مجلة الرسالة/العدد 517/الأحلام

مجلة الرسالة/العدد 517/الأحلام

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 05 - 1943


2 - الأحلام

للفيلسوف الفرنسي هنري برجسون

بقلم الأستاذ ألبير نادر

سبق أن ذكرت حلماً مشهوراً، وهاكم حلما آخر ربما رآه الكثير منكم. موضوعه أن يشعر الإنسان بأنه يطير ويرفرف ويمر بالفضاء دون أن يلمس الأرض. فإذا ظهر هذا الحلم مرة ففي الغالب يحاول أن يظهر مرة أخرة، وفي كل مرة تقول: (كثيراً ما حلمت أني أطير فوق الأرض، ولكنني في هذه المرة مستيقظ تماماً - الآن أعرف وسأبين للآخرين - أنه يمكننا أن نتحرر من قانون الجاذبية. فإذا استيقظت فجأة أظن أنك تجد الآتي: تشعر بأن قدميك فقدتا نقطة ارتكازهما، بما أنك كنت متمدداً فعلاً. ومن جهة أخرى اعتقادك بعدم نومك هو عدم شعورك بالنوم. كنت تقول في نفسك إنك لم تلمس الأرض بالرغم من أنك كنت واقفاً. هذا هو الاعتقاد الذي كان يزيده فيك حلمك في الحالات التي تشعر فيها أنك تطير. لاحظ أنك تظن أنك تقذف بجسمك إلى الجانب يميناً أو شمالاً وأنت ترفعه بحركة ذراع فجائية كأنها ضربة جناح، ولكن هذا الجانب هو نفسه الجانب الذي كنت نائماً عليه، استيقظ تجد شعورك بمجهودك لتطير هو نفس الشعور بضغط الذراع والجسم على السرير، وضغط الذراع والجسم هذا إذا فصل عن سببه لم يعد إلا شعوراً غامضاً ناتجاً عن التعب وسببه المجهود. وإذا ارتبط هذا الشعور بالضغط باعتقادك بأن جسمك ترك الأرض، يتحول هذا الشعور إلى شعور واضح بمجهود للطيران

من المهم أن نلاحظ كيف أن احساسات الضغط عندما تصعد إلى الحقل البصري وتستفيد من الغبار المضيء الموجود فيه يمكنها أن تتحول حينئذ إلى أشكال وألوان. حلم ذات يوم ماكس سيمون أنه أمام كومتين من قطع الذهب، وأن هاتين الكومتين غير متساويتين، وكان يحاول أن يسويهما ولكن عبثاً. فشعر بانقباض شديد، وازداد هذا الشعور من لحظة إلى أخرى حتى أيقظه. فلاحظ حينئذ أن ساقاً من ساقيه كانت معاقة بثنايا الغطاء، وأن قدميه لم تكونا في مستوى واحد، وكانت كل واحدة تحاول عبثاً الاقتراب من الأخرى، فبدون شك نتج عن ذلك شعور مبهم بعدم المساواة، وانتشر في الحقل البصري حيث قابل (وهي النظرية التي أقدمها) نقطة صفراء أو أكثر، وظهر على شكل بصري بواسطة عدم التعاد هذا بين كومتي قطع الذهب. فيوجد إذاً في باطن الاحساسات اللمسية أثناء النوم استعداداً لكي تتحول إلى احساسات بصرية وتدخل على هذه الصورة في الحلم

وأهم من هذه الاحساسات الخارجية احساسات اللمس الداخلي الناتجة من جميع أجزاء الجسم، لا سيما الحواشي. فالنوم يمكنه أن يمنحها، أو بالأحرى أن يهبها دقة وحدة فريدتين، أن هذه الاحساسات موجودة بدون شك زمن اليقظة، ولكننا نكون غافلين عنها بسبب الحركة لأننا نعيش حينئذ خارجاً عن أنفسنا، ولكن النوم يجعلنا نعود إلى أنفسنا

يتفق أن بعض الأشخاص المعرضين لالتهاب الحلق أو الغدد يشعرون بأن هذه النوبات انتابتهم ضمن حلم، ويشعرون حينئذ بوخزات مؤلمة جهة الحلق. وعند ما يستيقظون يقولون إنها وهم وحسب؛ ولكن مع الأسف سرعان ما يتحقق هذا الوهم. يذكرون أن أمراضاً وعوارض خطيرة مثل ذبحة صدرية ونوبة قلبية. . . كانت قد ظهرت وتنبأ عنها في الحلم. فلا نندهش إذا رأينا فلاسفة مثل شوبنهور يقولون إن الحلم يشخص أمام الوجدان اهتزازات صادرة من الجهاز العصبي السمبثاوي، وإذا رأينا علماء نفس مثل شرنر يقولون إن كل عضو له مقدرة خاصة لينتج أحلاما نوعية تمثله تمثيلاً رمزياً، وأخيراً إذا رأينا أطباء مثل أريتج يكتبون مجلداً عن (قيمة الأحلام وما تنبئ به)، وعن طريقة استعمال الحلم لمعرفة نوع الأمراض، وحديثاً بين تيسيه: كيف أن خللاً في الهضم، أو في التنفس، أو في الدورة الدموية، يظهر في أحلام معينة

