مجلة الرسالة/العدد 516/الأحلام

مجلة الرسالة/العدد 516/الأحلام

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 05 - 1943



للفيلسوف الفرنسي هنري برجسون

بقلم الأستاذ ألبير نادر

(ترجمة المحاضرة التي ألقاها الفيلسوف هنري برجسن في

دار المعهد العام لعلم النفس)

إن المحاضرة التي عُهد إليّ بإلقائها معقدة ومثيرة لمسائل عديدة: منها ما يتعلق بعلم النفس، ومنها ما يتعلق بعلم الحياة وأيضاً بما وراء الطبيعة. والموضوع يتطلب شرحاً طويلاً ولدينا القصير من الوقت، لذلك أطلب إليكم أن تعفوني من كل مقدمة حتى نبحث الموضوع مباشرة

هاك حلم: أرى أشياء مختلفة تمر أمامي وليس واحد منها موجوداً فعلاً - يخيل إليّ أنني أغدو وأروح، أمر بسلسلة من الحوادث بينما أنا نائم في فراشي بكل هدوء. أصغي إلى نفسي تتحدث وأسمع من يجيبني، ولكن أنا لا أفوه بشيء. فمن أين هذا الوهم؟ لِمَ ندرك أشخاصاً وأشياء كأنها موجودة حقيقية؟

ألا توجد أشياء حقيقية؟ أليست هناك بعض المواد الحسية تتهيأ أمام السمع أو البصر أو اللمس الخ. . . في وقت النوم كما هو الشأن في وقت اليقظة؟

لنغمض أعيننا ونرى ماذا يحدث. كثيرون من يقولون إنه لا يحدث شيء لأنهم لم يتبصروا في الأمر، ولكننا في الحقيقة نرى أشياء عديدة: أولاً نرى قاعاً أسود ثم بقعاً مختلفة الألوان باهتة حيناً وبراقة حيناً آخر، وهذه البقع تتمدد وتنقبض، تبدل ألوانها وتتحدى الواحدة منها الأخرى. وهذا التبدل يمكن أن يكون بطيئاً متدرجاً ويمكن أن يتم في بعض الأحيان بسرعة شديدة. فمن أين هذه التخيلات؟. تكلم علماء الحياة وعلماء النفس عن (غبار منير) وعن (طيف بصري) وعن (شرار العين) فتراهم ينسبون هذه الظواهر إلى التغيرات البسيطة التي تحصل باستمرار في الدورة الدموية في شبكة العين، أو إلى الضغط الذي يسببه الجفن المقفل على المقلة والذي يؤثر تأثيراً آلياً على العصب البصري - ولكن قلما يهمنا شرح الحادث أو الاسم الذي يطلق عليه - إن هذا الحادث عام لدى الجميع ويقدم بلا شك المادة التي تنقش عليها كثير من أحلامنا. لاحظ ألفريد موري كما لاحظ في نفس الوقت المركيز درثي دي سان ديني أن هذه البقع الملونة ذات الأشكال المتحركة المتقلبة يمكنها أن تثبت عندما نخمل؛ فترسم حينئذ دوائر الأشياء التي تكون الحلم. ولكن علينا أن ننظر إلى هذه الملاحظة بعين الحذر لأنها ناتجة عن علماء نفس أنصاف نُيّم. تصور الفيلسوف الأميركي لار الأستاذ في جامعة يال طريقة أكثر إحكاماً ولكنها صعبة التطبيق لأنها تتطلب شيئاً من المران. تنحصر هذه الطريقة في إبقاء العينين مقفلتين عندما نستيقظ والمحافظة مدة لحظات على الحلم الآخذ في الزوال من حقل البصر وبالتالي من حقل الذاكرة. ترى عندئذ موضوعات الحلم تتحول إلى شرار العين وتمتزج بالبقع الملونة التي كانت تشاهدها العين حقيقة عندما كان الجفنان مغلقين. فإذا كنا نطالع جريدة مثلاً فها هو الحلم يتكون ثم تستيقظ وتبقى من الجريدة التي ارتسمت سطورها في العين بقعة بيضاء وبعض السطور السوداء المبهمة. هذا ما في الواقع. أو إذا كنا نتنزه في عرض البحر بالحلم، وعلى مدى البصر كان المحيط ينشر أمواجه الرمادية التي تكللها رغوة بيضاء. فعند اليقظة كل هذا يتلاشى في بقعة كبيرة اللون الرمادي الباهت تتخططها نقط براقة. البقعة موجودة وكذلك النقط اللامعة؛ إذاً يوجد غبار بصري بدا لإدراكنا أثناء النوم وهذا الغبار استعمل في صنع الحلم

