 504/الحكم الذاتي في المدرسة
للأستاذ السيد يعقوب بكر
- 2 -
ولنتكلم الآن عن مجالات الحكم الذاتي
فنحن يمكننا أن نعتبر البيت في المدرسة الداخلية أحسن مجال يمكن أن يصطنع فيه الحكم الذاتي. فالبيت من جهة أضيق من أن يعجز بعض أفراده عن تدبير أمره تدبيراً محكماً، والحياة فيه تقدم أكبر قدر من وجوه النشاط المختلفة التي يمكن للتلاميذ أن يتخذوا منها ميداناً لتدبيرهم وتنظيمهم
وهناك مجال آخر من مجالات الحكم الذاتي هو الفصل المدرس والمآخذ على هذا المجال تتلخص في أن الأغراض التي يرمي الفصل إلى تحقيقها أولاً وقبل كل شيء تخرج من مجال الحكم الذاتي كثيراً من نواحي حياة الأطفال الاجتماعية التي هي ألصق بهم؛ وفي أن انتقالات التلاميذ كل سنة من فرقة إلى فرقة أعلى يصحبها في كثير من الأحوال تغيير مستمر في أعضاء الحكم الذاتي
وهناك مجال ثالث للحكم الذاتي هو تلك الجمعيات التي يؤلفها التلاميذ قاصدين بها إلى ممارسة وجوه من النشاط تضيق عنها جدران المدرسة كالجمعيات الأدبية والجمعيات التمثيلية وجمعيات فلاحة البساتين وجمعيات التصوير وغيرها
وأخيراً يمكن أن نجعل من المدرسة كلها مجالاً للحكم الذاتي. ولكن هذا لا يمكن أن يتأنى بسهولة إلا إذا كان تلاميذ المدرسة لا يزيدون عن أربعين طفلاً أو خمسين
فهذه هي المجالات التي يمكن أن يتخذ منها الحكم الذاتي مسرحاً يمثل عليه دوره. على أننا لا نحب أن نترك هذه المسألة قبل أن نتناول الحكم الذاتي في الفصل بشيء من التفصيل.
فنحن نريد أن أن نقول إنه ليس من الضروري في كل الأحوال أن يمتد الحكم الذاتي إلى نطاق الفصل. بيان ذلك أنه إذا كان ثم عداء متوارث بين التلاميذ من جهة والمدرس والمدرسين من جهة أخرى، وإذا كانت حياة التلاميذ خارج المدرسة حياة يتناوبها العسف والضغط، فإن الحاجة تكون حينئذ ماسة إلى قدر من الحكم الذاتي يتناول الفصل. أما إذا كانت العلاقة بين التلاميذ والمدرسين علاقة تسودها المودة والصفاء، وكان التلاميذ من جانبهم يميلون إلى التعلم، وكانوا يتمتعون بقسط وافر من الحرية خارج المدرسة، فمن المشكوك فيه حينئذ أن يكون الحكم الذاتي شيئاً ضرورياً مرغوباً فيه
كذلك لا نحب أن نترك هذه المسألة قبل أن ننتبه إلى أن وجوه النشاط في داخل المدرسة مرتبط أشد الارتباط بوجوه النشاط في خارجها وأن الحكم الذاتي في خارج الفصل لا يمكن لهذا السبب أن يتم له النجاح إذا كانت الأمور في الفصل تجري على قواعد بالية عتيقة
وليس للحكم الذاتي نظام خاص صالح لكل الأحوال، وإنما هو يتكيف بحسب الحالة التي يوجد فيها، فالسن، والجنس وتقاليد المدرسة، وشخصية المدرسين، وطبيعة البيئة التي منها التلاميذ والمثل الاجتماعية التي ترمي إلى تحقيقها - كل هذه يجب أن تترك في الحكم الذاتي أثرها وتكيفه وفقها.
