مجلة الرسالة/العدد 512/وعصفور من الشرق أيضا. . .

مجلة الرسالة/العدد 512/وعصفور من الشرق أيضاً. . .

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 04 - 1943



للأستاذ دريني خشبة

لو لم يتعمد الأستاذ صاحب الرسالة فيضع هذه التحية الرقيقة التي بعث بها الأستاذ الجليل محمد كامل سليم بك إلى الأستاذ الحكيم قبالة أولى مقالاتي عن (قضية اليوم)، ولولا ما جاء في هذه الكلمة من نفي عداوة الأستاذ الحكيم للمرأة. . . لولا ذلك كله لآثرت إغلاق هذا الباب الذي اضطرني إلى كثير من القسوة والمرارة في التعبير، وإن كنت على حق كل الحق في جميع ما ذهبت إليه، وما أيدته بكلمات الأستاذ الحكيم نفسه مما لا يُعقل أن ينكره أو يماري فيه. فقد أثبت من صميم شهرزاد للأستاذ الحكيم - وذلك في المقال الثاني - أنه عدو للمرأة في كل زمان ومكان ما في ذلك شك، وأثبت أنه ينظر إليها نظرة تسفل دائماً ولا تعلو أبداً، ويعدها مصدراً للشرور التي تحيق بالعالم وتجعله جحيماً لا يطاق، وسواء أعاملها الإنسان كما عاملها شهريار الأول الذي قتل زوجه ورجم روحها بأرواح العذارى البريئات من بعدها، أو عاملها شهريار الثاني (الديوث!) من الصفح عن أوزارها، أو الغض عما تأتي وما تدع من تلك الأوزار، فالمرأة هي المرأة في الحالين في نظر الأستاذ الحكيم، وهذا هو رأيه فيها، الذي أيده في (القصر المسحور) وادعى التوبة منه، والإنابة مما ذهب بصدده إليه. . . لكن الأستاذ كامل سليم نفى عنه تلك العداوة للمرأة، وبرأه من الموجدة عليها (كما يزعم الزاعمون) بل ذهب إلى أبعد من هذا، فاتهم الأستاذ الحكيم بأنه (صديق المرأة والمنافح عنها!) وقال ذلك بعد أن فرغ من قراءة (عصفور من الشرق) التي لم أكن أن أتعرض لها بخير ولا بشر لما كنت أوثر أن أحصر فيه موضوع (قضية اليوم) وقصرها على ما يتصل بشهرزاد وبأحلام شهرزاد. . . ولكن ما الحيلة، وقد حدثني الأستاذ الزيات قبل نشر المقالين فلمّح في حديثه إلى أنه متعمد أن يضعهما جنباً إلى جنب مبالغة منه في تأكيد ما للرسالة من حرية في النشر أو حرية في الرأي أو حرية في النقد. . . لست أدري أي الحريات الثلاث أراد، ولعله قد أرادها جميعاً

وبعد، فما هي قصة عصفور من الشرق؟ وهل تؤكد تلك القصة شخصية الأستاذ الحكيم التي تظهر جلية في أكثر قصصه، خصوصاً مسرحية (شهرزاد)؟ وسؤال ثالث: هل الأستاذ الحكيم في تلك القصة عدو للمرأة كدأبه أم هو صديق للمرأة كما يتهمه الأستاذ الجليل كامل سليم بك؟

1 - أما قصة عصفور من الشرق فتتلخص في أن الطالب الشاب (محسن) كان يشدو العلم في باريس، وأنه كان يسكن مع جماعة باريسية لاحظت عليه ما يلاحظ عادة على المغرم المبتدئ (ولا سيما إن كان شرقيَّا) من شرود وانقباض وقلق، فإذا عرفت منه أنه يحب شجعته وعلمته أن باريس لا تعرف التردد في الحب وأن قارورة من العطر أو باقة من الزهر تكفي لغزو قلب أية باريسية.

