مجلة الرسالة/العدد 512/ظاهرة جديدة في الأزهر

مجلة الرسالة/العدد 512/ظاهرة جديدة في الأزهر

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 04 - 1943



أمثلة. . .

للأستاذ محمد محمد المدني

ذكرت في مقالي السابق أن (ظاهرة جديدة) قد ظهرت في الأزهر. تلك الظاهرة هي أحاديث الإصلاح التي كانت حول الأزهر والأزهريين قد أصبحت الآن في الأزهر وبين الأزهريين، وانتقلت من ميدان الرسالة إلى ميادين أخرى في مدرجات الكليات ومجالس الأساتذة ومكاتب الرؤساء، وأنها لم تعد آمالا يُقتصر على ترديدها، بل أهدافا يُرمى إليها، ويقاس القرب والبعد من النجاح بمقياسها.

وقد استبشرت خيراً بهذه الظاهرة لأنها تدل على أن الأزهر قد تنبه واستفاق وأخذ يتساءل عن مصيره، ولأنها تيسر التعاون المثمر بين الدعاة والمدعوين على تحقيق نهضته المرجوة، وأخيراً لأنها صوت الشعب، ولصوت الشعب في الآذان دوىً لا يستطيع أن يتجاهله المتجاهلون

استبشرت خيراً بهذه الظاهرة، وأحببت أن أسجلها على صفحات الرسالة كما هو دأبي، لأني أعتبر (الرسالة) ويعتبرها المخلصون جميعاً مجلة الإصلاح الديني والأزهري ولسان الدعوة إلى إنهاض هذا الشرق وإحياء تراثه المجيد تراث الدولة الإسلامية إبان عظمتها وفي عنفوان شبابها، ولأني أحسب أن تاريخ هذا الجهاد الشريف سيلتمس يوماً ما من مجلداتها فلا ينبغي أن يغيب عنها شيء منه دقَّ أو جلَّ لتكون الصورة كاملة واضحة لا نقص فيها ولا غموض!

واليوم أذكر (أمثلة) لتلك الظاهرة التي وصفت. أمثلة يعرفها كثير من الناس في الأزهر وفي غير الأزهر. ولست أقول: ماذا أذكر منها وماذا أدع، لأنها لم تعد سراً تنطوي عليه الجوانح، وتغلَّق دونه الأبواب؛ ولكن أقول: ماذا أقدم منها وماذا أؤخر؛ لأنها جميعاً أمثلة جديرة بأن تتقدم وبأن يلتفت الناس إليها، ويتفهموا مغزاها، ويدركوا عواقبها. وربما كان من الرأي أن ندع الآن جهود الطلاب ونشاطهم الذي لا يكل في المناداة بتنفيذ خطة الإصلاح، وما يعقدونه ويدعون إليه في مدرجاتهم من اجتماعات أسبوعية يخطبون فيها ويتناظرون، وما يكتبونه من رسائل مفعمة بحماسة الشباب وحرارة الإخلاص يتوجهون ب إلى أساتذتهم ورؤسائهم، وما يبعثون من وفود إلى ولاة الأمور في الحين بعد الحين، لا هاتفة بالمال، ولا ملتمسة الرزق، ولكن هاتفة بالإصلاح راغبة في العلم النافع الذي يصل الأزهر بالحياة. ربما كان من الأوفق أن نترك هذا ونحوه الآن، وأن نلتمس ما نريد من الأمثلة في محيط غير هذا المحيط ليعلم الناس أي مدى بلغته دعوة الإصلاح. وإنا لفاعلون:

(1) قالوا: إن طائفة من أبناء الأزهر المخلصين، فيهم شيخ كبير يشغل منصباً هاماً من مناصب الدولة، وله صلة وثيقة بالأزهر، وفيهم وكيل لإحدى الكليات الأزهرية معروف بإخلاصه وغيرته وصداقته لفضيلة الأستاذ الأكبر، وفيهم شاب مثقف بالثقافة الإنجليزية إلى جانب ثقافته الأزهرية - ضم هذه الطائفة مجلس مع فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي، وكان مجلساً صافياً مباركاً: فكروا فيه في الأزهر، وذكروا ما آلت إليه أحوال الدراسة وشئون العلم في معاهده وكلياته وتخصصاته، واستعادوا ذكريات ماضية ما زال الناس يذكرونها لفضيلة الأستاذ الأكبر، وقيل لفضيلته في هذا المجلس: إن الناس ينتظرون منه أن يعيد عهد المراغي الذي كان على رأس الأزهر في سنة 1928. ينتظرون منه أن يعيد عهد المراغي القوي الجريء الذي كان يكتسح العقاب، ولا يعبأ بالصعاب، ويغار على فكرته الإصلاحية ويدافع عنها دفاع الأسد الهصور. وقيل له في هذا المجلس أيضاً: إن الناس لا يريدون منه أكثر من أن ينفذ مذكرته الإصلاحية الكبرى بالروح التي وضعها بها، بالقوة التي تمثلت فيها، بالصراحة التي تتجلى في كل سطر من سطورها! وأذن فضيلة الأستاذ الأكبر لهذه الكلمات المخلصة التي تفيض عن قلوب للأزهر والدين مخلصة. أذن لهذه الكلمات، وفتح لها قلبه، واستعاد ذكرى ماضيه المجيد الذي تشير إليه، ثم قطع على نفسه عهداً ليكونن كما يريدون فلا يأتي أول العام الدراسي (يريد فضيلته العام الماضي) حتى تبدو آثار ذلك لهم وللناس أجمعين!

وانطلقت البشرى بهذا الحديث في مجالس الأزهريين وغير الأزهريين، وقرت به عيون واطمأنت إليه قلوب، وترقب الناس أول العام الدراسي متلهفين.

ولست أريد أن أعجل فأسأل: ماذا كان في أول العام الدراسي؟ وإنما أوثر الآن أن أستمر في عرض المثل لهذه الظاهرة حتى لا أخرج عما رسمت لنفسي في هذا المقال: (2) وقالوا أيضاً: إن طائفة من العلماء قد اجتمعت على سبيل المصادفة في مكتب فضيلة الأستاذ الأكبر، وكانت هذه الطائفة تضم بعض ذوي المناصب في الأزهر، وكان اجتماعها قبل ظهور فكرة الاحتفال بالعيد الألفي بزمن يسير، وجرى الحديث في شئون مختلفة ونواح شتى، ثم جرى حول الأزهر وحالة الدراسة في كلياته ومعاهده فأشار فضيلة الأستاذ الأكبر بأن يتناظر اثنان عيَّنهما في هذا الموضوع: (هل الأزهر القديم خير أو الأزهر الحديث؟) فقال أحدهما: ينبغي أولاً أن نحرر على طريقة الأزهريين موضع النقاش في هذه المناظرة، فنعرف من أين يبدأ الأزهر الحديث؟ أيبدأ بعهد الإمام الأول المغفور له الشيخ محمد عبده، أم يبدأ بعهد الإمام الثاني فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي؟ فإن كانت الأولى فالأزهر الحديث خير من الأزهر القديم، وإن كانت الأخرى فإلى أن يخرِّج الحديث أمثال المراغي وعبد المجيد سليم ومن إليهما يظل الأزهر القديم خيراً من الأزهر الحديث!

