مجلة الرسالة/العدد 507/الشعب هو المسئول عن الإصلاح الإجتماعي

مجلة الرسالة/العدد 507/الشعب هو المسئول عن الإصلاح الإجتماعي

مجلة الرسالة - العدد 507 المؤلف زكي مبارك
الشعب هو المسئول عن الإصلاح الإجتماعي
ملاحظات: بتاريخ: 22 - 03 - 1943


للدكتور زكي مبارك

أخي الأستاذ الزيات

ليتك شهدت المناظرة التي أقيمت بكلية الآداب في مساء الأحد الماضي، لترى مبلغ ما وصلنا إليه من حرية الفكر والرأي، ولترى كيف يستبيح ناسٌ إيذاء إخوانهم بلا استبقاء، ولترى أيضاً كيف تطغى العامية الفكرية على بعض من وُسموا بالتثقيف

وسأصف جوّ تلك المناظرة بإيجاز، أداءً لحق (الرسالة)، فمن قرائها ألوفٌ يحبون أن يعرفوا كيف يشتجر القاهريون في ميادين الحجج والبراهين

كانت المناظرة برياسة معالي الأستاذ عبد الحميد عبد الحق وزير الشؤون الاجتماعية، وقد سُبِقت بحفلة شاي أعدها عميد كلية الآداب ترحيباً بالوزير وبالمتناظرين وكبار المدعوين

وبعد الشاي رأينا الوزير ينتحي ناحية ليراجع خطبة طويلة متصلة بموضوع المناظرة، فعرفت أننا سنقضي شطراً من الليل في نقاش وجدال، وقد هممت بمراجعة الوزير، ثم تركت الأمور تجري إلى مداها المرسوم في ضمير الغيب

وحين وصلنا إلى المدرّج الأكبر بالكلية رأينا جماهير كثيرة وعانينا قيظاً قد اقتُبست ناره من وهج القلوب. . . ألقى العميد كلمة ترحيب بالوزير، وألقى أحد الطلبة كلمة ثانية، ورأى الوزير أن يطوي خطبته لضيق الوقت، ثم دعا المتناظرين إلى الكلام

كنت الخطيب الأول، وكانت خطبتي مكتوبة، ولكني رأيت الجوّ يوجب أن أعرض الموضوع بصورة خطابية، وفي دقائق، لأستبقي الفرصة الباقية، فرصة المنبر الأكبر على صفحات (الرسالة) الصديق

لن أحدثك عما قوبلت به خطبتي من الإعجاب، وإنما أحدثك عن مُناظر قصر خطبته على مناوشتي بأساليب يمجّها الذوق، مع أن المناظرة في كلية الآداب، وبرياسة وزير الشؤون الاجتماعية!

حضر هذا المُناظر وفي قلبه أشياء، فهو لن ينسى أني أفحمته منذ عامين في محاضرة ألقاها بأحد الأندية تأييداً لفكرة وهمية نبتت في بعض خرائب الرءوس، وهو لا يستطيع نشر تلك المحاضرة بأي حال، لأنها من صنوف كان الظن أن يتناسى حضرة المناظر تلك المعركة الأدبية، وأن يجعل همه الأول والأخير في شرح الرأي الذي ارتضاه في مناظرة ذلك المساء، ولكنه جعل همه في التحرش بالدكتور زكي مبارك وتأليب الجمهور عليه بطريقة عدّها الحاضرون ضرباً من التحدي الممقوت

ليست المناظرة قتالاً بين شخص وشخص، وإنما هي نضال بين رأي ورأي، وليست المناظرة فرصة للتشفي، وإنما هي فرصة للتصافي

أترك هذا وأذكر أني أعجبت في ذلك المساء بخطبتين مجّدا الفكر والرأي، أحدهما الأستاذ صالح جودت، وثانيهما الأستاذ حسين دياب، ومع أنها جَرَيا في ميدانين متعارضين فقد استطاعا الظفر بالحمد والثناء

