مجلة الرسالة/العدد 507/فلسفة الترجمة

مجلة الرسالة/العدد 507/فلسفة الترجمة

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 03 - 1943


للأستاذ عباس محمود العقاد

مر بمصر في الشهر الأخير كاتب من أشهر كتاب السير والتراجم بين الإنجليز العصريين، وهو الأستاذ فيليب جوداللا صاحب سيرة شرشل وسيرة بالمرستون وسيرة نابليون الثالث بطل الإمبراطورية الثانية، وسيرة ولنجتون القائد الإنجليزي المعروف، ويحسبها بعضهم خير ما كتب في مادة السير والتراجم على الإجمال، وهذا عدا التراجم القصيرة التي كتبها لكثير من القادة والأدباء من الإنجليز وغير الإنجليز

وقد دعاه (الاتحاد الإنجليزي المصري) بالقاهرة إلى المحاضرة فيه، فاختار للكلام موضوعاً هو أقرب الموضوعات إليه وأولاها أن يخاطب السامعين والقراء فيه وهو (عمل المترجم) أو عمل الكاتب الذي يُدوِّن تاريخ العظماء ومن لهم تاريخ يستحق التدوين

والحق أنه أدى عمل المحاضر في الأندية العامة أحسن أداء، فلم يكن متعمقاً معاظلاً يتعب السامع الذي يتتبع الحديث ويريد أن يفهمه وهو يصغي إليه؛ ولم يكن هيناً يقول ما ليس يستحق الإصغاء ولا يخرج السامع منه بمحصول يفيد، بل قال ما يفيد ويمتع، وأودع حديثه السهل زبدة الآراء التي يستصوبها من وجهة نظره في صناعة الترجمة وكتابة السير بأسلوب يخيل إلى من يستخفه أنه تسلية ساعة، وهو في الواقع خلاصة حياة، بل خلاصة حيوات إذا نظرنا إلى التراجم الكثيرة التي خرج منها بهذه الخبرة الطويلة

فالترجمة عنده ليست (بقصة) طلقت اللهو والعبث ولبست لبوس الوقار والاحترام!. . . ولكنها تاريخ من التواريخ يطبق على الأفراد بدلاً من تطبيقه على الأوطان والأقوام

وهي من ثم جديرة بأكبر عناية في العصور الحديثة التي شاع فيها تهوين الفرد وتعظيم شأن القوى والعوامل الجامعة، فإن الفرد ولا ريب يدل على شئ كثير، لأنه يرتفع على القمة فيشير إلى اتجاه التيار، فإن لم يكن هو الفعال لكل شئ في زمانه فهو على التحقيق دليل على مجرى الزمن وعلى ما يكمن وراءه من الدوافع والمؤثرات

وقال: إن الفرق بين فرنسا قبل نيف وثلاثين سنة وفرنسا اليوم إنما هو في جملته فرق بين رجلين: بين فوش وبيتان! كما أن تاريخ إنجلترا في السنوات الأخيرة إنما هو مظهر الفرق بين شمبرلين وشرش ولما تعرض لفن السيرة أو فن كتابتها حذر الكاتب من فتنتين تغريانه من جانبين مختلفين: أحدهما جانب البلاغة الأدبية، والآخر جانب النظريات النفسية أو (السيكولوجية)

فليس الغرض من الترجمة إخراج قطعة من الأدب البليغ، وإن صح أن تجئ أدباً بليغاً في عرض الطريق

وليس الغرض منها عرض النظريات النفسية التي قلما تفضي إلى يقين، لأنها بين شئ مفروض معلوم من قبل، وشئ لا نفرضه ولا نعلمه على الإطلاق، وفي كلا الأمرين مضلة تستلزم التحذير

إنما الترجمة عمل (يدوي) كما يقال إذا شئنا أن نقابل بينها وبين الخلق الخيالي أو الخلق المثالي الذي يتطوح فيه بعض رجال الفنون. ففي حدود هذا العمل المتواضع ينبغي أن يقبع المترجمون!

ثم حذر الكاتب من خطأين آخرين عند الكتابة عن الأقدمين: خطأ النظر (الفوقاني) أو النظر إلى أعلى وهو ينتهي إلى الإطناب في الحماسيات والبطوليات وتخيل الأقدمين كأنهم جيل من العمالقة أو الملائكة العلويين

وخطأ النظر (التحتاني) أو الترفع عن الأقدمين كأنهم أطفال في حاجة إلى التربيت والإغضاء، مع شئ من الابتسام والاستهزاء

وإنما النظرة الوسطى هي النظرة القويمة، أو النظرة السواء لا إلى الأعلى ولا إلى الأدنى، فنراهم بالعين التي تنظر إلى الحياة اليومية ولا تعيبها مبالغة في الإكبار أو مبالغة في التصغير

وقال: إن الكاتب الذي يشغل ذهنه فترة طويلة بالبحث في سيرة عظيم من العظماءِ لا يلبث أن يشعر عامداً أو غير عامد أنه تقمص ثياب (سكرتير خصوصي) لذلك العظيم. . . فهو يجاريه في ميوله وبدواته، ويترقب ملاحظاته وإشاراته، فيفوته من ثم أن يستقل بذهنه في النظر إليه. وهذه أيضاً فتنة من فتن الترجمة المغرية للكتابة، عليهم أن يتقوها جاهدين ليكتبوا عن عظمائهم عادلين مستقلين

وعلى هذا النمط كانت محاضرته طريفة مفيدة، عليها الطابع الشخصي الذي ينم على تجارب الكاتب نفسه ويصطبغ بصبغة منه، وفيها الأحكام العامة والآراء الأساسية التي تصلح للمشاركة والاقتباس.