هل يستعمل هذا الغبار وحده فقط؟ لكي نختصر الحديث على حاسة البصر نقول إنه بجانب الاحساسات البصرية الصادرة من الداخل توجد احساسات أخرى صادرة عن سبب خارجي. مهما يكن الجفنان مغلقين فالعين لا تزال تميز بين النور والظلام وتتعرف أيضاً - إلى حد ما - على نوع النور؛ لكن الاحساسات الناتجة عن نور حقيقي هي أصل لكثير من أحلامنا، فشمعة تضاء فجأة تحدث عند النائم عدة رؤى تسود فكرة الحريق ويذكر تيسيه مثلين لذلك: (فلان يحلم أن النار تلتهم مسرح الإسكندرية واللهب يضيء حياً بأثره، وفجأة يجد نفسه قد انتقل إلى ميدان القناصل، وهناك يرى شريطاً من النار يجري على مدى السلاسل التي يربط بعضها ببعض علامات الحدود الغليظة الموجودة حول الحوض، ثم يجد نفسه في باريس في المعرض وقد التهمته النار. . . يشاهد مناظر مؤلمة الخ. . . فيستيقظ بغتة: إن عينيه كانتا متأثرتين بحزمة النور المنبعث من مصباح الواعية وهي تمر في جولتها الليلية وكانت قد سلطت المصباح على السرير فلان آخر يحلم أنه التحق بوحدة مشاة البحرية حيث خدم سابقاً - يذهب إلى نوردي فرانس، إلى ظولون، إلى كوريان، إلى القرم، إلى القسطنطينية، يشاهد برقاً، يسمع رعداً، ثم يشاهد معركة يجد فيها النار تخرج من أفواه المدافع فيستيقظ - ومثل فلان الأول استيقظ بسبب النور المنبعث من مصباح الواعية عند مرورها) - هذه هي الأحلام الناتجة عن نور شديد مفاجئ.

لكن الأحلام الناتجة عن نور مستمر ولطيف (خفيف) مثل نور القمر فتختلف عن الأولى بعض الاختلاف - يذكر كراوس أنه ذات ليلة عندما استيقظ لاحظ أنه لم يزل يمد ذراعيه نحو ما كان يظنه في حلمه غادة، ولم تكن سوى القمر يرسل له شعاعه - إن هذه الحادثة ليست فريدة في نوعها. يظهر أن شعاع القمر عندما يداعب أعين النائم يمكنه ان يثير رؤى طاهرة. أليس هذا ما تذكره قصة أنديمون: (الراعي النائم دائماً الذي تحبه الإلهة سيلينيه (أي القمر) حباً جماً؟. . .

للأذن أيضاً احساساتها الداخلية مثل الطنين والرنين والصفير التي لا تقوى على تمييزها وقت اليقظة ولكن النوم يبرزها بكل وضوح - لا نزال ونحن نائمين نسمع بعض الأصوات الآتية من الخارج مثل طقطقة دولاب أو تلألؤ النور أو صوت المطر المنهمر على النافذة أو الريح المتقلب النغمات؛ فكلها أصوات تصدم الأذن ويحولها الحلم إلى محادثة وصراخ وألحان ألخ. . .

حك بعضهم مقصاً بملقط أمام أذن الفريد موري وهو نائم، ففي الحال حلم أنه يسمع صوت المدفع ويشاهد حوادث 1848 - ويمكنني أن أسرد لكم أمثلة أخرى ولكن يجب أن يكون للأصوات نفس الأهمية التي للأشكال والألوان في أغلب الأحلام - إن الاحساسات البصرية لها الأسبقية وفي غالب الأحيان نرى فقط حينما نظن أننا نسمع أيضاً. . .

ويلاحظ مكس سيمون أننا نقوم بمحادثة كاملة في الحلم، ونلاحظ بغتة أنه لا شخص يحدثنا ولا أحد يتكلم - لقد كان هناك بيننا وبين محدثنا تبادل مباشر في الأفكار، محادثة ساكنة - إنه لحدث غريب ولكنه سهل التفسير - فلكي نسمع أصواتاً في الحلم يجب أن تكون هناك دائماً أصوات حقيقية نحس ونشعر بها لأن الحلم لا يصنع شيئاً من لا شيء؛ وإن لم تقدم له مادة رنانة فيصعب عليه أن يصنع ما هو رنان.

ومن جهة أخرى يتدخل اللمس بقدر ما يتدخل السمع، فأي لمس وأي ضغط مهما يصل إلى الوجدان أثناء النوم فحاسة اللمس تقمر بتأثيرها الصور الموجودة حينئذ في الحقل البصري؛ وعليه يمكنها أن تُغيّر شكل هذا الحقل ومعناه. لنفرض أننا نشعر فجأة بملامسة الجسم مع القميص فالنائم يتذكر أن ما يرتديه من ملابس خفيف. وإذا ظن حينئذ أنه يتنزه في الشارع فإنه سيظهر أمام أعين المارة في هذا اللباس البسيط جداً. ولكن المارة لا تتأثر من هذا لأنه نادراً ما تبدو الأشياء الخارقة

التي نستسلم إليها في الحلم، مثيرة لدهشة المراقبين بينما نحن يعترينا منها الحياء والخجل.

(يتبع)

ألبير نادر