مجلة الرسالة/العدد 512/الحديث ذو شجون

مجلة الرسالة/العدد 512/الحديث ذو شجون

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 04 - 1943


للدكتور زكي مبارك

بلاء الناس بالناس - ملك الشط والفراتين - زيارة سياسية

بلاء الناس بالناس

تمرّ بنا لحظات كدر وغيظ لا يخلقها غير بلاء الناس بالناس. . . نعم، تمرّ بنا لحظات نحسد فيها سكان المغاور والكهوف، ونتمنى عيش العزلة إلى آخر الزمان

هذه الحرب صنعت ما صنعت بالأرزاق والأقوات، ولم تترك بيتاً بلا متاعب معاشية، فهل تأدب الناس وتذكروا أنهم يعيشون في أعوام حرب؟ وهل تقع العيون على ناس تشهد ملابسهم بأنهم يعانون أزمات الحرب؟

قيل أن المال كثر وفاض، فعند من كثر المال وفاض؟ لم يكثر إلا عند التجار. وكثرة المال عند التجار مفسدة معاشية لا يدرك خطرها إلا الأقلون، وهي ناشئة عن بلاء الناس بالناس. . . ولكن كيف؟

الموظف المحدود الراتب، والمالك المحدود الإيراد، لا يريد هذا أو ذاك أن يقال إن حياته تعرضت لمتاعب الغلاء، فهو كما كان يعيش في أيام الرخاء، وإن كلفه ذلك غمّ القلب وهموم الديون

ما هذه الملابس الجديدة في زمن ليس فيه جديد غير دماء القتال؟ وما هذه العطور والمساحيق والأزياء في أيام لا يتعطر فيها الجو بغير جثث المحاربين؟

لو راعى الناس أنهم يعيشون في زمن حرب فخففوا من بعض المطالب لاعتدلت أسعار الحاجيات وانقشع كرب الغلاء، ولكنهم لجهلهم يأبون الاعتراف بمكاره الحرب، ويصروّن على الظهور بمظهر الوجاهة في كل مجتمع وفي كل ناد

هل عندك أبناء وبنات يتعلمون في المدارس؟

لك الله، إن كان هذا حالك، فلن تستطيع أن تقنع ابنك أو بنتك بأن الدنيا في حرب وكرب، لأن هذا الإقناع لن يتيسر إلا إذا عُقد مؤتمر من آباء التلاميذ يقررون فيه الاستغناء عن الفضول في الملابس والأزياء، ولن يُعقد المؤتمر المنشود إلا إذا وجد في آباء التلاميذ من يجرؤ على القول بأن أعوام الحرب صيرته خفيف الجيب! وآه ثم آه من بلاء الناس بالناس!

قَدِمَ مندوب المتجر الفلاني إلى المدرسة الفلانية وأخذ مقاس جميع التلميذات بدون استئذان ليعدّ لهن أثواب الصيف، وهو موقن بأن لن يكون في مقدور تلميذة أن ترفض ثوبها (يوم الحساب) لئلا يقال إن أباها من الفقراء!

فما شأن المتجر الفلاني بالمدرسة الفلانية؟

وما الذي يوجب أن تكون ملابس جميع التلميذات كأسنان المشط في اللون والاستواء. وقد نوّع الله الوجوه والملامح أغرب التنويع؟

أفي مثل هذه الأيام نعرف الفروق بين ملابس الصيف وملابس الشتاء؟

كان الظن أن يعرف نظار وناظرات بعض المدارس أن في الآباء من لم يستفد من فرص الحرب، كما استفاد من سيكونون طعام سقر من التجار المنهومين

وكان الظن بالأغنياء الذين يدللون أبناءهم أن يتذكروا أن لأبنائهم رفاقاً لا يملكون من الترف ما يملكون، وأن الأدب مع الله يفرض علينا أن نستر نعم الله، فلا نجأر في كل لحظة بأننا أغنياء، لنكدر عيش الفقراء

وآه ثم آه من بلاء الناس بالناس!

الظواهر لا تشغل الخلائق إلا حين يُحرمون جمال المعاني

والمفاضلة بين تلميذ وتلميذ في هذا العصر مفاضلة بين ثوب وثوب، وليست مفاضلة بين عقل وعقل، ولهذا كثرت خيبة التلاميذ النجباء!