2 - أما من هي التي شغفت أخانا محسناً حباً، فهي (جابية أو محصلة، أو عاملة) أو ما شئت فسمها، من عاملات دور الصور، كان الفتى محسن يهواها، بل يتعبدها، وكان منصرفاً، مذ أحبها، عن كتبه، بل عن مدرسته، لا يبرح واقفاً بالقرب من الشباك الذي تعمل فيه حتى تفرغ من عملها، فإذا قال لها (عمي مساءً يا آنسة) ردت عليه التحية بإغلاق الشباك في وجهه. . . ثم ما يزال يترصدها حتى يعرف مسكنها فيهجر مسكنه ويأوي إلى الفندق الذي تسكنه سوزي - وهذا هو اسمها - وتكون غرفته فوق غرفتها. . . أما أول التعارف فقد كان (خبطة عشواء!) إذ ادعى السيد محسن الإفلاس فكان أن أدت عنه سوزي حسابه للغسالة. . . ولا ندري كيف دفعته وهي لا تعرفه. . . يُسأل عن هذا فن الأستاذ الحكيم. . . أما كيف رد الثمن فقد أهدى إليها ببغاء وضعه في قفص - لعله من جريد لا من ذهب، وعلقه في حبل ثم دلاه من نافذته إلى نافذتها - فكان تعارف وكان شكر. . . وكان حب. وكانت سهرات وكان (أنس). . . وكان لا يصحو الأخ العزيز (العاشق الشرقي) محسن إلا على رنين قبلات سوزي، وربما كان لا ينام إلا على رنين قبلاتها كذلك. . . وكانت مقابلات يُضرّجها دم الغيرة الشرقية إذا تأخرت سوزي عن ميعادها. . . وإنهما لفي مطعم يوماً ينعمان ويأكلان ويشربان ويعبثان، إذا شاب يدخل فجأة فتذهل سوزي، وتكاد الأرض تسوخ من تحتها، وإذا سر قلبها يطفر فجأة من عينيها. . . وإذا العاشق الشرقي يعرف كل شيء. . . إنه ليس وحده في هذا القلب المزدحم! إنه طفيلي. . . لقد ركع في محراب هذا القلب عشاق معاميد من قبل

هذه هي القصة، لا ينقصها إلا خطابان أحدهما من محسن، والآخر رد من سوزي عليه. وإليك الآن هذه المقتطفات: 1 - نظر محسن إلى سوزي مرة فسألته:

- لماذا تنظر إليّ هكذا؟

- أصبت، أرى الآن أني على خطأ، ما الذي يعنيني من أمر حياتك أنت؟ ما أنت إلا (حلم) يحيا فيه. . . الآخرون. . .

- ومن هم الآخرون؟

قالتها في ابتسامة ذات معنى، وأناملها تعبث بصفحات كتاب. . .

2 - ولما فاز محسن بالوصول إلى فتاته وأخبر صديقه الفرنسي (أندريه) بذلك، ابتسم الفرنسي وقال له:

- أرأيت أنها فتاة ككل الفتيات، وعاملة كآلاف العاملات؟ تلك التي أسكنتها قصراً من قصور ألف ليلة وليلة، وجعلتها تنظر من عليائها إلى مواكب الناس المتدفقة تحت شباكها، آه أيها الصديق، اقتنعت الآن أن الأمر أقل خطراً مما كنت تتصور، وأن وقوع امرأة بين ذراعيك مسألة بسيطة لا تحتاج إلى كل هذا الوقت، ولا إلى كل هذه الخيالات والتأملات؟

فأحس الفتى إحساس من يهوى إلى الأرض، وكأن قيم الأشياء في نظره قد تضاءلت، وكأن الحياة نفسها قد تجردت من غطائها فبدت كتمثال مصبوب من السخف. وشعر محسن بفراغ في مادة نفسه لا يدري بعد اليوم ماذا يملؤه. .

(حدث هذا والحب في إبانه قبل أن يقع ما فصل بينهما)

3 - وانظر إلى هذه الروح المتجهمة في العبارة التالية:

التفاحة هي التفاحة، ولكنها تفاحة أرض جديدة! تفاحة الأرض. . . حلوة لكن داخلها الدود! (والعياذ بالله!)

4 - ويقول بعد ذلك في الصحيفة نفسها:

(ولم يكن محسن يطيق إبطاء سوزي خمس دقائق عن موعدها، ولم يكن يحتمل رؤيتها تبتسم لأحد معارفها وهي تحني رأسها بالتحية، ولم يعد يرى صورتها في أحلامه ممتزجة بأنغام الأنترمتزو - و - رقصة الفراندول، ولكنه يراها في نومه تعانق رئيسها هنري الذي عرف منها بعض أخباره، أو يراها تقبل شاباً زنجياً تلك القبلات الملتهبة، فينهض منزعجاً مضطرباً يود لو يمزق جسدها بأسنانه!!) فهل رأيت إلى شهريار الدموي كيف يتنبه في أعماق محسن؟ ومحسن هنا هو الأخ الكريم الأستاذ توفيق كما لا يخفى. . . توفيق الشاك الذي تملأ رأسه أشباح العبيد والزنوج وقبلاتهم الملتهبة، وغدر شهرزاد التي لا تشبع من عبدها ولا تريد أن تشبع منه. . . وهل رأيت كيف ينهض شبحه (محسن) منزعجاً مضطرباً يود لو يمزق جسد سوزي بأسنانه؟!