وقد لقينا في منزل صديقنا الدكتور هيكل باشا فسرنا منه أنه مسرور من الجمهور المصري المثقف الذي تحدث إليه، وأنه يلاحظ أنه لم يشعر بفرق قط بين الجمهور الذي كان يتحدث إليه في البلاد الإنجليزية والجمهور الذي تحدث إليه في القاهرة، فالمصريون كما قال يضحكون في مواضع الضحك التي يفطن لها الإنجليز، ويشبهون نظراءهم من السامعين هناك في التفاتات الذهن ومواقف التعقيب عند الإصغاء إلى حديث

قال: والضحك علامة الحضارة، لأن الشعوب البربرية لا تضحك، فذكرنا في تلك اللحظة قولة نيتشه إن الضحك من نكتة واحدة هو أول الدلائل على تقارب فكرين. وقلنا: بهذه العلامة ثق كل الثقة أن المصريين أعظم المتمدنين!

وسألناه: ألا تنوي أن تكتب شيئاً عن مصر بعد هذه الرحلة؟ فقال مبتسماً: لا أزعم أنني أكتب عن وطن بعد رحلة أيام. . . ثم قال: ولعلي أنا الرجل الوحيد الذي قضى في روسيا أسبوعاً ولم يكتب عنها سفراً طويل الصفحات

تلك خلاصة مقربة لجملة الآراء التي تشتمل عليها فلسفة الترجمة في رأي الأستاذ جوداللا، وهي آراء نوافقه على معظمها ولا نكاد نخالفه إلا في الميل إلى البطولة أو إلى الصبغة الأدبية، فإذا استطاع الكاتب أن يستروح نفحة البطولة من مترجمه وأن يبثها في قلوب قرائه فهو في اعتقادنا عمل لا ضير فيه، بل هو واجب مطلوب مفيد لا غبار عليه

وكذلك إذا استطاع أن يرضي ذوق الفن ويرضي الحقيقة في وقت واحد فتلك غاية حرية أن تتطاول إليها أعناق الكتاب، لأن تجميل الحياة بالصدق الفني غرض من الأغراض النبيلة التي نخلص إليها من طريق التراجم كما نخلص إليها من طريق الشعر والنحت والتصوير والغناء، فكل حياة خلت من الجمال الفني ومن الصورة المثالية التي يسبغ عليها ذلك الجمال هي حياة فاترة أو حياة ناقصة لا تستحق أن تعاش، وإنما مقياس الحياة التي تكتب عنها التراجم والسير هي الحياة التي تعاش

وفيما عدا ذلك نوافق الأستاذ جوداللا في فلسفته التي اختارها بعد التجربة الطويلة لصناعة الترجمة وتمثيل العظماء

نوافقه ونحن نعلم صعوبة هذه الموافقة في زمن كثر فيه المنكرون لقيمة الفرد وقيمة العظمة، وتردد فيه القول بسلطان العوامل الاجتماعية كأنه هو السلطان الذي ليس وراءه سلطان

وقد رأينا فعلاً كاتباً إنجليزياً يعقب على محاضرة الأستاذ جوداللا من هذه الناحية، ويسأله سؤالاً يلخص مواضع اعتراضه فيقول: هل هتلر ظهر في البيئة الألمانية لأنها بيئة مقلوبة أو أن هذه البيئة انقلبت لأن هتلر ظهر فيها؟

والظاهر من سؤال المعترض أنه يأخذ بالقول القائل إن الفرد نتيجة منفعلة، وليس بسبب فاعل في الحوادث التاريخية، وأن العظيم لا ينبغ في أمة إلا إذا تمهدت له دواعي الظهور من تكوين تلك الأمة؛ فالعوامل الاجتماعية إذن هي موضع البحث والالتفات، وليست عظمة العظماء ولا جهود الأفراد

وهذا مذهب مبالغ فيه قد جنح إليه الاشتراكيون على الخصوص لأنهم يردون العوامل كلها إلى المجتمع وعناصر تكوينه ومعيشة أبنائه، ولكنهم مهما يبالغوا في هذا فلن يستطيعوا أن يزعموا أن العظماء والصغراء سواء، وأن النوابغ لا يقدرون على عمل يعجز عنه المحرومون من النبوغ. ومتى كان مسلما أن النوابغ يعملون وأن عملهم لا يذهب سدى فهذا هو المهم الذي يستحق النوابغ من أجله دراسة الدارسين وإعجاب المعجبين

يسأل السائلون الفارغون: من صاحب الفضل في السياحة؟ المركب أو البحر أو الريح؟

وهذا سؤال فارغ كما قلنا لأن السياحة كلمة لا معنى لها إذا انفرد المركب أو انفرد البحر أو انفردت الريح

ففي الساعة التي تلفظ فيها كلمة السياحة البحرية تتمثل لما كل هذه العناصر مجتمعات، ولكنها تتمثل أو لا تتمثل تعجز كل العجز عن إنكار حق المركب في إتمام السياحة، وحق المسافر في الاختيار بين مركب ومركب، وحق الشركات في إنشاء المراكب ورصد المسافات كيفما كانت البحار والرياح.

وكذلك العظمة المشهورة كلمة تستلزم وجود الآدميين الذين يشتهر بينهم العظيم بغير فلسفة ولا تعمق ولا استطلاع لمغيبات. ولكن ماذا في هذا مما ينفي أن العظيم أفعل من الصغير، وأن هذه الأفعال جديرة بالتقديم والتأخير في سير الأمور؟

فالفرد شئ والعوامل الاجتماعية شئ، ومن قال إن الفرد لا يهم فقد أنكر الغاية من إصلاح المجتمع كله، لأن كل إصلاح لا ينتهي إلى الاهتمام بالأفراد فهو إصلاح تركه وإنجازه سواء.

عباس محمود العقاد