مجلة الرسالة/العدد 51/العلم يبحث عن الله
مجلة الرسالة/العدد 51/العلم يبحث عن الله
ترجمنا هذا المقال لكاتبإنكليزي بالعنوان المتقدم، وعنينا كل عناية بالمحافظة على معانيه وبإفراغها في قالب عربي أقرب ما يستطاع من القوالب الأصلية، ولزمنا هذه القوالب أحياناً إذ لم نجدها مختلفة عن العربية، لأننا كثيراً ما نرى الترجمة تخالف الأصل في المعاني وفي الألفاظ. وليس لذلك من سبب سوى مبالغة المترجم في تقريبها من العربية فتكون النتيجة شرودها عنهما جميعاً
جلست ذات ليلة شديدة البرد بجانب الأب رولند العالم اليسوعي عند قاعدة التلسكوب الكبير في مرصد ستونيهرست في آكام لنكشير.
ولم يكن هناك نور سوى وهج سيجارتينا وبعض النجوم المتلألئة التي كنا نرعاها من الشق المعقوف في قبة المرصد.
ولم يسمع حس سوى دوي الجهاز المعد لإدارة التلسكوب وجعل حركته مطابقة لدوران الأرض.
وكنت قد رأيت جبال القمر ومجموعة الكواكب الذرية المعروفة باسم الثريا. فجعلت الآن أمتع بصري بذلك السدام الغريب في برج الجوزاء، وأنا بين عاملين من الخوف والدهش مما لا تجلبه المناظر الأرضية.
فالتفت إلى صاحبي وقلت: (تعلم عن هذا الفلك المدار ما لا يعلم معظم الناس، لأنك قضيت ردحاً من عمرك في رصد النجوم فأصبحت لذلك أكثر إدراكاً منهم لصغر شأن الإنسان بالنسبة إلى سائر الكون. فان الأرض ليست سوى ذرة من الغبار وهي عائمة في الفضاء الخصم غير المحدود، والنوع الإنساني كله صغير القدر بالنسبة إلى قدر الأرض. فلست أفهم كيف تؤمن أنت من بين سائر الناس بالله واهتمامه بأناس مثلنا).
ولما فرغت من سؤالي هذا بقي القسيس العالم صامتاً هنيهة ثم قال:
(أفهم حقارة شأن الأرض لا حقارة النوع الإنساني ولا حقارة أرواح الناس).
فلم أحِرْ جواباًحينئذ، ولاجواب عندي الآن، لأني أدرك اكثر مما أدركت قبلاً أنه إذا كان العالم متديناً كان احسن ديناً لأنه عالم. وهو يرى حيثما كان أن البرهان يدعم إيمانه لا لأنه يحتاج إلى البرهان، ولكنه يسرّ إذ يجده هناك
طالعت منذ عهد قريب كتاباً اسمه (القصد الأعظم) وفيه فصول كتب ك معروف، أبان في الفصل هذا كتبه إن يد الله وعقل الله وراء كل نظام ورقي في الطبيعة. وقد جاء في مقدمته (إن غرض الكتاب أن يبين أن العلم ليس بهادم للدين ولا بحال محله، بل انه يكشف له الحجاب عن عالم للغيب أوسع من عالم الشهادة هذا واجل شأناً فيضع بذلك أساساً اثبت للإيمان)
إن الكون بالرغم من عظم اتساعه وتعقد تركيبه وتعدد محتوياته إلى ما لا حد له هو جسم كلي عضوي متسق التركيب، ومصنوع من عناصر واحدة جوهرية، وخاضع لنواميس واحدة.
ومن أدلة النظام والعقل في الكون إن عقل الإنسان استطاع أن يستخرج هذه القواعد العظيمة العامة ويتوسل بها إلى بلوغ قوة الأنباء بالمستقبل. فهذا الكون كون مصحوب بالفكر واكثر من الفكر - كون يمثل روح واجب الوجود وغير محدود.
كتب البروفسور كروذر من جامعة رد نج فصلاً عن الإشعاع فعرفه بأنه (المادة الأساسية التي صنع الكون منها) فالنور والحرارة وأمواج اللاسلكية وأشعة اكس - هذه كلها صور للإشعاع واقعة تحت حسنا. والمادة نفسها مصنوعة من إشعاع مقيد بقيود كهربائية. قال:
(في زمان بعيد جداً اهتز ذلك الخلاء الفارغ فظهر فيه البروتون والإلكترون فتكون من بعضها تلك النظم الثابتة المعروفة باسم الجواهر الفردة التي صنعت المادة منها. وانحل البعض الآخر على مر الزمان إلى إشعاع صرف. وقد قطع العلم منذ ابتدائه أجوازاً كثيرة وكشف بقاعاً كثيرة كانت مجهولة، ودار دورته حتى جابه العلم الحديث سر عمل الخلق فلا يجد لوصفه كلاماً اكثر مطابقة له من قول الشاعر العبري (وقال الله ليكن نور فكان نور) (يريد بالشاعر العبري موسى الكليم)
وخذ البروتوبلازم - أي المادة التي تكونت الحياة منها. فقد عرف تركيبها الكيميائي، ولكننا لم نستطع تركيب الحياة: فالأميبا أدنى أنواع الحيوان وابسطها تركيباً مؤلفة من بروتوبلازم صرف، وهي قطرة صغيرة من المادة الجلاتينية تعيش في الماء. وقد حاول كثيرون أن يصنعوا الأميبا من المواد الكيمائية التي يتألف البروتوبلازم منها فعجزوا عن ذلك. فالمواد مضبوطة والنسبة بينها صحيحة والأحوال المحيطة بها ملائمة تمام الملاءمة، ولكن الشرارة الحيوية لاوجود لها، إذ الله وحده هو الذي يصنع الحياة.
قال البروفسور آرثر طمسن: (لامناص لنا من التسليم بالأولية التي وضعها أرسطو طاليس وهي انه في كل سلسة من الأعمال المتصلة لا يمكن أن يظهر في آخرها شيء لم يكن نوعه موجوداً في أولها. ولذلك فان عقلنا وقصة تحرره يقوداننا راجعين بنا شيئاً فشياً إلى العقل الأعظم الذي بغيره لم يكن شيء مما كان)
وبعبارة أخرى انه كيفما فحص العالم تركيب الكون ونواميس الطبيعة ونشوء الحياة حتى عقل الإنسان لم ير مفرا من التسليم بأن وراء القصد الأعظم يد الله.
ق. س