مجلة الرسالة/العدد 52/يوميد

مجلة الرسالة/العدد 52/يوميد

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 07 - 1934



للأديب حسين شوقي

ما كادت تلوح بالأفق خيوط النهار الفضية الأولى، حتى كنا انتبهنا من نومنا: ديقاي وأنا، وقد أزمعنا الذهاب لصيد البط في ضواحي الهرم، وكان كل منا يحمل بندقية ذات عيارين وعدداً كبيراً من الخرطوش، عدنا السيارة ونحن أشد بهجة من فصائل اسكندر المقدوني الفتية لدى زحفها على أسيا.

أما المدينة فكانت غارقة في النوم في تلك الساعة المبكرة ساكنة بأحقادها وشهواتها، ولم يكنأحد مستيقظاً، اللهم الا محرك سيارتنا.

سارت بنا السيارة في شارع الهرم، ولما بلغنا المستنقعات الواقعة في الجهة الغربية من طريق الهرم، غادرناها وركبنا زورق طلي بالطلاء الأسود حتى لا نشعر البط بوجودنا بالمستنقع، وكان موجوداً بكثرة على سطح الماء. . هل كان البط نائماً وقتئذ؟ لم يكن لدينا شك في ذلك برغم اعتراض دليلنا - وكان فتى قرويا - وذلك لسكونه سكوناً عجيباً. .

ولكنا كنا مخطئين إذ لم نكد نقترب منه حتى انطلق في الجو. كأنه سهم ناري فأطلقنا عليه البنادق في الهواء ولكن بدون جدوى رغم عدده الكثير. . لقد ظهرنا في عيني دليلنا القروييادين غير ماهرين، فانتزع بندقية أحدنا وأطلق طلقة واحدة أسقطت بطة في الحال!

وا أسفاه على الدروس التي تلقيتها فيباي للصيد في الهواء! كنت أتمرن وقتئذ على البيض، يقذفون لي البيض في الهواء فأطلق عليه بندقيتي فاذا أصيب البيض وهو ما كان يقع نادراً - سال فأمطرنا مطراً اصفر.

وبعد محاولات يائسة لصيد البط، غادرنا المستنقع إذ لم نجد سبيلاً إلى البط فهو شديد الفطنة. .

كيف يدرك البط الخطر على مسافات بعيدة؟ إن شأنه شأن الحمام الزاجل الذي يعرف طريق الوطن على بعد مئات من الأميال. هل تكشف لنا الطبيعة يوماً عن مثل هذه الأسرار؟

قبل أن نغادر تركنا لدليلنا القروي البطة التيادها هو، حتى لا تذكرنا فشلنا على الدوام. .

هل كنا نعود وقتئذ إلى المنزل؟ لم يكن في استطاعتنا أن نفعل ذلك، إذ لوعدنا لصرنا سخرية للجميع. . ممنا بعد ذلكعلى البحث عن طير يكون أقل فطنة من البط. .

ها نحن أولاء نسير وسط الغيطان التي كسيت بساطاًأخضر جميلاً من البرسيم. . وثم اعترضتنا ترعة لاجسر عليها للمرور، وكنا في حيرة من أمرنا حينما اقبل قروي وتطوع أن يحملنا على ظهره عبر الترعة. وقد مرت بهذه الطريقة، ومر أحدديقي. وأما الصديق الثالث وكان بديناً، فقد غرز هو وحامله في الطين، وبدلاً من أن يعمل على الخروج من الترعة، أخذ يضرب القروي المسكين!. ياله من منظر مضحك أنسانا فشلنا مع البط!

ثم أقبل قرويان آخران فقاما بعمليه النجدة. . بعد ذلك بلغنامكاناً مظللاً بالأشجار الكثيفة، حيث أخذت العصافير تزقزق جزلة مسرورة. . وقد شاهدنا على أحد الغصون يمامتين تتناجيان، كم كان منظرهما جميلاً، وقد طوق عنقاهما بطوق فاحم جميل، كما رصع منقاراهما بالياقوت. .

ثم حدث ما كنت أخشى وقوعه، فقد اقترحديقاي أن نصطادهما! لم يكن في طاقتي أن أطلق النار على هذين المخلوقين الجميلين، إنها حقا لوحشيه! لذلك رفضت، فقال أحدديقي ليقنعني: أطلق ولاتكن غبياً، لقد حللت لك الصيد قوانين السموات والأرض! فقلت: ليكن، ولكن قلبي لا يطاوعني! ولما رآنيديقي مصمماً على الامتناع، أطلق هو عياراً

فأردى إحدى اليمامتين، سقطت وقد كسر جناحها، كما أن خرطوشة أخرى لا بد أنها اخترقت قلبها، لأن الدم كان يسيل من منقارها بغزارة.

ورغم وحشيتنا هذه. كانت عينا اليمامة ترمقاننا في حنان، كأنها قد غفرت لنا فعلنا كما غفر عيسى من قبل لمضطهديه اليهود! يا للأسف! إننا ما زلنا متوحشين نسر لرؤية الدم! كم نحن بعيدون عن المثل العليا التي ينشدها أفلاطون!

ومن ذلك اليوم كرهت الصيد، فكل عام اجدد رخصتي دون أن أجدد رغبتي.

حسين شوقي