ما لي ولهذا الكلام المزعج؟

هو كلام ساقه جزعي من العجز عن ادخار درهم واحد في مدى شهرين، بسبب الجو الذي يحيط بي وبأبنائي، جوّ الزخرف الذي يحيا فيه الأصحاب والجيران

كنت أوصي تلاميذي في مصر وفي العراق بالادخار، وكنت أقول لهم إن الادخار هو الذي منحني الفرصة لإتمام دراستي العالية في باريس، بعد توفيق الله. واليوم يصعب عليّ أن أوصي أبنائي بما كنت أوصي به تلاميذي. وكيف يسمع أبنائي ما أقول ومن حولهم خلائق عجز عن تأديبها الزمان؟

إن عدوى الترف سريعة الإيذاء، فلنحترس من شرها كل الاحتراس وكيف نحترس وليس في الدنيا طفلٌ يعرف أن أباه لا يبخل عليه بالترف إلا ليدّخر له ما ينفع في الأيام المقبلات؟

إن أبناءنا لا يريدون أن نطمئن على سلامتهم من الوجهة الروحية، وإلا فكيف جاز أن تكثر رغبتهم في الزخارف وثقل رغبتهم في الحقائق؟

عفا الله عنهم، فهم ضحايا بلاء الناس بالناس!

إن حال الرجال من هذه الناحية مقبول، فما أذكر أني رأيت مدرساً أو مفتشاً يهتم بملابسه اهتماماً يوجب الاعتراض، وإنما الحال المزعج هو حال بعض المدرسات والمفتشات، حال الفساتين التي لا تجاوز الركبتين، حال الزينة التي تنافي وقار التعليم، وكان مهنة الأنبياء

وفي إحدى المدارس رأيت مدرِّسة ضنت على نفسها بالزينة الزخرفية، فزاد إيماني بعظمة بلادي، وأيقنت أن (ربة البيت) بخير وعافية، وأن مصر في أمان من طغيان الخسران

عندنا مدرِّسات حقاً وصدقاً، مدرسات يتحلين بالعلم لا بالزينة، وبفضل أمثال هؤلاء المدرسات سنبلغ من تعليم البنات ما نريد

المدرسات المصريات في هذا العهد يجاهدن بصدق للتغلب على السخف الذي جلبه الجانب الضعيف من المدنية الغربية، ويحاولن بصدق أن يكن مدرسات لا وصيفات

وقد صار من المألوف أن تجد مدرسات يقهرنك قهراً على بذل تحية التعظيم والتبجيل، وهي تحية أكرم وأشرف من تحية الحسن المجلوب

وأرجو أن يفهم القارئ أن كلامي هذا لا يراد به الإيحاء، فما هو إلا صدق في صدق، بعد ملاحظات ومشاهدات جعلتني من المطمئنين إلى صحة ما أقول

وأنا مع هذا منزعج مما صرنا إليه في مدارس البنات ومدارس البنين

هل عندنا مدرسة توصي تلاميذها بأن لا يكلفوا آباءهم ما لا يطاق؟

هل عندنا مدرسة تفكر في أن تكون من الأسندة للبيوت؟

التلميذ لا ينجح بتفوق إلا إذا أمدته المقادير بالدروس الخصوصية، فمتى نثق بكفاية الدروس المدرسية؟

وما قيمة المدرس الذي لا يتفتح عقل تلميذه إلا إن خاطبه لسان إلى لسان؛ بين أربعة جدران؟ أعوذ بالله من بلاء الناس بالناس!

ملك الشط والفراتين في ضيافة النيل

من مزايا مجلة (الرسالة) أنها تسكت عن الأشخاص ليكون التفاتها كله إلى المعاني، وذلك هو السر في عدم اهتمامها بالإخباريات المتصلة بالأشخاص

قلت لنفسي: ولكن في الأشخاص من يكونون رموزاً للمعاني، فما الذي يمنع من أن أقول على صفحات الرسالة: أهلاً وسهلاً ومرحباً بملك الشط والفراتين!

كانوا يسمونه الملك الطفل، فسميته الملك الشبل، جعله الله أكرم الأشبال!

