مجلة الرسالة/العدد 52/الملاح التائه

مجلة الرسالة/العدد 52/الملاح التائه

مجلة الرسالة - العدد 52
الملاح التائه
ملاحظات: بتاريخ: 02 - 07 - 1934



للشاعر المهندس على محمود طه

بقلم الدكتور محمد عوض محمد

بعد كتابي الذي أرسلته إلىديقي الزيات منذ أيام، قد أدرك القارئ أنني راضٍ كل الرضى عن هذا العنوان الذي اتخذه الشاعر المهندس سمة لكتابه الجديد. وكيف لا نرضى عن هذا العنوان، وكثير منا من استقل زورق العمر، يطفو به فوق بحر الحياة، تتدافعنا رياح الحوادث، وتتجاذبنا أعاصير القضاء، وتحدق بنا الصخور والأمواج من كل جانب. فإذا أبصرنا على بعد جزيرة أمل ماثلة لأعيننا، لم نلبث أن نضل السبيل في البحث عنها، فلا نزال حائرين، ولا ننفك تائهين!.

كان ظهور (الملاح التائه) لعلي محمود طه و (وراء الغمام) لإبراهيم ناجي في شهر واحد وفي سنة واحدة من أحسن النعم الأدبية على قراء العربية. وقد ظهر كلاهما في شهر أيار، حين تخرج الورود والرياحين، فتملأ الأرجاء عبيراً وبهجةً وجمالا. ولست أشك في أن هواء الأدب قد امتلأ أيضا بأريج هذه الزهرات الأدبية اليانعة.

إن شعر علي محمود طه ليس مجهولاً للقراء؟ فقد ظهر منه (الرسالة) وفي (المقتطف) وفي (أبولو) شيء كثير. ولكن هناك فرق بين أن نطالع شعر الشاعر موزعاً متفرقاً، وبين أن نتناوله مجموعاً في سفر واحد. فأنا نجده في الصحف ملقى بين مختلف المواضيع والمنشآت التي تشبه في تنوعها وكثرتها (سلطة) الفواكه، قد اختلط منها التفاح بالموز، والعنب بالبرتقال، والشليك بالكمثرى، بل قد تجد أيضاً قطعاً كبيرة من اللفت أو الفجل، لا تدري كيف اتخذت سبيلها إلى تلك البيئة الغريبة عنها.

لهذا كان ظهور تلك الأشعار مجموعة في كتاب مستقل حادثاً يسترعي الأنتباه، ويستوقف النظر الذي كان يمر بتلك القصائد من قبل مراً سريعاً. ولدينا ويا للأسف شعراء كبار مثل حفني ناصف وإسماعيلبري لم يعنوا - ولم يعن أحد بعدهم - بجمع أشعارهم في كتاب. فليس في قلبنا منهم سوىورة مبهمة ناقصة فإخراج أشعار علي محمود طه في كتاب هو الحادث الذي يتيح للمرء أن يجلس لكي يتذوقها، ويتناولها بالنقد وبالدراسة.

تمجيد الشاعر أول ما يلفت النظر في علي محمود طه أنه شاعر يعرف للشاعر منزلته العالية، ومكانه السماوي الهائل وسط هذه المخلوقات الأرضية البائدة، ولهذا نراه يخص الشاعر بقسم كبير جداً من قصائده الممتازة؛ فنراه يخبرنا في أولى قصائده أن (ميلاد الشاعر) حادث جليل ترقص له الأرض، وتبتهج السماء، وتبرق أسارير الدهر، ويزداد له البدر إشراقاً ونوراً. فتتنادى الملائكة، وتتجاوب الأصداء: ليستبشر العالم فقد ولد فوق الأرض شاعر!

وفي قصيدة أخرى يرينا الشاعر وهو يناجي ربه، في شيء من غرور الشعراء. وإذا كنا نرى في هذه القصيدة ما يجعلنا أحياناً نصيح: (تأدب يا موسى؟) فيجب على الأقل أن نذكر أن الشاعر اقرب الكائنات إلى الله، فيجوز له ما لا يجوز لسواه.

وفي قصيدة ثالثة: تعد آية في الشعر العربي يصف لنا الشاعر في غرفته، وصفاً بديعاً لا عهد لنا بمثله، ولئن كان في هذه القصيدة ينحو نحو الفرد دي موسه أو غيره كما يقول الأستاذ طه حسين، فإن هذا لا ينقص من جمال القصيدة ذرة واحدة، بل انه ليدهشنا أن تكون المعاني الغريبة قد انسجمت هذا الانسجام الجميل في ثوبها العربي القشيب. ولها من وزنها العربي ما يسمو بها فوق الأوزان الإفرنجية الركيكة.