قال صالح: إن اعتماد الشعب على الحكومة تحوَّل إلى طمع في الحكومة. وهذه فكرة دقيقة جدَّا

وقال صالح أيضاً: إن الذين يقيمون الحفلات الخيرية لمعونة الفقراء لا يفتحون مغاليق الجيوب إلا بفضل المراقص المسبوقة بأكواب الصهباء

وهذا كلامٌ يجب أن يقال. ولو مرةً واحدة، عساه ينفع بعض الجمعيات

وقال حسين: إن الحكومة هي التي تُسأل عن الإصلاح الاجتماعي، لأن عندها وسائل يعجز عن مثلها الشعب. . . وقال أيضاً: إن يقظة الحكومة لا تغني الشعب عن الاهتمام بما يجب عليه في تدبير أمور المعاش. . . وهذا وذاك من الكلام النفيس

أما لغة المتناظرين فكانت سليمة، بغض النظر عن اللحن المضحك، اللحن الذي تكرر ثم تكرر من الخطيب اللحان، وهو فلان!

أيهون منبر كلية الآداب إلى الحد الذي يسمح بأن يعلوه خطيب لا يعرف الأوليات من قواعد اللغة العربية؟

اتقوا الله يا ناس في منبر كلية الآداب!

ومن ذلك الخطيب؟

سأذكر اسمه يوم يغيّر ما بنفسه بعد قراءة هذا الدرس

سأذكر اسمه يوم يعرف أن المناظر لا يكتفي بالقصاصات من المجلات إن خطبة عميد كلية الآداب لم تزد عن أربعة أسطر، وهو مع ذلك تلاها تلاوة ليأمن الخطأ في الإعراب، أما فلان فقد فعل بنفسه ما لا يفعل الأعداء

ثم ماذا؟ ثم أعلن معالي الأستاذ عبد الحميد عبد الحق أن رأيه كوزير أن يستزيد الحكومة من المسئوليات. فقلت ومن واجب الشعب أن يتحمل جميع المسئوليات

ثم؟ أسجل خطبتي في (الرسالة) لتُسجَّل في ضمير الزمان، وليعرف من لا يعرف أن للمصريين جذوات فكرية مقبوسة من نار الخلود

أيها السادة:

أحييكم باسم الفكر والرأي، ثم أشكر من تفضلوا فدعوني للاشتراك في هذه المناظرة، فقد هيأوا فرصة جديدة لتوضيح نظرية نفر منها الجمهور حين عرضتها في بعض الجرائد والمجلات وهي النظرية التي تقول بأن الفرد هو الحجر الأول في بناء المجتمع، وبأن الشعب هو المسئول في جميع الأحوال عما يتعرض له من متاعب وصعاب

وسأعرض تلك النظرية في هذا المساء بأسلوب جديد، راجياً أن تراعوا أننا في رحاب كلية الآداب، فلا يثور من تعودوا الثورة على الحق في المناظرات الماضية، وراجياً أن تذكروا أن ما تضيق به صدوركم اليوم قد يصبح من المألوفات بعد حين

أما بعد فمن المسئول عن الإصلاح الاجتماعي: الشعب أم الحكومة؟

في شرح هذه المعضلة أقول:

أنا أقبل إلقاء جميع المسئوليات على الحكومة، إذا صح عندي أن الشعب طفلٌ لا يفرق بين التمرة والجمرة، على نحو ما كانت الحال في طفولة الشعوب

أما اليوم وقد اكتملت قُوى الشعب وتخطى العهود الفطرية فمن الواجب أن يُسأل عن كل شئ، وأن يكون إليه الأمر في جميع الشؤون

وما السبب في إنشاء الحكومات؟

أفترض جان جاك روسُّو أن الخلائق اجتمعت يوماً للتشاور في الصورة التي تصان بها الحياة الاجتماعية، وأن كل فرد تنازل عن جزء من حريته، ليتكون من تلك الأجزاء قوة تحمي المجتمع من عدوان الأقوياء على الضعفاء

