مجلة الرسالة/العدد 52/القصص

مجلة الرسالة/العدد 52/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 07 - 1934



منور الريف

كفارة. . .!!

. . . نهار من أيام الخريف، بدأ ثقيلاً طويلا قاتماً، ومضى عاصفاًاخبا، وأقبل اليل فسال الظلام على جوانب الكون كثيفا مطبقا، الريح تعصف عنيفة باردة والساء يغشاها سحاب أسحم ومطر سخي، أوراق الثسجر تساقط مستسلمة، وسهف النخيل يتخدى العاصفة، والعاصفة تداعبه وتعبث به، فتشيع في أطراف الليل حفيفأ موحشأ يشبه أن يكون أنين أرواح هائمة في أودية العذاب، أصوات الذئاب يتجاوب بها الصدى، والكلاب ترد عليها بنباح قوي مختلط يتصل حيناً طويلا، ثم ينقطع لحظات، ثم يعود فيتصل ويختلط، على ان هذه الأصوات المختلطة المبهمة كانت تنجلي أحيانا عن نداء أو غناء يردده أحد الفلاحين في حقل بعيد

سكون موحش يثير القلق، ويحمل على الشك، ويدفع الرهبة إلى النفوس دفعا. . . وقف بيومي قليلا ثم تردد في استئناف السرى. . . لقد جسم له الوهم والخوف من الظلام أعمدة جاثمة تعترض الطريق كأنها المردة السود، وكان بيومي يقف أحياناً يتطاول بعنقه ويرهف سمعه ويضرب بعينيه فيميم الظلام كأنما يبحث عن قبس أو هدى: إنه يحمل في جيبه مالاً كثيراً وهو يوجس خيفة، وهو فوق هذا وذاك يحس شيئاً من الجوع والتعب وبين بلده ساعةً وبعض ساعة فلماذا لا يبيت بلدة (قلوصنا) وهي على بضع دقائق فقط ريثما يسفر الصبح؟ إن لهديقاً قديماً هو شيخالخفراء وأكبر الظن أنه سيطعمه من جوع ويؤمنه من خوف ويهيء له من امره راحة وأمناً. . . ومن أحق بهذا من شيخ الخفراء؟! ولكن بيومي لا يستريح إلى هذا الحل ويتردد طويلاً قبل أن يبيت فيه لأنه يعلم عن شيخ الخفراء ما ليس لنا به علم، إنه يخشى أن يجيئه الهلاك من مأمنه، فلشيخ الخفراءحائف في ثبت الأجرام، وأكبر اليقين أنه لا يتورع من أن يضيف إليها فصولاً جديدة. ولكن أتراه يعتدي على ضيف ينزل بداره ويلجأ إليه؟ ربما! وهو فوق ذلكديقه! ولنترك بيومي يضطرب بين الشك واليقين ويتصارع في نفسه الأحجام والأقدام فلعل الله أن يجعل له فرجاً من الضيق، ومخرجاً من الحيرة، ومن الخوف أمناً وهدى. . .

أما عبد الهادي شيخ الخفراء فهو رجل مديد القامة، شديد البأس، قوي مفتول، له وجه تشيع في قسماته الصرامة، وعينان ينبعث منهما التحدي والشر، كان فيما فرط من أيامه يقطع الطرق ويهدد السارينويسلب الناس، ولم يجد في القتل حرجاً ولا في السلب جناحاً، بل إنه ليعدها من مفاخره. وعبد الهادي يثبت نظرية لمبروزو في المجرمين فقد كان من القرويين الذين تغلب فيهم سيطرة الأجرام، ويتحكم في رجولتهم شر اسود في لون هذا الليل العاصف المدلهم، لم يكن يردعه قانون ولا دين، ولا يمنعه عقل ولا عاطفة، عُين شيخاً للخفراء فزاد عبثه وما زال يصل أسبابه بأصدقائه القدماء من اللصوص والقتلة، يغريهم بالناس ويدلهم على مواطن الصيد ويمهد لهم سبل الإفلات. . .

واتصلت جرائمه واضطرب الأمن في بلده والبلاد القريبة، والناس يعلون أن لعبد الهادي يداً في كل شيء، لكنهم امتون لايهمسون، لأن لعبد الهادي عيناً ترقب الثرثار، ولأن الناس يدفعون هذا الصمت ثمناً لأرواحهم وأموالهم إشفاقاً من انتقامه وهم يؤدون إليه ما يفرض عليهماغرين إذاً اختفت سوائمهمفترد إليهم من حيث يعلمون ولا يعلمون.