وأنا أعتقد أن قيمة الحكم الذاتي تزيد وأن مجاله يتسع إذا أمكن أن نبث فيه روحاً اقتصادية. وذلك يكون بإعطاء التلاميذ في كل أسبوع قدراً معيناً من المال يستطيعون به أن يدبروا الأمور المالية المختلفة التي كان يقوم بها من قبل مدبرو شئون المدرسة. فيستطيعون مثلاً أن يشتروا ما هم في حاجة إليه من الأقلام وأقلام الرصاص، وأن يشتروا لجرائد اللازمة للمكتبة، وأن يشتروا جميع الأدوات اللازمة للألعاب سواء أكانت داخل المدرسة أو خارجها، وأن يشتروا حاكياً أو مذياعاً، وأن يؤثثوا غرفة هادئة للمطالعة، وأن يقيموا بالرحلات الخ. وكل هذا يستدعي بالطبع وجود مصرف في المدرسة يودع فيه ما يعطاه التلاميذ من مال، ويقوم على تدبير أمره أحد هؤلاء التلاميذ. وكل هذا يستدعي أيضاً أن تقدم اللجان المختلفة ميزانيتها، وأن تفحص هذه الميزانيات لجنة مالية مختصة لتقرر ما تراه.
وقد يكون من بين التلاميذ يصطنعون الحكم الذاتي - ومعظمهم من غير شك قد بلغ سن الشباب - بعض التلاميذ الذين لم يبلغوا هذه السن بعد. فهؤلاء التلاميذ الأحدث يمكنهن أن يشاركوا في عملية الحكم الذاتي، ولكن على شرط ألا يكون عددهم كبيراً جداً. وهنا يتفق نظام الحكم الذاتي عن نظام العرفاء الذي يخضع التلاميذ الصغار لسلطة التلاميذ الكبار.
ويجب أن يعتبر الحكم الذاتي وسيلة يعاقب بها التلاميذ بعضهم بعضاً. وعلى ذلك فيجب ألا يكون العقاب إلا حين يكون من ورائه صون لقوانين الحكم الذاتي من أن تنقض، تلك القوانين التي شرعها التلاميذ أنفسهم وقصدوا بها إلى ما فيه الخير لهم جميعاً. على أن هذا العقاب يجب أن يكون خالصاً من الغل مبرءاً من الضغينة. فالقوة إذن سناد لقانون الحكم الذاتي في مجتمع التلاميذ كما أنها سناد القانون في المجتمع الكبير. ولكن كلما قوى شعور التلاميذ بما فيه مصلحتهم العامة فإن الحاجة إلى العقاب تقل.
وهنا يأتي الكلام عن مسألة من أهم مسائل الحكم الذاتي: فيجب ألا يتطرق إلى الأذهان أن نظام الحكم الذاتي يرفع عن عاتق ناظر المدرسة ومدرسيها مسئولية التأديب، فهو على العكس من ذلك يزيد من مدى هذا المسئولية؛ وذلك لأن عملية الضبط لا ترمي حينئذ إلى حفظ النظام فقط بل إلى غاية تربوية كذلك. ومعنى هذا أن عملية الضبط في هذا النظام لا تقصد مباشرة إلى مجرد حفظ النظام، وإنما هي تقصد عن طريق غير مباشر لا إلى منع النظام من أن يتطرق إليه العبث ويخترمه الخلل. وإنما تصطنع عملية الضبط هذا الطريق غير المباشر لتكفل للغاية التربوية التي يرمي إليها الحكم الذاتي أن تتحقق، وما هذه الغاية التربوية إلا إفساح المجال لشخصيات التلاميذ حتى تنمو وتترعرع.