وفي قصيدة رابعة يحدثنا عن (قبر الشاعر). وقد أثارها في نفسه حديث عن الشاعر الفاضل المرحوم فوزي المعلوف، الذي قفي نحبه وهو بعد في ريعان الشباب ومزدهر الشعر، وسيحس القارئ في هذا التمجيد للشاعر شيئاً من تقدير المؤلف لنفسه، وإن لم يقل كلمة واحدة عن نفسه، وهذا خير مثال نضربه للذين لم يفهموا بعد أن هنالك مدرسة جديدة ومذهباً جديداً في الشعر العربي. فالقدماء من الشعراء كانوا هم أيضاً يقدرون للشاعر قدره. ولكن هذا الشعور كان مظهره فخر الشاعر بنفسه وبأدبه:

وما الدهر إلا من رواة قصائدي ... إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا

هذا عتابك إلا أنه مقة ... قد ضُمّنَ الدر إلا أنه كلم

واني وان كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل

وفي الشعر العربي من هذا الشيء الكثير جداً، ذلك كان دأب القدماء ومن نحوا نحوهم من المحدثين، وقد تلطف شوقي وسلك طريقاً جديداً حين جعل غادته تقول: (أنتم الناس أيها الشعراء!) ولكن علي محمود طه لم يقل عن نفسه شيئاً ولم يفتخر بل جعل يصف لنا الشاعر في مولده وحياته وفي أحلامه وأوهامه وفي تفكيره وحيرته، وفي أثناء ذلك نتبين ما للشاعر من قدر جليل ومكانة سامية.

ورجائي إلى الذين لم يصدقوا بعد أن هنالك تجديداً في الأدب العربي أن يفكروا في هذا المثل وحده الذي ضربته! فلعل فيه ما يقنعهم بان هنالك نواحي جديدة قد أخذ شعراؤنا يسيرون فيها وإنها من غير شك أكثر ملاءمة لروح عصرنا، فنحن اليوم لا نعبأ بشاعر يقول لنا إنه إذا قال شعراً أصبح الدهر منشداً. فلقد كان للفخر والتفاخر زمان غير هذا الزمان. ولكننا نرحب ونستأنس بهذه الصور التي تمثل الشاعر في أطواره المختلفة كما يحكيها لنا علي محمود طه.

تمجيد الطبيعة

الظاهرة الثانية التي تكاد تبرز أمامنا واضحة قوية في كلفحة منفحات (الملاح التائه) هي تمجيد الطبيعة، وهذه الظاهرة بادية فما ظهر من أدبنا الحديث كله، ولكنها شديدة الظهور في شعر علي محمود طه، وليس ذكره للطبيعة ذكراً سطحياً بل فيه تدبر وتعمق وإمعان فكر. وهي أحياناً تسيطر على القصيدة كلها كما هي الحال في (الشاطئ المهجور) و (صخرة الملتقى) و (القطب) و (عاشق الزهر) و (إلى البحر). ولكنها إلى جانب هذا منتشرة في الكتاب كله، ولن نعدم إشارة إليها في كل موضع.

وهذا يرينا كيف يسير شعراؤنا، بفطرتهم - ومن غير تعمد على ما أظن - في نفس الدور الذي سارت فيه حركة الرومانتزم في الشعر الغربي، فقد كان من أهم مظهرها الرجوع إلى الطبيعة.

والقارئ يعلم أن للوصف - سواء كان لظاهرة طبيعية أو لغيرها - طريقتين الأولى موضوعية فيحاول الكاتب بالألفاظ والعبارات أن يعطيناورة واضحة لما يراه أمامه كقول القائل:

والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء

وكقول علي محمود طه نفسه:

نَزَلَتْ فيه تستحمُّ النجومُ الزُّ ... هرُ في جلوة المساء المنيرِ

راقصاتٍ به على هزج المو ... ج عرايا مهدلات الشعور وعلىدره الخفوق طوينا الليل ... في زورق رضى المسير

ورياح الخليج دافئة تثنى ... حواشي شراعه المنشور

والطريقة الثانية في الوصف يرينا فيها الشاعر تأثير الموصوف في نفسه، ويتخذ من مظاهر الطبيعةوسيلة لأخراج ما يكنهدره من عاطفة أو حب أو ذكرى. كقول مهيار:

يانسيم الريح من كاظمة ... شد ما هجت الجوى والبرحا

الصبا - ان كان لابد - الصبا ... إنها كانت لقلبي أروحا

وكقول علي محمود طه في قصيدة (عاشق الزهر):

يا ليت لي كالفراش أجنحة ... أهفو بها في الفضاء هيماناً

أروح للنور في مشارقه ... وأغتدي من سناه نشواناً

وأرشف القطر من بواكره ... فلا أرود الضفاف ظمآناً

والأمثلة على هذا ونحوه كثيرة جداً لا حاجة إلى الزيادة منها. وقد كانت عناية القدماء بالنوع الأول اقل من عنايتهم بالثاني. وأما هاهنا فسيجد القارئ من النوعين قدراً وافياً. . ومن رأيي أن قصيدة الوصف يجب أن تشتمل على النوعين فيبدأ الشاعر بتصوير الظاهرة التي أمامه حتى يكادالقارئ أن يلمسها، ثم ينتقل إلى تأثيرها في نفسه وإلى ما توحي به من حكمة أو عاطفة، وهذا سر القوة الهائلة التي نجدها في قصيدة مثل سينية البحتري في إيوان كسرى.

الغموض

والآن فلأعد. إلى علي محمود طه. وهنا أريد أن أسر إلى القارئأن مطالعة هذا الشاعر هي أحياناً عبارة عن لذة سهلة سائغة كما يجدها القارئ في قصيدة (عاشق الزهر) أو (قبلة) أو (غرفة الشاعر). أو رثاء عدلي يكن. ولكنه أحياناً، وفي بعض القصائد الخطيرة، سيجدها لذة لا تدرك بسهولة. بل لا بد لها من التأني والتدبر. أما الموسيقى فهي هناك لاشك فيها. لكن المعاني فيها بعض الخفاء.

وقد يرجع هذا الخفاء لازدحام المعاني المتعددة في البيت الواحد. انظر مثلاً إلى قوله في مطلع (الوحي الخالد)

لوجهك هذا الكون ياحسن كله ... وجوه بفيض البشر من قسماتها فمثل هذا البيت لابد أن يقرأ في هدوء وتؤدة وأن يعاد غير مرة حتى نستوعبه فهماً.

لكن هذا النوع من الخفاء لا يعترض عليه؛ بل قد يكون جميلاً مستحسناً. أما النوع الأخر فهو الذي دار فيه الجدال في (الرسالة) من قبل. وذلك أن هنالك شعراء لا يعنون فقط بالصور الواضحة الملموسة البارزة، بل يكون كذلك بالصور التي يحيط بها غشاء من الإبهام، كالتي يراها الحالم بين النوم واليقظة أو كالظل لا هو نور ساطع ولا ظلام حالك. وهذا ما يعبر عنه في الفرنسية ذلك مذهب الرمز بين أمثال فرلين وأتباعه يمثلهم في الشعر الإنكليزي إلى حدٍّ ما الشاعر سوِ ْنبِرْن.

فالقارئ لأمثال هؤلاء الشعراء يجد في شعرهم موسيقى بديعة وأنغاماً رخيمةً. أما المعاني البارزة الملموسة فإننا قد نطلبهادائماً، ولكنا لن نجدها دائماً. ويجب أن نكتفي منهم بصورة لا نعيها تماماً. بل نفهمها نصف أو ربع فهم. وذلك بالطبع لأنهم هم أنفسهم لم يفهموها الفهم كله، وإنما تأثروا بها غامضة مبهمة خافية، وأرادوا أنينقلوا هذا ألينا هذا الأثر كما هو.

وفي شعر علي محمود طه شيء يسير من هذا. نجده في مواضيع متفرقة، في مثل قصيدة (عاصفة في جمجمة)، أو في (الله والشاعر) وفي غيرهما. وكثير منا يعز عليه أن يمر بالبيت فلا يحيط بمعناه تمامًا، أو بالصورة فلا يتبين شكلها تماماً. وهذا الطراز من الناس لا يميل إلى هذا الضرب من الشعر وينكره. وقد يكون له بعض الحق في هذا الأنكار، ولكن يجب أن نذكر أن الشاعر الذي يخلص لشعره ولشاعريته مضطر لأن ينقل إلينا ما يراه أو يتوهمه من الصور واضحة من الصور واضحةأو خافية.

