مجلة الرسالة/العدد 504/السيدة سكينة بنت الحسين

مجلة الرسالة/العدد 504/السيدة سكينة بنت الحسين

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 03 - 1943



للأستاذ سعيد الديوه جي

- 2 -

أمها:

بينما الفارق في المسجد الجامع وحوله شيوخ المهاجرين والأنصار، إذا بشيخ مهيب يتخطى رقاب الناس حتى قام بين يدي الفاروق وحياه بتحية الخلافة، فردها عليه الخليفة وقال له: من أنت؟ قال: أنا امرؤ القيس بن عدى الكلبي. فعرفه عمر؛ وكيف لا يعرف صاحب بكر الذي أغار عليهم في يوم فج في الجاهلية؟! فقال له عمر: ماذا تريد؟ قال: أريد الإسلام. فعرضه عليه فقبله. ودعا له برمح فعقد له على من أسلم بالشام من (قضاعة) وهذا أول رجل عقد له على المسلمين بالشام ولم يصل ركعة واحدة؛ ذلك لما له من المنزلة السامية بين قومه. وأراد علي بن أبي طالب أن يزيد في شرف هذا الشيخ فنهض إليه وأخذ بثيابه وقال له: يا عم أنا علي بن أبي طالب أبن عم رسول الله صلى الله عليه وصهره، وهذان ابناي من أبنته، وقد رغبنا في صهرك فأنكحنا. سر الشيخ من هذه الساعة الميمونة التي نال فيها ما لم يكن يتوقعه؛ اهتدى بنور الإسلام، وتولى إمرة قضاعة بالشام، وهذا أبن عم الرسول وزوج أبنته يريد أن يشرفه بمصاهرته. فألتفت إلى على بن أبي طالب والفرح قد امتلأ قلبه والبشر طافح في وجهه. وقال له: (وقد أنكحتك يا علي المحياة بنت امرئ القيس. وأنكحتك يا حسين الرباب بنت امرئ القيس) وكانت الرباب من خيار النساء وأفضلهن امتازت بفصاحة لسانها ورجاحة عقلها فكان الحسين يحبها حباً جماً لما رآه من كمالها وعقلها. ولامه أخوة الحسين على هذا فقال:

لعمرك إنني لأحُب داراً ... تكون بها سكينة والرباب

أحبها وأبذل جل مالي ... وليس لعاتب عندي عتاب

فلست لهم وإن غابوا مضيعاً ... حياتي أو يغيبني التراب

كانت الرباب مع زوجها مثالاً للمرأة المسلمة الصالحة شاركته أفراحه وأتراحه ورافقته حتى في ساحة جهاده وشهدت بعينها مصرعه ورثته بقولها: إن الذي كان نوراً يستضاء به ... بكربلاء قتيل غير مدفون

سبط النبي جزاك الله صالحة ... عنا وجنبت خسران الموازين

قد كنت لي جبلاً ألوذ به ... وكنت تصحبنا بالرحم والدين

من لليتامى؟ ومن للسائلين؟ ومن ... يغني ويأوي إليه كل مسكين

والله لا أبتغي صهراً بصهركم ... حتى أغيب بين الرمل والطين

وقد برت الرباب بقسمها فكم تقدم إليها من شريف وأمير وخطبها بعد مصرع زوجها، وكان جوابها لكل خاطب: (ما كنت لأتخذ حماً بعد رسول الله ، وقضت الرباب حياتها حانية على ولديها عبد الله وسكينة).

نشأتها وزواجها:

تولت الرباب تربية ابنتها سكينة فأرضعتها الفصاحة والبلاغة منذ صغرها وأطلعتها على أشعار العرب وأخبارهم. وكثيراً ما كانت ترسلها إلى حلقات العلماء ومجالس رواة الحديث فتأخذ عنهم. كما كانت تقص عليها مآثر آبائها وأجدادها، فتذكرها بجدها الأعظم منقذ العالم من الشرك وهاديه إلى طريق الحق. وتسرد عليها أخبار جدها فتى الفتيان (حيدر) ما كان عليه من البطولة والعلم والفقه في الدين. وكانت الفتاة ذكية الفؤاد تصغي إلى هذه الأحاديث بكل شوق وتفخر بمآثر أجدادها التي دونتها كل فخر، فاهتدت بنورهم وتسنمت ذروة المجد الشامخ

ولما بلغت سن الزواج زوجها أبوها من ابن عمها عبد الله ابن الحسن. وبعد وفاته تقدم إليها شبان قريش يطلبون يدها فلم يوفق سوى أحد الأبطال الذين يضرب بهم المثل في الشجاعة والمروءة والكرم - ذلك هو مصعب بن الزبير - أمهرها مليون درهم وأهدى لأخيها أربعين ألف دينار. وزفت إليه وهي كالنار الموقدة حسناً وجمالاً، وكان الخليفة عبد الملك ينفس على مصعب هذا الزواج، وقد صرح بذلك لجلسائه فقال: (أشجع الناس مصعب بن الزبير الذي جمع في بيته بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسن)