أما بيومي فقد قلب الأمر غير مرة وانتهت المعركة في نفسه أخيراً. . . وتغلبت على وساوسه نوازع الثقة في الله ودوافع الخوف من السرى في الظلام والبرد، وتعاونت هذه الأسباب كلها على أن تسوقه إلى بيت عبد الهادي ضيفاً. . .

طرق بيومي باب عبد الهادي في رفق ففتح له وأحسن استقباله وقدم إليه طعاماً وأعقبه بالشاي مثنى وثلاث، ثم سمر معه إلى وهن من الليل وتركه ليجول في البلاد جولة بعد أن أوصى به ابنه سالماً أن يهيئ له فراشه في المنظرة، سهر بيومي وسالم ما طاب لهما، وسمرا ما تشقق بينهما الحديث وشربا الشاي غير مرة، ودخنا كثيراً ثم ثقلت أجفانهما وفترت أعضاؤهما ولحقهما الخمول، وأحسا الحاجة إلى الراحة فقام كل منهما إلى فراشه، ونام بيومي بعد أن قرأ ما تيسر من القران وتوكل على الله وأسلم إليه وجهه.

وعاد عبد الهادي بعد ما انتصف الليل وقد طوعت له نفسه أمراً، وأحسب أن هذا الأمر قد اختصم في نفسه طويلاً مع الواجب، واحسب أن بقايا المروءة المتناثرة في زوايا قلبه قد تجمعت فانطلقت تقرع أذنيه في عنف واتصال. . .! ربما لم يسمع، وأكبر الظن انه سمع، ولكنه سخر من ضميره وضحك من هذا الخور الذي لم يألفه في أعصابه، اتجه إلى الباب ففتحه ودار ببصره في الظلام والنجوم، ثم أرسل ضحكه مكبوتة كأنها في فحيح أفعى هائلة ثم انقلب إلى الداخل ثانية وأجمع رأيه قبل أن يبدله ما يرده إلى النكول أو التردد، حمل الذئب (بلطته) وتسلل إلى المنظرة فدخل ثم وقف وأنصت وتقدم إلى النائمفناوله ضربات متصلة قطعت ما بينه وبين العالم من أسباب الحياة.

اضطرب القتيل قليلاً ثم ساد السكون مرة أخرى. . .! وتحسس عبد الهادي جيب القتيل فلم يجد معه من المال قليلاً ولا كثيراً.

عرته الدهشة. .! أين اختفى المال الذي كان مع بيومي.؟ لاشك أنه حفظه في مكان ما في نفس المنظرة. . . ولم يتردد

عبد الهادي في أن يخفي أثر الجريمة أولاً. . . فلف الجثة وحزمها ثم حملهامطمئنا آمناً، لأن الشك ينحسر عنه وإن فاض حول جميع الناس. . شيخ الخفراء طبعا. .!! وللمرة الأولى أحس عبد الهادي رجفة تأخذ أعصابه وهماً مبهماً جائشاً يستبد بروحه ويضيق عليه أنفاسه، وثورةاخبة تصم أذنيه وتدور برأسه. . . لقد أخذه الندم! وأفاق ضميره ولكن متى. . .!؟ سمع عبد الهادي وقع حوافر الخيل تخب مسرعة وتناديه أن يقف. . إنهم العسس (الداورية)! غامت الدنيا في عينيه وملكه اليأس وأسقط في يده ولم يملك إلا أن يتطامن للقضاء الأعلى ويعنو لأرادة الله التي ترى كل شيء وتدبر كل شيء. . .! قاتل! وشيخ خفراء!! جريمة ذات شعبتين، قاده الجند إلى منزله أولاً وعلى كتفه ضحيته. . وحسر الجند اللفائف وتفرسوا في وجه القتيل وصرخ عبد الهادي وخرعقا. .!

لقد قتل ابنه خطأ. . .! واستيقظ بيومي فزعا فأدرك كل شيء، وأعلن أنه كان ينوي أن يبيت في المنظرة لولا أن سالما رأى أنها رطبة لا تلائم الضيف فنقله إلى غرفة أخرى وأخذ مكانه في المنظرة.!

وكان يوم الحكم فشرقت القاعة بالوفود ووقف القاتل في القفص يبكي في إطراق طويل وصمتاخب ومرارة ملتهبة وحسرة لجوج، وساد السكون فجأة لما ارتفعوت القاضي يدوي في القاعة قوياً جلياً هادئاً (أشغال شاقة مؤبدة).

وقاد الجند الرجل المحطم إلى قاعة النيابة في أعلى المحكمة وهو. لا يزال ينشج كالأطفال. . . وغافل الرجل المحطم الحراس وألقى بنفسه من أعلى المحكمة فهوى خليطاً هامداً من اللحم والعظم. . . قلوصنا

محمود البكري القلوصناوي