وقد آن أن نسترد ما تركنا من حريتنا باسم صيانة المجتمع. آن أن نكرم الإنسانية بأن تُسأل أمام الضمائر لا أمام القوانين، فإن من العار على الإنسانية أن يطول احتياج بنيها إلى حكام يصدونهم عن تقارض الظلم والاضطهاد

كل أمة تحتاج إلى وزارة اسمها وزارة العدل، فما معنى ذلك؟ معناه أن الأمم لم تصل إلى الرقي الصحيح، ومعناه أن بغي الناس بعضهم على بعض خطر يرتقب في كل حين

لا مانع من أن تكون في الدنيا محاكم، على شرط أن لا يُحتكم إليها إلا في القضايا التي تحتاج إلى اجتهاد القضاة، أما القضايا التي يقال فيها أن الحلال والحرام بين فاحتياج الإنسانية فيها إلى القضاة ضرب من الإسفاف

المثال الصحيح للأخلاق السليمة هو أن تعرف ما لك وما عليك، فتحب لأخيك ما تحب لنفسك، وتبغض لأخيك ما تبغض لنفسك، ويكون رأيك في تقدير المشكلات الأجتماعية هو الميزان

قال فلاسفة العرب: (الإنسان مدني بالطبع)، ومعنى هذا أنه يكره التوحد الموحش، ويميل إلى الوداد والإخاء، وكذلك كان حاله بالفعل، لولا بدواة ترده إلى عهود الوحشية من حين إلى أحايين

ويقول التاريخ الاجتماعي: إن الدنيا في عهود الظلومات كان فيها شهود يُستأجرون كما يستأجر الفتاك. وقد انقرض هذا الصنف من الناس أو كاد. وتلك بداية لطيفة، فقد نستغني يوماً عن المحاكم، وقد يصبح كل فرد وهو مسئول أمام الضمير لا أمام القانون

أليس من العيب على الإنسانية أن تحتاج إلى جيوش من القضاة والمحامين في شؤون يحكم فيها الضمير قبل أن يحكم القضاء؟

في بضع مئين من السنين يتحول بعض الحجر إلى مرمر، وقد مرت ألوف وألوف من السنين لم يتحول الإنسان إلى ملك

فبأي وجه تلقى الإنسانية بارئها يوم يقوم الحساب؟

الحكمة اليونانية تقول: اعرف نفسك بنفسك

والحكمة الإسلامية تقول: الإثم ما حاك في صدرك

ونحن مع هذا وذاك لا نسير في الطريق إلا معتمدين على أسندة من رعاية الحكومات. . . كأننا خلائق تحبو في فجر التاريخ! أقدم أمة أقيمت فيها حكومة هي الأمة المصرية، وكان ذلك من أبواب المجد، يوم كان النظام حلما يداعب خيال الإنسانية

وستكون مصر أول أمة تعيش بلا حكومة، وسيكون ذلك أعظم آيات المجد، لأنه الشاهد على السمو الذي تغنى به الحكماء، جيلاً بعد جيل

نحن سبقنا جميع الشعوب إلى إقامة النظام الحكومي، يوم كان أصلح أداة لكبح الطغيان الفردي والاجتماعي

وسنسبق جميع الشعوب إلى الاستغناء عن النظام الحكومي، لأنه يطعن في قدرة الإنسانية على مغالبة الأهواء

وماضينا في التاريخ القديم يطمعنا في تحقيق هذا الأمل الجميل، فنحن الذين أقمنا النظام الشمسي قبل أن تعرفه أمم المشرق والمغرب. ونحن الذين غزونا بالروح أمماً لم تكن تغزى بغير السيف. وقد وصلت فنون أجدادنا إلى أمريكا قبل أن يكتشفها كولومبوس بأزمان وأزمان. . . ألم تسمعوا أن أمريكا وجدت فيها آثار بها ملامح من الفنون المصرية؟