و (ملك الشط والفراتين) لقبٌ جميل صاغه شاعرنا شوقي في القصيد الذي يغنيه محمد عبد الوهاب في تحية فيصل الأول. والشط هو شط العرب، والفراتان: دجلة والفرات. . . ولو كانت الأقدار سمحت بأن يزور شوقي ديار (الشط والفراتين) لجاد شعره بأطايب لا يجود بمثلها الخيال

وهل كان شوقي يشعر بقيمة المبدأ الذي رسمه حين جعل ملك العراق ملك الشط والفراتين؟

ما أغرب ما سمعت في بغداد سنة 1938

سمعت أن العراقيين دعوا (الملك فيصل الأول) إلى الاحتفاظ بالموصل في المؤتمر الذي عقدوه في (الصُّليخ)، فما الصليخ؟

هو مكان في ضواحي بغداد مرت به لحظة تاريخية. وقد زرته زيارة الطيف في ليلة شاتية لأتنسم الجو الذي قيل فيه بحضرة فيصل الأول: إن العراق لا يستغني عن الموصل بأي حال

ثم زرت الموصل الذي لا يجوز عنه الاستغناء فهالني أن أرى روحانيات مختلفات، وعز عليَّ أن يكون الموصل مما يدخل في الحساب عند تقسيم المغاني، مع أنه كان ولا يزال ولن يزال من صميم الأرومة العربية

وقد زرت الشط، شط العرب، بعد أن شهدت العراك الذي دار في مجلس النواب العراقي حول معاهدة الحدود

وأصغيت بأذنيَّ وبقلبي إلى الصوت الذي قال: من غفلة العرب أن ينسوا الأهواز، مع أنها أحق بالعطف من فلسطين لقد نفضت يدي من السياسة بعد أن آذتني في وطني.

فكيف جاز أن ألتفت إلى السياسة يوم كنت ضيف العراق؟

هي سياسة روحية تشبه السياسة التي تساور قلبي حين أزور دمياط المصرع الذي انتهى إليه (جامع الفتح) وهو المسجد الثاني في مصر بعد مسجد عمرو بن العاص

دعوت سادن جامع الفتح مرة ومرات فما أجاب؟ وأين السادن لمسجد لا تهتم به لجنة الآثار العربية ولا وزارة الأوقاف؟

ليتني صليت ركعتين على باب ذلك المسجد، وليتني تيممت بما على جدرانه من تراب!

لقد زرت في دمياط مشاهد يجهلها الدكتور علي مصطفى مشرفة ويجهلها الأستاذ عبده حسن الزيات، زرت البلد الذي تحدثت عنه في كتاب (التصوف الإسلامي) قبل أن أراه، لأرفع عن عقلي بعض ما يثقله من أوزار الجهل!

وأين من يعرف حقيقة ما أرويه في هذا الحديث؟

دمياط صورة من البصرة والبصرة صورة من دمياط

الطريق إلى هاتين المدينتين محفوف بالنخيل، وكلتاهما ملتقى للماء العذب والماء الأجاج، مع فروق أوجبها بعد البصرة من دمياط، وكلا البلدين ثغرٌ مخوف، فما يعيش العراق بدون أمان البصرة، ولا تعيش مصر بدون أمان دمياط

هذه السياسة الروحية تزلزل روحي، فلي في كل بلد آلام وآمال، وأنا أجول جولات روحية بكل ما أحب من البلاد في كل مساء، وكأنني أجول في شارع فؤاد. وهل يوجد في أية مدينة شارع له جاذبية شارع فؤاد؟

بالرغم مني أن يكون حظي من المرور بذلك الشارع شبيهاً بمرور الطيف على ديار الأحباب

شارع فؤاد هو طريقي إلى المفوضية العراقية، فهل سمح الوقت بأن أزور فخامة السيد جميل المدفعي وكان رئيس الوزراء حين كنت من الذين يتشرفون بخدمة العلم والأدب في العراق؟

المصري الصادق في خدمة وطنه لا يجد وقتاً لأداء حقوق المجاملات، لأن الشواغل عندنا تفوق الوصف، ولأن في حياتنا متاعب لا يعاني مثلها أحد في سائر البلاد العربية إذا وفد إلى مصر زائرٌ كريم تلفت عساه يرى من يخفون لتحيته من المصريين، ثم تكون النتيجة أن لا يرى غير آحاد من الذين تسمح أوقاتهم بتحية الضيوف، فينصرف وهو متعجب من تهاون المصريين في المجاملات الإخوانية

أقول هذا لأعتذر لفخامة السيد جميل المدفعي، راجياً أن أراه في فرصة قريبة بالقاهرة أو بغداد.