والذي قد نؤاخذ الشاعر عليه حقيقة شيء واحد، ومن السهل جداً عليه معالجته إذا وافقنا على رأينا فيه، وذلك أن الشاعر خيالاً قوياً مفرطاً في القوة، وكثيراً ما يركب هذا الخيال بلا سرج ولا لجام فيذهب به فيفياف بعيده وأقطار قاصيةلا نستطيع غالباً - أن نصحبه إليها. هذا الخيال القوي الذي كثيراً ما يطربنا ويعجبنا نراه أحياناً يتعبنا وينصبنا.

يعجبنا حين يرينا الشاعر هذه الصورة:

أيها الشاعر الكئيب مضى الليل ... وما زلت غارقاً في شجونك

مسلماً رأسك الحزين إلى الفكر ... وللسهدذابلاتجفونك

ويد تمسك اليراع وأخرى ... في ارتعاش تمر فوق جبينك وفم ناضب به حر أنفا - سك يطغى على ضعيف آذينك

أو هذه الصورة:

وأطلت الأزهار ر من ورقاتها ... حيرى تعجب للربيع الباكر!

وجرى شعاع البدر حولك راقصاً ... طرباً على المرج النضير الزهر

فهذا وأمثاله كثير في (الملاح التائه) - هو من المعجب الطريف. وقد ساعده خياله القوي على إخراج هذه الصور الرائعة انظر إلى البيت الثالث في القطعة الأولى. ما أروعه وما أبدعه، وهو مع ذلك لا يحكي سوى حقيقة واضحة ملموسة. حقاً إن أبدع الخيال ما كان وسيلة إلى تصوير الحقيقة.

وإلى جانب هذا سيجد القارئ إن شاعرنا قد يذهب به الخيال مذاهب بعيدة: انظر مثلاً إلى قوله في (أغنية ريفية) إلى أن يمل الدجى وحشتي=وتشكو الكآبة مني الضجر

بيت موسيقاه جميلة مطربة. ولكنا لا ندري كيف تشكو الكآبة منه الضجر. وكذلك نرى خيال الشاعر قد بعد عنا إلى حيث لا نلحقه في قصيدة (عاصفة في جمجمة)، ولا نستطيع أن نأتي بها هنا كلها، ونكتفي بمثال أو اثنين كقوله:

أحياة سمتهاخر ونار ... حفت الأشواك من يسلكه

تنقضي الآجال فيه والسفار ... أبدى، ويح من تهلكه!

احملوا أمس إلى حفرته ... وتخطوا هوة الوادي السحيق

واحفزوا النجم إلى ثورته ... واحطموا أنو الليل ل ايفيق،

وبالطبع عذر الشاعر في هذا كله أنها (عاصفة في جمجمة) ويجب أن تثور مثل هذه العاصفة في جمجمة القارئ لكي يستمتع بهذه القصيدة.

كذلك قد يجد القارئ أن الخيال قد ذهب بعيداً في قصيدة (النشيد) حيث يجرد الشاعر من حبه شخصاً يصاحبه إلى لقاء الحبيب. وفي بعض المواضع نجد من الصعب علينا أن نتصور الموقف تماماً.

هذا ما يبدو للناقد في خيال الشاعر، أنه قد يفرط في القوة فيذهب مذاهب بعيدة. فإذا وافق الشاعر على هذا الرأي، فمن ابسط الأمور عليه أن يخفف من حدة هذا الخيال.

الأسلوب الأسلوب هو طريقة الأداء، وهو من المعاني كالجسد من الروح. وإذا نظرنا في أسلوب علي محمود طه نجد عبارته منسجمة طلية وألفاظه في الغالب متخيرة، ودليله في الاختيار حسن وقعها في الأذن، وهذا نجده في معظم الكتاب، حتى في المواضع التي يخفى أو يغمض المعنى لانعدام الموسيقى على كل حال.

وفي اختيار الشاعر لأوزانه نراه يكثر من الخفيف والرمل. ونصف قصائد الكتاب من هذين البحرين، وهو أحياناً يكتب القصائد الطويلة على الطراز المألوف من قافية واحدة؛ واكثر الكتاب من هذا الطراز ولكنه - لحسن الحظ - قد أتى بقصائد ذات قواف متعددة، وهذه على ثلاثة أنواع؛

(1) في الأول منها تتغير القافية عدة مرار بلا قيد ولا شرط كما في قصيدة ميلاد الشاعر.

