مجلة الرسالة/العدد 52/لوعة الربيع

مجلة الرسالة/العدد 52/لوعة الربيع

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 07 - 1934



وقفت - ولم أقصد - على ضفة النهر ... وطرفي ممتد إلى حيث لا أدري!

وفي النفس ما فيها! عواطف جمَّة ... يضيق بهادري، ويعيا بها فكري

عواطف، لا أدري حقيقة أمرها ... ولكنها بين الكآبة والشعر!

أراقب سير الموج، والريح سجسجُ ... تعابث وجه الماء، وهو بها يزري

ودجلة يجري في جلالٍ وروعةٍ ... وعزم كعزم الدهر، كراً بلا فرّ

تطلُّ عليه الشمس من خلف رفرفٍ ... - على الضفة الأخرى - من النخل والسِّدر

فينساب، لا يلوي على ما وراءه ... كأن به شيئاً من التيه والكبر

يجرُّ على الشطَّين فضل غلالةٍ ... من الموج، كالأملاك في غابر الدهر

رزين، قويّ، يملأ النفس هيبةً ... وقور، فسيح الصدر، متزن السير

فخيلّ لي - والماء ينساب جارياً ... كان حياة بين أثنائه تجري

ولو كان ذا روح، لعمرك - لم يكن ... بأهيب منه وهو يجري، ولا يدرى!

فحولت وجهي، ساكن النفسامتاً ... سوى خفقان خافت الجرس فيدري

فما هاجني إلا جلالة موكبٍ ... تسير به شمس الأصيل إلى الخدر

وقد برزت في حل من شعاعها ... مذهبة، في منظر فاتن مغري

ومن خلفها، يحملن فضل إزارها ... جوار من السحب المنوّرة الأز

ودرت بيميني حول نفسي فلم أجد ... سوى كل ما عند الطبيعة من سحر

فذى الأرض كيف إزَّينت وتجملت ... بثوب من الأعشاب رصّع بالزهر

وهذا النسيم الرطب، نشوان فارح ... بما نال عند الزهر من عاطر الذكر

وهاتيك أرواح تَجولُ في الفضا - ءِ محسوسة التأثير، مجهولة الأمر

لعمرك ما أدري! أأرواح جِنّة ... ترفرف، أم روح الربيع انبرت تسري

أم السحر هذا، أم خيالات شاعر ... سبت لبّه أشباح آلهة الشعر

وذانك عصفوران من خلف دجلة ... يطيران في جو من الحب والطهر

وتلك حمامات ينحن نوادباً ... يساجلن فوق الدوحادحة القمر

وكلٌّ بتمجيد الطبيعة هاتفٌ ... مُهنٍّ بميلاد الربيع ابنها البكر

بدت تعلن البشرى بشتى لغاتها ... فذا الطير بالنجوى، وذا الزهر بالنش وتلمح حتى للجماد بشاشة ... ووجهاً ودوداً يستميلك كالسحر!

حياة لعمري لامست كل ميت ... تحس بها نفسي، وينكرها فكرى!

فمالك ياقلبي كأنك نائم ... تساورك الأحلام غامضة السر؟

لئن كنت في ليل الطبيعة راقداً ... شتاءً، فأنت اليوم في غرة الفجر

حنانيك هذا يومك المرتجى فقم ... وباكر لذاذات الهوى الطامح العذري

حرام علينا أن يمرّ بنا سُدى ... ولم نقض منه مأرب الشاعر الحر

فجارِ الملا إن كنت منهم ومثلهم ... وطر في الفضا إن كنت من زمرة الطير

ونُح بالأسى إن كنت أسوان يائساً ... وبح بالهوى إن كنتبا أخاضر

وفيما الأسى واليأس - والكل منقضِ؟ ... وأنت لدي عيدين جاءا على الأثر

فهذا ربيع للطبيعة ناضرٌ ... جميل المحيا، زاهر، باسم الثغر

وهذا ربيع الشباب محبب ... بأحلامه، حلو المنى، ناعم البشر

وما العمر إلا مدة ثم تنقض ... كالحلم، بما فيها من الخير والشر

لقد فاتني ما قد خلقت لأجله ... وأدركني ما يرتجي نيله غيري

فما طعم عيشي؟ لا شقاء ولا هنا ... ولا يائسة تقضى ولا أمل يغرى!

حنانيك فامرح في الضلال أو الهدى ... وهبتك ما تهوى فمالك من عذر

وخذ قسطك الأوفى - من الأرض والسما ... من الروح والريحان والنور والنِّور

العراق - العمارة

عبد الحق فاضل الصيدلي