مجلة الرسالة/العدد 51/صور من الحياة البائدة

مجلة الرسالة/العدد 51/صور من الحياة البائدة

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 06 - 1934



للآنسة أسماء فهمي درجة الشرف في الآداب

على ضفاف (بحر يوسف) حيث قام في العصور السحيقة قصر (التيه) أو (اللابرنته) وفي وسط الحقول النظرة ظهر في جلال على ربوة تناثرت فوقها نباتات برية مزدهرة يقوم قصر آل عباد الفخيم. ولم يشأ القصر أن ينسجم مع ما يحيط به من بساطة فأغرق في الزخرف والزينة وأبى إلا أن يجمع بين إسراف الفن القوطي من تماثيل رمزية وأبراج، وروعة الفن العربي من نقوش وعمد، فبدا وكأنه الحسناء التي طمعت أن تزداد حسناً فأسرفت في الزينة والتبرج، فهوى جمالها النظر في خضم من الأصباغ والمساحيق الجامدة. . . ولكن سكان القصر واغلب زائريه كانوا يقفون مبهوتين أمام فخامته، لأن البذخ والإسراف كانا لديهم مقياس الفن والجمال.

ولم يكن داخل القصر بطبيعة الحال اقل زخرفا أو إغراقاً في التجمل من خارجه. وكان المبدأ الذي أتبع في تأثيث القصر المنيف هو اقتناء أثمن الأشياء من بلاد الشرق وممالك الغرب وتكديسها في الغرف دون مراعاة لما بين أنواعها من تفاهم أو تنافر، والواقع أن أثاث المنزل كان دوليا بكل ما في الكلمة من معنى التباين والتنافر! وسكان الدار؟ كانت أيضاً خصالهم وعاداتهم خليطاً من صفات الشعوب في عصور التاريخ المختلفة، فلقد جمعوا بين ديمقراطية العرب وسخائهم وتعصب أهل القرون الوسطى في الدين واحتقارهم للمرأة، وبين زخرف القرن الثامن عشر وانغماسه في التزين , وأضافواإلى كل ذلك تفانى أهل القرن العشرين في عبادة المادة. .

وكان رب هذه الدار عميد آل عباد الشهيرة في الفيوم شيخاً مسناً معروفاً بالتقى والكرم في عناد وصلابة. ولكن على الرغم من تقواه كان لا يتورع من أن يزيد في ثروته الطائلة بأي وسيلة تصادفه، وكان إذا اصبح الصباح بادر بالجلوس على حصير متواضع في أحد أجرانه الفسيحة، وسرعان ما يجتمع حوله فلاحوه واتباعه يبسطون أمامه خصوماتهم ومشاكلهم فيقضي بينهم في وقار وحزم كما كان يفعل النبيل في عهد الإقطاع. . حتى إذا ما حان وقت الغداء، أمر بإعداد الموائد للاتباع والفقراء، ويأبى السيد إلا أن يأكل معهم برغم احتجاج أبنائه الذين أخذوا بقسط من مظاهر المدنية الحديثة، ودرسوا علم الجراث الاجتماعية ووقفوا على أن الفقراء والمعوزين من أفتك أنواعها! ولكن الشيخ كان يرد على مثل هذا الاحتجاج باسماً قائلاً: إن الفقراءأحباب الله. . وإذا ما نادى مناد للصلاة هرول الشيخ إلى مسجد القرية تتبعه جموع الرجال. وقد أدى ورع السيد إلى تورع الأتباع حتى أكثر الأشقياء جبروتاً وعتواً. .

أما زوجة السيد فلم تكن على شيء من نشاطه وبساطته؛ قضت حياتها كلها قعيدة دارها لم تخرج منه إلا يوم وفاة أمها من أكثر من عشرين عاما. وكانت على جانب عظيم من البدانة لا ترتدي من الأثواب غير الحرائر النادرة التي يطول ذيلها أمتاراً وراءها. . وتحمل حول عنقها وأناملها ومعصميها وفي أذنيها أرطالا من اللؤلؤ والماس والذهب، فضلا عما أكثرت من الأصباغ المختلفة الألوان في الرأس والوجه واليدينوالقدمين فغاصت شخصيتها في ضخم من المساحيق والحرائر والجواهر. . وبدت في مجلسها كصنم هائل تكدست فوقه قرابين الحلي والجواهر وضعت حيثما اتفق لإرضاء عاطفة الورع.!