وتحرش بنا الأوربيون متجمعين عشرات السنين لعهد الحروب الصليبية، فرددناهم على أعقابهم بعد أن زودناهم بأصول المدنية الشرقية، وهي أساس المدنية الغربية

ونحن كنا الحصون التي صدت غارات المغول، ومن قبل ذلك بقرون أوحينا إلى الإسكندر الأكبر أن يتجشم متاعب السفر إلى الواحات ليزور معبداً يجمع بين الرحموت والجبروت، وهو معبد آمون، آمون الذي دخل اسمه جميع اللغات فصار (آمين) التي تقال عقب الدعاء

أرضنا هي الأرض، وسماؤنا هي السماء، ومجدنا هو المجد، وخلودنا هو الخلود

فما الذي يمنع من أن نكون أول أمة تعتز بالقوة الذاتية؟

ما الذي يمنع أن نكون حكام أنفسنا في جميع الشؤون؟

وما الذي يمنع من أن نسبق جميع الأمم إلى فهم الغاية الصحيحة من قوة الروحانية؟

لكل أمة عذر في التخلف، ولا عذر لمصر في التخلف، وهي أقدم حجاز بين الحق والباطل والهدى والضلال

وتاريخنا الحديث لا يقلُّ عظة عن تاريخنا القديم، فقد حيكت حولنا الدسائس الدولية بالألوف، وكانت بلادنا مصطرعاً لأشتات من الجيوش، فهل غُلبنا في الميادين الفكرية، حين غلبنا في الميادين الحربية؟

أين الدولة التي تستطيع أن تزعم أنها نقلت القلب المصري من مكان إلى مكان؟

أين الدولة التي استطاعت أن تصدّ الفكر المصري عن التغلغل في آفاق الشرق؟

لبلادنا خصائص أصيلة أيسرُها القدرة على قهر عوادي الاضمحلال، وكيف تضمحل أرض نجد فيها الماء في كل بقعة، والله جعل من الماء كل شئ حيّ؟

أول كُفر عرفته الخلائق هو كفر المصريين، وأول إيمان عرفته الخلائق هو إيمان المصريين، وأشهر الأفراح أفراح المصريين، وأشهر الأحزان أحزان المصريين

هل عرف تاريخ الجاهلية أعظم من المعابد المصرية؟

وهل عرف التاريخ الإسلامي أروع من المساجد المصرية؟

وهل يوجد للفلاح المصري نظيرٌ في أي أرض؟

وهل يوجد ماءٌ أعذب من ماء النيل؟

وهل عُرفت العظمة في المباني قبل أن تُعرف في هذه البلاد؟

وهل يوجد في الدنيا ناس يفوقون المصريين في حلاوة الشمائل ولطافة الطباع؟

لم يبق إلا أن نتفرد با لابتكار الأخير، وهو الابتكار الذي عجز عنه من اهتدوا إلى البخار والكهرباء، وهذا الابتكار هو الكشف عن الجوانب المستورة من الأرواح والقلوب، الجوانب النقية، ففي قلب كل رجل غابة عذراء لا تغرّد فوق أدواحها غير بلابل الطهر والصفاء

أجمعوا جموعكم، واستعينوا بمفكريكم، لتكشفوا الواحة المجهولة في الضمائر المصرية، فقلبي بأن في هذا الوادي سرائر مطوية تفوق الأحجار التي يشق في البحث عنها علماء الحفريات!