كان مصعب يحبها حباً جماً ويؤثرها على غيرها لعقلها وأدبها وحسبها وقضى معها أسعد أيام حياته، ولكن كل هناء يعقبه عزاء، فلم تطل أيامه معها حتى لقي حتفه. دخل عليها يوم قتله فنزع ثيابه ولبس غلالة وتوشح بثوب وأخذ سيفه لينزل ساحة الوغى. علمت سكينة أنها الساعة الأخيرة وأنها ستفارقه فراق الأبد فلم تتمالك نفسها وصاحت: (وا حزناه عليك يا مصعب) وما هي إلا ساعات معدودة حتى أتاها خبر استشهاده. فخرجت إلى ساحة الوغى لتنظر البطل المجندل فطلبته بين القتلى وعرفته بشامة كانت في خده فوقفت عليه وقالت: (يرحمك الله، نعم بعل المرأة المسلمة كنت) أدركت والله ما قال عنتر:

وخليل غانية تركت مجندلاً ... بالقاع لم يعهد ولم يتلثم

فهتكت بالرمح الطويل أهابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم

وقفت سكينة طويلاً أمام هذا البطل المضرج بدمائه. وتذكرت أيام نكبتها بشهيد كربلاء، ومر أمامها المناظر المحزنة والمصائب التي توالت على آل البيت. وهاهي تفجع اليوم بزواجها كما فجعت بأهلها من قبل ففاض الدمع من عينها والشعر من قبلها وقالت ترثيه:

فإن تقتلوه تقتلوا الماجد الذي ... يرى القتل إلا ما عليه حراماً

وقبلك ما خض الحسين منية ... إلى القوم حتى أوردوه حماماً

ثم احتسبت واسترجعت، وأمرت بدفن زوجها ثم عادت إلى الكوفة لتلم شعثها وتلحق بأهلها. ولما أرادت السفر تجمع إليها أهل الكوفة ليسلموا عليها، كأنهم لم يسلموا زوجها قبل أيام ولم يسلموا أباها وأخاها قبله، وكأنهم لم يخذلوا جدها. ولكن سكينة من نعرف دهاءها وعقلها فهي أجل من أن تنخدع بظاهر القول. وقد صرحت لهم بما يكنه صدرها من البغض فقالت لهم: (لا جزاكم الله عني خيرا، ولا أخلف عليكم بخير، يعلم الله أني أبغضكم، قتلتم جدي علياً، وقتلتم أبي الحسين، وأخي علياً، وزوجي مصعباً، فبأي وجه تلقوني، أيمتموني صغيرة، وأرملتموني كبيرة.

أراد عبد الملك أن يغتنم فرصة قتل زوجها، وكانت كل منيته أن يتزوجها ليحظى بالجمال والعقل والشرف، ولكن هيهات أن يجد حبه إلى قلبها سبيلاً. ولما عرض عليها أمر خطبتها قالت: (والله لا يتزوجني قاتله أبدا). خطبها الإصبع بن عبد العزيز والى مصر. فكتبت إليه أن أرض مصر وخمة. فبنى لها (مدينة الإصبع) ولكن هذا الأمر لم يرق في عين عبد الملك فحسده وكتب إليه: أن اختر ولاية مصر أو سكينة. فكف عن زواجها. خطبها بعد ذلك زيد بن عثمان بن عفان فشرطت عليه: ألا يغيرها، ولا يمنعها شيئاً تريده، ولا يخالفها في أمر تريده، وأن يكون خروجها بيدها. فرضى وسلم أموره بيدها كما أرادت. ولكن صاحبنا هذا كان بخيلاً فلم يطق صبراً على تفيضه سكينة على الشعراء والفقهاء وحلقات الأدب وما كانت تنفقه في قصرها وغدواتها ومنتزهاتها. فغلب بخله على هواه وتخلى عنها.

آثرت سكينة بعد هذا أن تعيش منفردة مع جواريها بمكان ناء عن المدينة وضوضائها تتمتع بهدوء الطبيعة وجمالها الفاتن فلم تجد مكاناً أجمل من وادي العقيق الفتان. فباعت مالها بالزوراء وعمرت لها قصراً فخماً بهذا الوادي الجميل. وكلما فاض الوادي كانت تخرج إلى محل السيل يحف بها جواريها. وفي أحد الأيام جلست على حافة الوادي تمتع نظرها بما يحف بها من الأزهار والحشائش وأشجار الاثيل، وكانت السماء صافية والنسيم عليلاً والناس منتشرون حول الوادي يمتعون أنفسهم بهذا الجمال الفتان. أعجبها هذا المنظر البهيج فالتفتت إلى جواريه وقالت: (والله لهذه الساعة في هذا القصر خير من الزوراء).

(يتبع)

سعيد الديوه جي

بالموصل