وقد كانت بطبيعة الحال لفرط بدانتها وثقل أحجارها الكريمة بطيئة الحركة تشتد ضربات قلبها لأقل مجهود، وقد ترتمي على مقعدها إعياء لمجرد محاولتها النهوض، فيأتي رهط من الخدم للأخذ بيدها وإنهاضها كما لو كانت عجوزاً شمطاء قد قطعت شوطاً بعيداً في طريق العدم.

وعلى مقربه من الأم كانت تجلس أبنّتها (سمر) وهي غادة هيفاء لولا ضعفها البادي وشحوبها لما بخل عليها حتى أقسى حسادها بوصف الحسن الرائع، ولكنها كانت كالزهرة التي أقصيت عن الضوء والهواء فذبلت وتهدلت أوراقها. ولم تحاول الفتاة أن تخفي الشحوب بالأصباغ (وإن قد اجتهدت في إخفاء النحول بكثرة الكرانيش والذيول) لأن ذلك العهد لم يبح للمرأة أن تتجمل إلا إذا كانت ذات بعل. . أما المذهب الذي يدعو إلى الاهتمام بالفن للفن، فلم يكن مألوفاً عند بنات ذلك العصر، وإنما من مستحدثات هذا القرن!

كرت الأعوام على هذه الأسرة والحياة تسير على وتيرة واحدة لا تنوع فيها إلا تغيير أنواع الطعام الكثيرة، وتبديل الملابس والجواهر التي اكتظت بها الصناديق والخزائن - ولكن لم تلبث الأيام التي تلد العجائب أن تمخضت عن حادث هام أدخل في حياة الأسرة الراكدة انتعاشاً وجدة. . وحول تفكيرها إلى مجرى غير مجرى الطعام والشراب والملبس. . فلقد خطب الشاب مراد ابنة عمه (سمر) إلى أبيها، وقبل الشيخ عباد راضياً مسروراً، لأن مرادا كان يمتاز بأسمى صفات الرجولة من نبل وشجاعة وقوة فوق جاهه العريض وجماله. وقد فرحت الفتاة سمر عند وقوفها على هذا النبأ، لأن مراداً كان رفيقها في عهد الطفولة، وهي وان كانت لم تره منذ زمن بعيد كانت تسمع الكثير عن خصاله وجماله.

وكانت الأم منذ إعلان الخطبة لا تطيق ابتعاد ابنتها عن مجلسها، وفي ذات يوم فاضت عاطفة الأم عند ما تذكرت انه لم يبق على زفاف ابنتها سوى أيام قلائل، فجّرت نفسها نحوها بمجهود غير يسير، ووضعت ذراعها الغليظة حول جسم الفتاة النحيل، وقالت وهي تلهث من التعب: - أواه يا ابنتي! عما قليل ستزفين إلى ابن عمك مراد، لا يحزنني أمر فوق ما يحزنني منك هذا النحول. . أتوسل إليك يا سمر أن تأكلي وتشربي كل ما آتيك به. . وليس هناك من دواء للنحول كشرب كوبه من السمن الخالص أو المحلى بالعسل كل صباح وكل مساء. . انظري إلى أمك! إنها لم تستمتع بهذا الهيكل العظيم من اللحم الذي يحسدها عليه جميع نساء آل عباد إلا بفضل هذا الدواء الناجع الذي أشير به عليك الآن. .

فقالت الفتاة وقد توردت وجنتاها حياء لذكر موضوع الزفاف، آسف لإيلامك يا أماه. . سأحاول مرة أخرى تعاطي هذا الدواء، ولكني أوثر البقاء بجانبك طول الحياة. . . إني لأرتعد فرقا عندما أفكر أني سأغادر هذه الدار المحبوبة قريبًا لأذهب إلى دار غريبة لا أعلم من أمرها أو من أمر ساكنيها إلا ما أسمعه من أفواه الرواة. . أني لم أر عمي (قاسما) إلا مرات معدودة، كنت فيها لا أجسر على مخاطبته أو النظر في وجهه استحياء. . أهوَ طيب القلب يا أماه؟ وزوجه؟ أحقاً ما نسمعه من أنها شديدة الورع؟. .

أجابت الأم وهي تحاول إخفاء تأثرها: عمك يا ابنتي كأبيك نبيل كريم. أما زوج عمك فهي شديدة التقى كثيرة التعبد، ولكن ذلك قد لا يمنعها من أن تتصف برذائل الحماة. . وما أدراك يا سمر ما الحماة. . إنها نار الله الموقدة، أو أحد شياطين الجحيم المردة. . أني يا ابنتي لم أتذوق طعم الحياة الرغيدة إلا بعد أن ماتت حماتي!