خلاصة ما تقدم: أننا أثناء النوم الطبيعي لا تكون حواسنا مقفلة تماماً للتأثيرات الخارجية. نعم إنها حينئذ لا تكون على نفس الدقة التي لها زمن اليقظة، بل عوضاً عن ذلك تصادف كثيراً من التأثيرات الشخصية التي لم نكن نشعر بها أثناء اليقظة عندما كنا نتحرك في عالم خارجي مشترك لجميع الناس، ولكنها تظهر أثناء النوم حيث أننا لا نعيش عندئذ إلا لأنفسنا فقط. ولا يمكننا أن نقول إن إدراكنا يتقيد عندما ننام بل بالعكس فالإدراك يوسع حقل عمله في بعض الاتجاهات على الأقل. نعم إنه يفقد دقة ما يكسبه في التوسع لأنه يأتي إلا بالمسهب والمبهم مما يدل على أننا نصنع الحلم بواسطة إحساس حقيقي

كيف نصنع الحلم؟ إن الاحساسات التي نستخدمها كمادة تكون مبهمة وغير معينة. لنأخذ مثلاً الاحساسات التي تبدو في الصف الأول أي البقع الملونة التي تتطور أمامنا عندما يكون جفنانا مغلقين - ترى سطوراً سودا على مسطح أبيض يمكنها أن تمثل سجادة أو صفحة مخطوطة أو عدة أشياء أخرى أيضاً. من الذي سيجري الاختيار؟ أي شكل سيعين هذه المادة غير المعينة؟ هذا المشكل إنما هو التذكر - لنلاحظ أولاً أن الحلم عادة لا يخلق شيئاً. نعم يذكرون بعض الأمثلة عن عمل فني أو أدبي أو علمي نفذ أثناء الحلم، ولا أذكر هنا إلا المثل الأكثر شيوعاً: كان تارتيني - وهو موسيقي عاش في القرن الثامن عشر - يجد في تأليف قطعة موسيقية، ولكن قريحته كانت عاصية، فنام. وهاهو الشيطان قد ظهر له بنفسه واستولى على القيثارة وعزف القطعة المنشودة. ولما أستيقظ تارتيني سطر هذه القطعة من ذاكرته ووهبها لنا تحت أسم (أنشودة الشيطان). ولكن لا يمكننا أن نستخلص شيئاً من قصة مختصرة كهذه. يجب أن نعرف هل كان تارتيني جاداً في إتمام هذه الأنشودة عندما كان يتذكرها؟ إن مخيلة النائم الذي يستيقظ تضيف في بعض الأحيان شيئاً إلى الحلم وتبدله بمقتضى فاعلية رجعية وتسد ثغراته التي يمكنها أن تكون عديدة. بحثت عن ملاحظات أدق وخصوصاً أكثر صدقاً فلم أجد سوى ملاحظة الروائي الإنجليزية استيفنسن في كتاب عنوانه (فصل في الأحلام): يخبرنا استيفنسن أنه ألف أو بالأحرى رسم في الحلم قصصه الأكثر غرابة. لنقرأ بإنغام الفصل نجد أن المؤلف عاش فترة من حياته بحالة نفسية لم يتمكن أثناءها أن يعرف ما إذا كان نائماً أو مستيقظاً. إني أعتقد أنه ليس هناك نوم عندما ما تخلق (تبدع) النفس شيئاً، وعندما تقوم بالمجهود الذي يتطلبه تأليف عمل أو حل مسألة. وعلى الأقل جزء النفس الذي يعمل ليس هو الجزء الذي يحلم. فالجزء الأول يعمل في ثنايا الوجدان الخفية (العقل الباطن) باحثاً ولكن بدون أي تأثير على الحلم، وهذا البحث لا تظهر نتيجته إلا عند اليقظة. . . أما بخصوص الحلم ذاته فما هو إلا إحياء الماضي. ولكن هذا الماضي يمكننا أن نتعرفه، فيكون في غالب الأحيان حدثاً قد نسيناه، أو ذكرى بدت لنا كأنها زالت ولكنها في الحقيقة كانت متوارثة في أعماق الذاكرة. وفي الغالب تكون الصورة المتذكرة صورة شيء أو حدث نظرناه ونحن غير مبالين وبدون أن نشعر به تقريباً وقت اليقظة. وتوجد خصوصاً أجزاء ذكريات مشتتة تجمعها الذاكرة من هنا وهناك وتقدمها إلى وجدان النائم على شكل غير متماسك. فأمام هذه المجموعة التي لا معنى لها يبحث العقل عن معنى (والعقل يستمر في التعقل مهما قيل في ذلك) والعقل ينسب عدم التماسك هذا لثغرات يسدها بمناجاة ذكريات أخرى تبدو غالباً بدون نظام، وتتطلب بدورها تعبيراً جديداً، وهكذا دواليك. ولكني لا أريد الشرح الآن وإنما أقول إجابة عن السؤال الموجه منذ لحظة: أن التذكر هو القوة التي ترشد إلى المواد الصادرة عن أعضاء الحس، والقوة التي تحول إلي أشياء واضحة ومعينة تلك التأثيرات المبهمة الصادرة عن العين والأذن وعن كل مدى الجسم وعن داخله

(يتبع)

ألبير نادر