ولكن هذا النوع من الحرية لا يرضى به دعاة التحرير فهم يقولون إنه ليس إلا مسخاً للحرية؛ ذلك لأنه يفرض على التلاميذ ما يريده المدرس، فإذا أراد هؤلاء أن ينطقوا مع سجينتهم فيما يفعلون فإنهم سرعان ما يعوقون. وإنما ينادي دعاة التحرير بحرية خالصة من القيود ينطلق معها التلاميذ أينما يريدون فيقعون فيما يقعون من أخطاء ويعالجون هذه الأخطاء كما يحبون
على أن الأستاذ جون آدمز لا يرتضي مذهب هؤلاء. فهو ينادي بأن تكون للمدرس السلطة العليا، تلك السلطة التي تحفظ على جماعة التلاميذ صالحها العام قد تؤدي به الحرية المتطرفة. أضعف إلى ذلك أن الحياة الواقعية حياة مفعمة بالقيود: القيود العامة التي تغلنا بها الحياة في المجتمع، والقيود الخاصة التي يغلنا بها من نخضع له أو من نخضع لهم. فإذا كان التلاميذ لن يواجهوا في المستقبل حياة خالصة من القيود، فأحر بهم أن يعودوا منذ الصغر الخضوع لسلطة مرب أو مربية يقصد كل منهما إلى تهيئة ظروف المدرسة بحيث تكفل لسلوك التلاميذ وشخصيتهم الترعرع والنماء
ويرى الأستاذ أسبورن أن تقسم السلطة مناصفة بين الناظر والمدرسين من جهة والتلاميذ من جهة أخرى. وهو يعتقد أن هذا التقسيم لا يضير نظام الحكم الذاتي في شيء. فالناظر مثلاً يمكنه أن يفرض على التلاميذ مزاولة الألعاب الرياضية في أيام معينة من الأسبوع، ثم يترك لهم توزيع ضروب هذه الألعاب على هذه الأيام، فيجعلون هذا اليوم للكريكيت وذاك للكشف وهلم جرا. على أنه لا يمكن فصل هاتين السلطتين فصلاً تاماً، فيجب على الناظر والمدرسين أن يصغوا إلى ما يوجهه لهم التلاميذ من نقد، وإن كانوا يملكون حق إهمال هذا النقد
وقد عرض الأستاذ جردن ماكاي المسألة، فقال إنه لا يمكن أن يتحقق نظام الحكم الذاتي من غير وجود المربي. ولكي يبين صحة ذلك انتقل إلى وظيفة المربي، فقال إنها تتلخص في العمل على نشر القدرة المنطوية، ثم العمل على تنمية قدرة تلاميذه جماعة وأفراداً، فالمربي أولاً مرشد وفيلسوف وصديق، وهو إلى ذلك ناصح أمين في كل ما يتعلق بالدروس والاجتماعيات وسائر وجوه النشاط في الفصل.
على أنه يجب أن يتصف بصفات معينة تعينه على أن يكون كذلك، وهذه الصفات ليست إلا صدى للعلاقة التي تربطه بالتلاميذ. فهو يجب أن يثق بأنه قادر على معاونة تلاميذه على نشر مواهبهم الكامنة، وهو يجب أن يعتقد أن نفوس تلاميذه تنطوي على حكمة كثيرة مخبأة، أو على صفات أخرى تستحق أن يكد في سبيل إماطة اللثام عنها، وهو يجب أن يكون ذا عقل واسع الثقافة، وشخصية منسجمة الأطراف متوافقة الأنغام، وقدرة على التنفيذ، وهو يجب أن يجمع إلى هذه الخصال كلها حباً للأطفال يلهبه الحماس، ولكن الحماس الذي يخفف من حدته الحذر ويبعد غوره التبصر
ويزيد الأستاذ ماكاي على ذلك، فيقول إن المربي يجب أن يشعر تلاميذه بأن نجاحهم ونجاحهم فقط هو الهدف الأسمى للمربي، وأنه ما وجد إلا للوصول إلى هذا الهدف. وعلى ذلك يجب أن يحملهم باستمرار على أن يهدفوا نحو شكل من أشكال الكمال هو في الحقيقة أبعد من أن يتناوله ذرعهم، وأن يشعرهم بأنهم إن فشلوا في الوصول إلى هذا الكمال فلسوف يستطيعون فيما بعد ان يحاولوا محاولات أخرى تحدوها خبرة أوسع
والمربي كذلك يجب أن يوفق بين نواحي الضعف في المربي ونواحي القوة، فيعطي من هذه لتلك ليصل بالمربي في آخر الأمر إلى حال من التوازن قائمة على تعاون ملكاته وتواصلها
وصفوة القول أن نظام الحكم الذاتي يتطلب وجود المربي ليلعب فيه دوره الهام.
(للحديث بقية أخيرة)
السيد يعقوب بكر