ارتعدت فرائص الفتاة عند سماع هذا القول وأبرقت عيناها ببريق الكره والخوف معاً، وقالت والعبرات تكاد تحبس صوتها: - وماذا أنا فاعله يا أماه؟. .

اخضعي لحكم القدر، واستعيني برب الفلق على شر ما خلق!. .

انهمرت عبرات الفتاة على الرغم من أيمانها الشديد. ودخل أبوها مهرولاً في تلك اللحظة فانقطع مجرى الحديث، لان الفتاة أسرعت بالاختفاء إذ أصبحت لا تجرؤ على مواجهة أبيها منذ خطبتها مدفوعة بعامل الحياء الشديد. . . ولم يحاول الأب استبقاء فتاته وان كان الموضوع الذي أتى ليعالجه مع امرأته يعني الفتاة دون سواها، لأنه أتى طبعاً ليتكلم في موضوع العرس، هذا الأمر الذي كان محور حديث الأسر، ماعدا الفتاة قضت عليها التقاليد بكتمان آرائها ورغائبها وعدم الخوض في موضوع الزواج. .

قال الأب بعد فترة سكون لم تحاول ألأم بدء الحديث في أثنائهابرغم تشوقها للوقوف على احدث تفاصيل موضوع العرس، لأنها كانت تهاب الزوج وتخشاه.

سيتم كل شي بعد أيام بأذن الله على رغم تجدد الخلاف بيني وبينهم أخي قاسم من جراء اقتسام تركه أمنا المتوفاة. انه يصر على أن يأخذ منها ما وقع عليه اختياره، وينتهز فرصة العرس ليحملني على التساهل. . كلا. . ومن بيده الملك، ولو آل الأمر إلى دك أعلام الزينة وإطفاء أنوار الأفراح. .

قالت ألام بصوت خافت لا يخلو من رعشة الوجل: - ولكنا لا نجد عريساً لأبنتنا خيرا من مراد، فلا تحجم عن التضحية من اجله.

فأجاب الأب وهو يرتجف من شدة الغضب: انك شديدة الغباوة يا (مُنى). . أني قادر على مصاهرة من يدفع لي من المهر أضعاف اضعاف ما دفع أخي لابنتي - لقد كانت على عيني غشاوة عندما قبلت هذا المهر من اللئيم أخي. .

أخذت الأم تحس بالجبن والخوف أمام غضبه، فقالت باستسلام انك على حق دائماً يا سيدي. .

نهض الشيخ بخفة الشباب وأسرع للإشراف على معدات العرس، إذ كان قد وطد العزم على إتمامه في اليوم التالي منتظراً من ورائه إتمام صفقة رابحة، وهذا نفس ما كان يرجوه أخوه. .

نصب السرادق وسطعت الأنوار، وصدحت الموسيقى، وأطلقت البنادق وزغردت النساء، وظهر قصر آل عباد في حلة قشيبة من الزينة والبهاء في ليلة الزفاف. أسرع وجهاء القوم بالحضور إلى الفيوم من الدلتا والصعيد، ليروا ابرع نموذج في البذخ والإسراف، إذ كان لآل عباد من الشهرة ومن الثروة ما كان لخمارويه وكافور الأخشيد. . واكتظت حجرة العروس بكرائم العقائل وكرائم الجواهر، وتعالت أصوات المغنيات البدينات بالغناء، وأخذن في الرقص والانثناء أمام العروس كالحيات. .

ولكن العروس كانت عن كل ذلك في شغل، فقد غلب عليها الخوف فتركت العنان لعبراتها، ولم يستغرب منها أحد هذا الأمر، لان بكاء العروس في ليلة الزفاف كان من الأشياء المألوفة المرغوبة، إذ كان يعد رمز الحياء ودليل الوفاء والطهر. . . ومن جفت دموعها في تلك الليلة فقد حكم عليه بالجرأة وغلظة القلب. .

ولم تلبث الحياة أن استعادت مجراها الطبيعي الهادئ وانقشعت سحب الرهبة والخوف التي طالما تجمعت في سماء حياة الفتاة قبل الزواج، إذ وجدت في قرينها من العطف والود ما أنساها شكوكها وملأها سعادة وحباً وإخلاصًا له. وفي ظل زوجها ورعايته نسيت أقوال أمها عن الحماة الشريرة، بل إنها وجدت في حماتها قديسة طاهرة لا تحمل في نفسها إلا التسامح والعطف. .