زيارة سياسية!

ضاق الوقت عن التشرف بمقابلة صاحب الجلالة فيصل الثاني، وكنت أحب أن أعرف البواعث لزيارته الكريمة، فقد سمعت ناساً يقولون إنها زيارة سياسية!

نعيش إن شاء الله ويعيش فيصل الثاني إلى أن يتولى السلطة الدستورية وتُصبغ كل أسفاره بالصبغة السياسية. أما زيارة اليوم فهي زيارة ملك ناشئ لا يرى غير الورود والرياحين

وأنا مع هذا موقن بأن زيارته لمصر زيارة سياسية، فقد أبدع بروحه اللطيف جاذبية أخوية تزيد ما بين مصر والعراق من صلات السياسة ليست مقصورة على النظر في المنافع العاجلة أو الآجلة في حيوات الشعوب، فهناك سياسة أعظم وأرفع، وهي سياسة الحب والوداد. والملك فيصل الثاني يسمع من أخبار مصر ما يسمع، ويقرأ من مؤلفات رجالها ما يقرأ، فكان من الواجب أن يراها بعينيه ليحس روحها بأوفى وأصدق ما يكون الإحساس

انتظروا قليلاً، فسترون يوماً أن هذا الملك الناشئ دوّن في مذكراته البسيطة أشياء، فمن المؤكد أن صدره فاض بالجذل والارتياح والاغتباط حين رأى أن لغة العرب لها مدينة مثل القاهرة، ومن المؤكد أنه اطمأن على مصير العروبة حين رأى أن اشتباك المصالح الدولية لم يزحزح القاهرة عن خطتها العربية

وهنا أقول إنه يجب على كل عربي أن يزور القاهرة وأن يرى ما فيها من المدارس والمعاهد والكليات

عاصمة مصر هي العاصمة الأولى في الشرق، وهي في الحضارة والمدنية أعظم من استانبول، وهي أبقى على الزمن من أخطر حواضر اليابان، فقد نجانا الله من أهوال الزلازل والبراكين، وأنعم على بلادنا بوفاء النيل، وأعاننا على كبح ما فُطر عليه من الطغيان ومصر التي هدت الإنسانية إلى حقائق لم يعرفها الغرب إلا بعد أجيال وأجيال ستظل على الدهر وطن الابتكار والابتداع في أكثر الميادين. وهل نطق ناطق بحقيقة علمية أو أدبية أو فلسفية إلا وهو مدين لآبائنا الأولين؟

عنا أُخذ الكفر وعنا أُخذ الإيمان، فما كفر كافر ولا آمن مؤمن بدون أن يكون لنا في عقله وقلبه ديون ثقال

وهل يعرف أحد كيف كفر المصريون في طفولة التاريخ؟

لقد فكروا في محاربة السماء، ليبددوا الوهم القائل بوجود السماء، وأين السماء التي يقيم بها الله، كما كان يقال؟

مصر من صُنع الله، والله لا يصنع غير الحقائق الأزلية، وسيشقى من يشقى في محاربة مصر، ثم تبقى إلى الأبد وهي غرة في جبين الوجود

ما أسعد من يرى مصر أول مرة وهو سليم القلب والوجدان!

إن رؤية مصر في كل صباح وفي كل مساء وعلى طول السنين لم تزهدنا في مرآها الجميل، فكيف تكون الانفعالات النفسية في صدر من يراها لأول عهده بقلبها الخفاق؟

وأنا مع هذا أعاني في رحابك يا وطني ما أعاني، فمتى يخف شقائي بك وعتابي عليك؟

أنا أطلب المستحيل إن طلبت في رحابك الأمان كل الأمان، لأنه حظ الأموات، ونحن أحياء

لك يا وطني أن تبدع ما تبدع من تهاويل الحقائق والأباطيل، وعلينا أن نجاري روحك المبدع فنكون من أقطاب الشعر والبيان.

زكي مبارك