(2) وفي الضرب الثاني تتغير القافية في كل أربع أبيات كما في (غرفة الشاعر) و (قبله) و (قبر شاعر) وترجمة (البحيرة) وقد نظم شعراء آخرون قصائد على هذا النظام الرباعي ولهذا يخيل لي أنه طراز طبيعي مستحسن. والمنتظر لهذا النوع أن ينتشر، ومن المستحسن جداً أن ينتشر.

(3) أما النوع الثالث ومنه قصيدة (الله والشاعر). فان فيه كل بيتين على حدة؛ والمصراع الأول يتفق في القافية مع الثالث والثاني مع الرابع. وهذا الطراز منتشر أيضاً في الشعر الحديث.

وهذا النظام الجديد للقافية من الظاهرات التي نرحب بها في شعر شعرائنا المحدثين. فقد انقضى الزمن الذي يفتخر فيه الشعراء بطول النفس؛ وبأن الواحد منهم ينظم القصيدة في مائة أو مائتين بل مئات من الأبيات، لا يكرر فيها القافية. كان

هذا الفخر سخفاً لا طائل تحته. فليس نظم القصائد الطوال في قافية واحدة بالشيء العسير على من أراد أن يقيد المعنى بالقافية. وان يجعل الجسم كله متوقفا على شكل الذِّنب! وأكبر شعراء العربية لم يكونوا من المطيلين مثل أبي نواس، والمتنبي. ولم يخرج عن هذه القاعدة سوى ابن الرومي. الذي كان يكرر معانيه ويفصلها ويستقصيها فتطول قصائده تبعاً لذلك.

وليس من شك في أن تنويع القافية سيشق أمام شعرائنا طرقاً كانت مغلقة أمام المتقدمين، ويفتح لهم أبواباً جديدة.

وقد لاحظ الأستاذ طه حسين على شاعرنا أن قول فيه أحياناً غير متفقة في مثل (نورها وقبرها) وفي مثل (فاتها ويواقيتها) و (ووجهها وتيهها) في قصيدة (الله والشاعر) وهذه الأمثلة حقيقة نادرة في الكتاب. ولكن يجمل بشاعرنا الذي ينشد الكمال أن يلاحظها:

ولقد يؤخذ على شعرائنا المحدثين انهم قلما يهتمون بدراسة موضوع العروض والقوافي في اللغة العربية. اتكالاً على أن هذا من الأشياء التي تجيء للشاعر الموهوب عفواً. هذا مع أن الكثير منهم - وليساحب (الملاح التائه) أحدهم - ربما خلط - بين الوافر والهزج، وبين السريع والكامل، وبين الكامل والرجز. ولو أنهم أتعبوا أنفسهم قليلاً في دراسة كتاب مختصر عن الوزن والقافية لكفوا أنفسهم شر هذه الزلات.

إن العرب قد اصطلحت على أن القوا في الآتية - مثلا -:

ليلى - ذْيلا - قوْلا - هولا. لايجوز أن تجتمع في قصيدة واحدة مع هذه القوافي - مثلا -: قبلا - عدلا - جهلا - مهلا. فالمجموعة الأولى فيها حرفا علة - الواو والياء - لهما موسيقى خاصة لا تتفق مع الحروف الساكنة الأخرى. فلو عرف شعراؤنا هذا الاصطلاح العربي القديم لأمكنهم أن يتذوقوا القافية التذوق اللازم. وليس من حسن السياسة في شئ أن نجهل أو نتجاهل ما اهتدى إليه الشعراء من قبل باحساسهم وذوقهم. ومهما كما كانت غرائز شعرائنا قوية وصادقة. فان جموع غسرائز شعراء العربية في مختلف العصور والبلاد أقوى وأصدق. لهذا كان لابد لشعرائنا من دراسة العروض دراسة وافية لكي يطلعوا على زبدة تجارب المتقدمين.

وفي الختام أهنئديقاحب (الملاح التائه) على كتابه البديع الذي قد تبوأ مكاناً ثابتاً خطيراً في الأدب العربي. واذا كان الأستاذ طه حسين قد قال عنه إنه مبتدئفليس معنى هذا أنه ينقصه النضوج أو الجمال. فهذا واضح في الكتاب كل الوضوح. ولكن معنى ذلك في نظرى أن لديه ما لمبتدئ من حماس ومن قوة ومن سعي وراء الكمال.

جوان لي بان

عوض