وهكذا نعمت الفتاة بعيشها، وساعدتها وداعتها ورقتها وطيب عنصرها على إدخال السرور من حولها. .

ومضت اشهر قلائل والفتاة لا تفكر في مرور الوقت ولا تكترث لمعرفة الايام، اذ لم تكن ترقب حدوث تغييًر أو وقوع جديد، لأنها كانت راضية عن حياتها كل الرضا، لا تعرف ولا تطمع في خير منها. . ولكن هل يغر بطيب العيش إنسان؟

خرج مراد كعادته مبكراً مشرق الجبين للإشراف على شؤون مزارعه، وجلست الفتاة في ردهة فسيحة أنيقة تخيط بعض الثياب لأطفال الفقراء، إذ كان لا يسعدها اكثر من رؤية ابتهاج الأطفال عند ارتدائهم الثوب الجديد، وإذا بها تسمع جلبة أصوات في فناء الدار، فأرهفت السمع، وسرعان ما تبينت صوت أبيها يتهدج بالغضب وعمها يجيبه بحدة، ثم انقلبت المحاولة إلى شجار عنيف وتقاذف بالتهم والعبارات الجارحة، فاضطرب فؤادها ونزلت مسرعة تبحث عن من يأتي بزوجها، إذ توقعت حدوث أمر رهيب، وشعرت بحاجتها لحمايته. ولكنها لم تكد تخطو خطوات حتى سمعت أباها يناديها بصوته الهائل الأجش فوقفت مذعورة لا تبدي حراكا. .

وسرعان ما وقعت على مسامعها كلمات كانت كالحكم عليها بالموت (هيا معي يا سمر. . ليس لك بقاء بعد اليوم في هذا البيت. . الترمل خير لك من العيش في هذا الجو الموبوء بالخداع واللؤم. . عمك يأبى إلا الاستيلاء على أطيب جزء من ميراث جدتك. . لقد أنذرته بفسخ زواجك من قبل إن هو أصر. .)

ولكن يا أبت. . ألا ننتظر عودة مراد؟. أليس له في الأمر شيء. .؟

له في الأمر شيء؟! ما هذا الجرأة يا بنية؟ أتجرئين على مجادلة أبيك ابتغاء مرضاة زوجك؟ - لا تزيدي حرفاً. انطلقي أمامي إلى دار أبيك.

أصابت الفتاة رعشة واعتراها دوار، فسارت أمامه متثاقلة وضاق أبوها ذرعاً بهذا البطء، فجذبها مسرعاً إلى حيث كانت بانتظاره المركبة. .

انطلقت الخيل تنهب الأرض نهباً، ولزمت الفتاة الصمت، بينما كان أبوها يصب جام غضبه على الحوذي ويتهمه بالبلادة والبطء ويتوعد باستعمال السوط!

تزاحمت الأفكار السوداء في رأس الفتاة الصامتة فداخلها الندم، لأنها تذوقت طعم السعادة، وودت لو أنها كانت تعسة في حياتها الزوجية، حتى كانت تفرح بالفرار منها والعودة إلى دار أبيها. . وأحزنها أنها لم تجد في حماتها شيطاناً مريداً، وأن زوجها لم يكن جبارا عتياً. .

وأخيراً عندما لاحت أبراج القصر خاطب الوالد فتاته بعطف إذ كانت قد بردت ثورة الغضب:

ألا تبتهجين بمرأى أمك يا سمر؟

ولما لم تنجح الفتاة في تكلف الانشراح خاطبها قائلا:

لا أشك في أن عمك قاسما وزوجك مراداً سيحضران إلينا خاضعين ذليلين عندما يشعران بفقدك، ولا أخالهما إلا قادمين قبل انطواء أسبوع واحد. .

ولكن مرت أسابيع واشهر، واكتملت دورة الأرض حول الشمس ومراد وأبوه لم يقدما، على أن الفتى كان يرغم إرغامًا على الخضوع لأبيه، إذ كان كالفتاة عبداً للتقاليد الجائرة.

وكانت الفتاة تتظاهر بالشجاعةوالابتهاج عندما شعرت بحزن أمها من اجلها. ولكن مجهود التكلف المضني والآلام المبرحة التي كانت تأكل قلبها سرعان ما أنهكت قواها وأفسحت الطريق للمرض العضال الذي لا يعرف الرفق بالشباب ولا الجمال، ولما اشتد بها أشفق عليها ملاك الموت فأسرع لنجدتها وبسط على تلك النفس الطيعة الوفية جناح الرحمة الأبدية. .

أسماء فهمي