أنفقوا في البحث عن الضمائر الحية معشار ما تنفقون في البحث عن الأحجار الميتة، واعلموا أن مصر لن تموت، لأنها مؤيدة بروح الحق الذي لا يموت

أين التي عرفناها أو جهلناها، وأين مكانها الأصيل في تاريخ الوجود؟

ستكون أول أمة تعيش بلا حكومة، لتقيم البرهان على أنها فوق الشبهات والأضاليل

قد تقولون: إن واقع الحياة لا يعرف هذا الخيال. . . وأقول: إن الأمر في هذه الأيام ما تقولون، فلو عاشت الأمة بلا حكومة أسبوعاً أو أسبوعين لانتشرت الفوضى وعمّ الاضطراب وشاع الفساد

ولكني مع هذا أجزم بأن الحكومة لا تستطيع بأي حال رعاية أمة فقيرة في نواحي التماسك الذاتي والاجتماعي، فخضوع الأمم للشرائع والقوانين لا يكون خضوعاً شريفاً إلا إن صدر عن إرادة ذاتية مردّها إلى أدب الأحرار لا أدب العبيد

ونحن في مصر نفهم هذه المعاني، فوزير المعارف يعتمد على ضمائر المدرسين، ووزير العدل يعتمد على إيمان الناس بأدب المعاملات، وكذلك يقال في الأمور التي يعالجها سائر الوزراء

قد سمعتم أو قرأتم أن وزارة الوقاية وزارة وقتية تنتهي مهمتها بانتهاء الحرب، فما المستقبل الذي ينتظر وزارة الشؤون الاجتماعية؟ أنا أقدِّر أن مهمتها ستنتهي بعد أمدٍ قريب، يوم يفهم الشعب واجبه في الإصلاح الاجتماعي، ويوم يدرك أن احتياجه إلى عون الحكومة في تلك الشؤون ضربٌ من الفقر في الروح والوجدان

وهذا المستقبل لن يكون بعيداً كما نتخوف، فالشواهد تنطق بأن ضمير الأمة سيستيقظ بعد طول السبات، ولعله استيقظ بالفعل. ألا ترون أن الأمة تتسامى إلى أمور كانت قبل اليوم من تهويل الخيال؟

قبل أن تشب الحرب ويغلو الورق كان متوسط ما تخرج المطابع المصرية في كل يوم أثنى عشر مجلداً، وكان لصحافتنا المقام الثالث بعد الصحافة الإنجليزية والأمريكية، وكنا أول أمم الشرق في إحياء الذخائر العربية والإسلامية، وسيكون لنا بعد الحرب ميادين يعتز بها العقل والبيان

ومعنى هذا أن يقظة الذكاء المصري يقظة حقيقية، وأن تحليقاتنا في سموات الفكر والرأي لم تكن أضغاث أحلام، فكيف تستبعدون أن يستيقظ الضمير المصري فيغني الحكومة عن التعب في مداواة الأمراض الفردية والاجتماعية؟

إن تعادل الضمير والذكاء في مصر فستصبح الأمة المصرية أمة نموذجية، وستبدع في الأدب النفسي آيات لا نظائر لها ولا أمثال

إن أفضل الفروض في وصف الصلة بين الحاكمين والمحكومين هي أن تشَّبه بالصلة بين الآباء والأبناء، فهل سمعتم أن أباً يحب أن يكون ابنه عالة عليه في جميع الشئون!

ونحن اليوم في مطلع حياة جديدة، ولا بد لنا من رياضة أنفسنا على الاضطلاع بحمل جميع الأعباء

وسنجاهد ونجاهد إلى أن تشعر الحكومة أنها تعيش في أمة مثالية لا تحتاج إلى حكام في أي ميدان

سنجاهد ونجاهد إلى أن تغلق المحاكم بفضل اعتماد الشعب على الاحتكام إلى الضمائر والقلوب

لن يطول صبر الإنسانية على هذه الحياة الوضعية، وهي الحياة التي لا ينزجر فيها منزجر إلا خوفاً من سطوة القضاء

إن الاستقامة السليمة هي التي تنبعث من النفس، كما يستقيم العود حين تكتمل قواه، أما الاستقامة التي توجبها قوى خارجية فهي استقامة العود الذي يُستر ضعفه بأسندة من الجريد، وهكذا حال الأخلاق التي لا تستقيم إلا بأسندة من القانون

إن الجوارح الروحية تعطلت بسبب الاعتماد على الحكومة في مختلف الشؤون، وإن المواهب النفسية تهدمت بسبب التفريط في رياضتها على النفاذ والمضاء