5 - وقصة الملكة سميراميس التي هي صورة فاجرة من صور شهرزاد الآثمة التي تخيلها الأستاذ الحكيم: (يوم دعت أسيرها إلى ليلة من ليالي النعيم، مهدت فيها الفرش، وأقيمت الموائد. . . وتلاقت الشفاه. . . إلى أن لاح الصباح، فتغير وجه الملكة الجميل، ووضع الأسير في الأغلال، ومشى به إلى الموت، وهو ذاهل ما زالت في رأسه بقية من نشوة الليل. . .،. . .، ولكن ملكات العصر الحديث يفعلن بأسراهم غير ذلك. كل شيء عندهن مستتر مقنَّع (فهي) تضع على وجهها ذلك القناع الحريري الأسود الذي يلبس في المساخر. . . إلى آخر المهزلة. . . . . .

6 - ثم إليك هذه النفس السوداء المريضة المتشائمة: (. . . لا ينبغي أن نبني شيئاً جميلاً فوق هذه الأرض!! هذه الأرض المتغيرة المتحركة برمالها ومائها وهوائها!!

ويرى بعد ذلك أن يكون البشر جميعاً في كل زمان ومكان زهاداً كزُهاد الهنود، زهاداً مضعوفين مسلولين لا يذوقون إلا حبات من الأرزكي تصفو نفوسهم وترتفع إلى الملأ الأعلى. . . يريد أن يكون الناس كلهم - أو المصريون على الأقل - من (مقاطيع السيدة زينب)! لأن مقاطيع (الست) وحدهم هم المتصلون بالسماء. . . والفضل في ذلك لروح الزهد والتقشف والفول (النابت!!)

ولن يصغي شرقي واحد إلى الأستاذ الحكيم؛ فقد شبع الشرق من الفقر وما جرته عليه فلسفة الفقر والقناعة والتقشف من قبول الذل والخنوع وموت روح المقاومة التي لا توجد إلا في الأقوياء بدناً وروحاً في وقت معاً. . . وديننا الحنيف هو دين القوة الذي لا يعرف الرهبانية ولا التصوف الهندي الذميم، وهو الدين الذي أحل لنا مناعم الحياة حلالاً طيباً، وفرض الإفطار على الصائم المحارب كما حرم الجوع الذي يضر الجسم، وقام على محاربة الفقر بإطعام الطعام على حب الله من أوسط ما يطعم الناس وبالزكاة والتعاون المنظم الذي يمحق الفاقة، ولا يأذن لمقطوع واحد من (مقاطيع) الست الطاهرة بالوجود في هذا الوجود! وأما قول المسيح عليه السلام: (ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله) فقد قصد به ما قصد إليه الرسول الكريم حين قال: (اللهم توفني فقيراً ولا توفني غنياً واحشرني في زمرة المساكين) فقد قصد المسيح أن يحض الأغنياء على عمل الخير، كما قصد الرسول أن يخفف ألم الفقير في نفوس الفقراء - وليس يعقل أن الرسولين الكريمين كانا يريدان انتشار الفقر في العالم وتحكم الفاقة في الوجود

7 - أما هذه الثورة على أوربا، التي هي جميلة رشيقة ذكية، لكنها خفيفة أنانية لا يعنيها إلا نفسها واستعبادها غيرها، فهي ثورة أحدثتها في نفس النكسة التي جرها عليه غرامه الخائب، فلو أنه نجح في هذا الحب، لكانت أوربا في نظره شيئاً آخر

8 - ولست أدري ما هذا الذي انزلق إليه الأستاذ الحكيم - في معرض الطعن على أوربا - من القذف في حضارتها، وفي ضرورة ما تراه أوربا من وجوب نشر التعليم ومحاربة الأمية والإزراء على الديمقراطية؟ ما هذا؟ أيريد أن يظل جمهور العالم جاهلاً لا يقرأ ولا يكتب؟ أيريد لهذا الجمهور أن يظل مسكيناً ذليلاً مستعبداً؟ أيريد أن يقوم الطغاة في كل فج يسيمون الجماهير سوء العذاب مما نرى أثره في ألمانيا وإيطاليا واليابان؟