ووافقه صاحبه على هذا الرأي. فأما فضيلة الأستاذ الأكبر فلم يفته، وهو الرجل الذكي الألمعي، ما تقصد إليه هذه الإشارة فقال: لقد مضى على الأزهر ألف عام كان فيها بين التقدم والتأخر، وتقلبت عليه فيها نظم كثيرة، فإذا كانت الأعوام العشرة الأخيرة ليست من أعوام النجاح في تاريخه الطويل فهي أعوام تجربة، فأسقطوها من حساب هذا التاريخ، واعتبروها كذلك، وانظروا في تعديل هذا النظام على وجه تصلح به شئون الأزهر. قال قائلهم: لا. ليس السر فيما يشكو منه الناس راجعاً إلى النظام، فإن النظام في ذاته صالح وليس فيه عيب جوهري، ولكن هذا النظام لم ينل حظه من التنفيذ كما ينبغي أن ينال. وهذا هو السر في أنه لم يثمر ثمراته التي كان الناس يرجونها منه. قال فضيلة الأستاذ الأكبر: نعم هذا صحيح!

ولا شك أن هذين المثالين يدلان على ما عنيت بوصفه من تلك الظاهرة الجديدة التي بدت في الأزهر، وفي استطاعتي أن أمثل بكثير من نوعهما، مما يدور في المجالس الخاصة، ويتناقل الناس الأحاديث عنه، ولكني أورد مثالاً ثالثاً هو أجلى في بيان تلك الظاهرة وأدنى أن يعد من آثارها:

(3) ذلك أن رجلاً مسئولاً من رجال الأزهر هو فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت عضو جماعة كبار العلماء دعا في يوم من أيام شهر فبراير الماضي إلى محاضرة يلقيها في دار كلية الشريعة موضوعها (السياسة التوجيهية العلمية في الأزهر) ولست أريد الآن أن ألخص للرسالة هذه المحاضرة، ولا أن أنقل شيئاً منها، ولكني أريد أن أصف للقراء كيف أقبل الناس على سماع هذه المحاضرة وكيف استقبلوها عندما سمعوها، ليعلموا أن عيون الأزهريين قد أصبحت متطلعة، وأن آذانهم قد أصبحت مصغية، وأن نفوسهم قد أصبحت مستعدة.

فأما إقبال الناس على هذه المحاضرة فقد كان رائعاً: إنه لم يكد عنوانها ينشر على الناس مقترناً باسم صاحبها حتى جعلوا يتساءلون: ماذا عساه يقول في هذا الموضوع. وكيف يذكر حقائقه، ويعرض للناس وقائعه؟ تساءلوا عن ذلك لأن العنوان وما عرف به صاحب المحاضرة من حب للصراحة وجهر بالحق قد أثار في نفوسهم معاني شتى هم بها يشعرون. ولبوا دعوة الداعي خفافاً سراعاً حتى بلغت عدتهم قريباً من أربعة آلاف بين علماء وطلاب، واكتظت بهم مدرجات الكلية وحجراتها وأفنيتها، واستعين على إسماعهم بمكبرات الصوت التي بثت في نواحيها، وكان فيهم صفوة من الأزهريين الذين يشغلون المناصب في الإدارة العامة وفي الكليات وفي غيرهما، وألقى فضيلة الأستاذ الكبير محاضرته فكان يقاطع بالتصفيق الحاد والهتاف المدوي في أثنائها. ولما انتهى منها هنأه فضيلة الأستاذ الكبير مفتي الديار المصرية على ما وفق إليه من وصف حالة الأزهر العلمية وسياسته التوجيهية، وعانقه فضيلة الأستاذ الكبير وكيل مشيخة الأزهر مقبلاً إياه بين عينيه على ملأ من الناس أجمعين، وعلا التصفيق والهتاف لهذا المظهر الرائع، وأبى الطلاب إلا أن يحملوا فضيلة المحاضر على أعناقهم إلى فناء الكلية فتم لهم ما أرادوا، وكان يوماً في الأزهر عظيما!

ولكن ما هي هذه المحاضرة التي استقبلها الأزهر: شيوخه ورؤساؤه وطلابه هذا الاستقبال العظيم؟ وماذا قال فيها صاحبها حتى ملك هذه القلوب جميعاً؟ سؤال تسألونه أيها القراء الكرام وحق لكم أن تسألوه. ولتعلمن نبأه بعد حين.

محمد محمد المدني