الأمم الضعيفة تكل أمورها إلى الحكومات لتستريح من الجهاد، وأما الأمم القوية فتنهض بأحمالها الثقال لتتشرف بالجهاد

وآفة الاعتماد على الحكومة آفة مخوفة على الأمة المصرية، ويجب النص على هذه الآفة بذكر بعض الشواهد، عسانا نزهد فيما استمرأناه من التواكل البغيض

التعليم كله ملقىً على كاهل الحكومة، وما فكر فرد أو جماعة في إنشاء مدرسة إلا على نية التبعية لوزارة المعارف، بأي صورة من صور التبعية

وقد نهضت الأمة فأنشأت الجامعة، ولكن النهوض ثقل عليها فأسلمتها إلى الحكومة!

وأنشأت الجمعية الخيرية الإسلامية بضع مدارس، ثم أسلمتها إلى الحكومة

ومنذ أعوام تعرضت مدرسة الأقباط بالقاهرة لمتاعب مالية، فخذلها أعيان الأقباط ولم ينجدها غير الحكومة

فما الفقر المدقع في العزائم والنفوس؟ أتكون أحوال التعليم كهذه الأحوال في البلاد الإنجليزية والأمريكية؟

وكيف والتعليم في تلك البلاد ترجع أكثر شؤونه إلى هيئات مستقلة عن الحكومة كل الاستقلال أو بعض الاستقلال؟

واعتمادنا على الحكومة ظهر بصورة بشعة يوم خيف على (بنك مصر) من زعازع الحرب، فالحكومة هي التي تقدمت لحماية البنك، وبذلك ضاعت فرصة على أغنياء الأمة، وأي فرصة؟

لقد كان في مقدور الأغنياء أن يتعاونوا على رعاية تلك المؤسسة القومية، وهي رعاية مضمونة الربح، وكان من المؤكد أن تدر عليهم الخيرات في أعوم الحرب، ولكنهم تهاونوا تهاون العاجزين عن إدراك ما ينتظر من المنافع، وتركوا الحكومة تدبر الأمر كما تريد

وآفة الاعتماد على الحكومة زلزلت الثقة بالكفاية الفردي، وهل يتهالك المتعلمون على وظائف الحكومة إلا ليقال إنهم وصلوا إلى شئ في بلد الوظيفة كل شئ؟

كل ما رأيناه من هذه النواحي أهون من الناحية التي تساق في مناظرة هذا المساء، فان ناساً يرجون أن تنوب الحكومة عن الأمة في الإصلاح الاجتماعي. وقد يرجون غداً أو بعد غد ان توزع الإصلاحات الاجتماعية والفردية في بطاقات؛ وقد يرجون أيضاً أن تنوب الحكومة عنهم في اختيار ألوان الطعام والشراب!

الأساس الذي أراه لبناء المستقبل أن تكون روح الشعب وروح الحكومة ممثلة في كل فرد، فيكون الرجل حاكما ومحكوماً في آن، حاكما لهواه ومحكوماً لنهاه، ثم تتلاقى قوى الأفراد كما تتلاقى القطرات الطاهرة من الغيوث فتخلق نهراً في مثل عظمة النيل

أنا أنتظر اليوم الذي يقال فيه على سبيل التفكه بحوادث التاريخ: كان في الدنيا حكومات وبرلمانات، وكانت الدنيا في بعض العهود ميادين قتال بين الآراء والأهواء

فإن لم نر ذلك اليوم، وهو في رأيي قريب، فلنخلقه في صدورنا، ولنكن رجالاً يستفتون ضمائرهم في جميع الشؤون، لا يخافون الناس، لأن النزاهة الروحية تخلق الأمان والأطمئنان، ولأن الصدق يحمي صاحبه من عدوان الباغين والظالمين.

وسبحان من لو شاء لحقق هذا الرجاء.

زكي مبارك