ولكن، لا علينا من ذلك فليس من أجله كتبنا هذا المقال فهذه المقتطفات التي أثبتناها هنا تدل على أن الأستاذ الحكيم هو في (عصفور من الشرق) كما كان في (شهرزاد) من حيث رأيه في المرأة ومن حيث عداوته لها. . . ومن حيث أنها ملك مشاع للجميع، ويكذب من يقول بوفائها وعفافها وإخلاصها لرجل بعينه وإن يكن هذا الرجل هو زوجها؛ فهي حلم يحيا فيه. الآخرون. . . وأن وقوعها بين ذراعي أي إنسان مسألة بسيطة لا تحتاج إلى وقت وخيالات وتأملات وأن التفاحة هي التفاحة. . . تفاحة أرض جديدة. . . تفاحة الأرض. . . حلوة. . . ولكن داخلها الدود، وأن شخصية شهريار الدموي الفظيع الناقم كانت دائماً تتقمص روح الحكيم كلما أبطأت عليه حبيبته فيراها فيما يرى النائم وهي تقبل شاباً زنجياً تلك القبلات الملتهبة فينهض منزعجاً مضطرباً يود لو يمزق جسدها بأسنانه. . . ولست أدري إن لم يكن مؤلف شهرزاد هو نفسه مؤلف عصفور من الشرق قلباً وقالباً كما يقولون فلماذا ساورته أشباح العبيد الغلاظ والزنوج الذين يقبلون تلك القبلات الملتهبة وهو كان يحب في باريس. . . باريس اللعوب المفتان. . . ولم يكن يحب في جزائر واق الواق ولا في بلاد نيام نيام ولا بين قبائل الشيلوك والدنكا. . . إن لم يكن توفيق الحكيم مع سوزي في باريس هو توفيق الحكيم مع شهرزاد في بغداد، أو في فاس أو الهند لست أدري، فلماذا ذكر هذا الزنجي الذي لم تكن تؤثر عليه شهرزاد أحداً، وكانت لا تشبع منه ولا تريد أن تشبع منه، وكانت تريده أسود غليظاً. . . ولماذا كان ينهض من نومه منزعجاً مضطرباً يود لو يمزق جسد سوزي الجميل الغض بأسنانه (والعياذ بالله!) إن هذه خبيئة من خبيئات العقل الباطن برزت في غفلة من غفلات وعي توفيق الحكيم ففضحت رأيه في المرأة، وأكدت مذهبه فيها على صفحات عصفور من الشرق، كما تأكد هذا المذهب في شهرزاد من قبل. . . وما هذا الذي ربط بين الحلم الذي يحيا فيه الآخرون، وبين سهولة وقوع أية امرأة بين ذراعي أي إنسان، وبين تفاحة الأرض الحلوة التي داخلها الدود، وبين الحلم الذي يرى فيه الحكيم فتاته مستسلمة لزنجي أسود يقبلها تلك القبلات الملتهبة، وبين نهوضه من النوم مضطرباً منزعجاً يود لو يمزقها بأسنانه،. . . ما هذا الذي يربط تلك الصورة كلها بصورة سميراميس الملكة الفاجرة التي أرادت أن تبالغ في انتقامها من أحد أسراها المولعين بحبها فدعته إلى ليلة ناعمة راقصة، ومنحته من نفسها وعرضها ما لا يقدر على وصفه إلا. . . الأخ المسكين البائس. . . محسن!. . . على أن يصبح فيتسلمه الجلاد بأمر الملكة ليضرب عنقه؟! ما هذا الذي يربط تلك الصورة كلها، وهي مفرقة على الكتاب، متباعدة عن بعضها فيه، موزعة على مشاهد القصة وفصولها من قبل أن يفضح محسن غش سوزي وخداعها إلى أن وقف منها على ذلك السر المهول!؟

وبعد. . . فهل الأستاذ توفيق الحكيم بعد ذلك كله صديق المرأة وليس عدوها - كما يزعم الزاعمون - على حد تعبير الأستاذ الجليل كامل سليم بك؟!

دريني خشبة