مجلة الرسالة/العدد 522/الحديث ذو شجون

مجلة الرسالة/العدد 522/الحديث ذو شجون

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 07 - 1943


للدكتور زكي مبارك

الحياة والموت في الآية القرآنية - احترسوا من الأموات - الغصن الوريق

قرأت السؤال الموجه إلى الأستاذ محمد أحمد الغمراوي من أحد أفاضل الفراء، وقرأت إجابة حضرة الدكتور عباس محمود حسين وإجابة ضرة الدكتور حامد البدري الغرابي، ثم رأت أشترك في الإجابة، لأن عندي آراء ترفع اللبس عن الآية القرآنية، وتلقي على الموضوع بوارق من الضياء

القرآن يقول (يُخرج الحيّ من الميت) والعلم يقول إن الحيّ لا يخرج من الميت، فكيف نوفق بين قول العلم وقول القرآن؟

إن هذا الخاطر حير البرية منذ أزمان، فقد قال أبو العلاء:

والذي حارت البرية فيه ... حيوانٌ مستحدثٌ من جماد

وأسارع فأقرر أن مصدر الحيرة يرجع إلى عدم فهم المراد من الميت، وعدم فهم المراد من الجماد

وبيان ذلك أن الموت في الآية القرآنية ليس هو الموت الذي ينافي الحياة كل المنافاة، وإنما هو الحالة التي لا تتمثل فيها خصائص الحيوان والنبات من الإحساس والنماء، وكذلك يقال في الجماد وهو الطين في بيت العلاء، فالطين ليس له في الظاهر إحساس ولا نماء، ولكن فيه حيوية تظهر في قدرته على تحويل البذور إلى نبات، فهو يحتضنها بحرارة تشبه احتضان الطير للبيض، وتلك الحيوية متفرعة عن أسباب جوية، ولكنها أصيلة في الطين بدليل قدرته على اجتذاب وسائل الإنضاج، فإنه لا يمكن تصور الفاعلية بدون بدون تصور القابلية، والقابلية استعداد يشهد بالحيوية

يروي أن أستاذنا الروحي في التصوف وهو أبو الحسن الشاذلي قال (نحن كالسلحفاة تربى أبناءها بالنظر) وهي عبارة في غاية من الجمال

ومع أني لم أفكر في تحقيق هذه الظاهرة الطبيعية فقد سمعت أن النعامة تحتضن بيضها بالنظر فقط، لأنها لا ترقد علية وطريقتها في الاحتضان أن تنظر إلى البيض باستقامة لا يعروها التفات إلى اليمن أو الشمال، فإذا تعبت جاء الظليم فوقف مكانها وصوب نظرة إلى البيض بنفس الأسلوب، لأنه إذا انحرف يمنة أو يسرة خفت الحرارة فبرد البيض

وعن هذه الصورة نقلت بعض الكنائس وضع بيضة الناعمة في المحراب، لتوحي إلى المصلين أن الصلاة لا تقبل إذا اعترى المصلي أي انحراف

فنظرة السلحفاة للتغذية ونظرة النعامة للاحتضان، هاتان النظرتان فيهما حيوية لا يرتاب فيها مرتاب، وهما تشبهان احتضان الطين لبذور الشجر والنبات

قلت مرة إني أنكر أن يكون في الوجود شئ ميت، وهذا رأى كونته بعد تجارب، وهو في يقيني صحيح صحيح، وعندي على صحته براهين

ما رأيكم في الغبار الذي يثور فيسد مسام الأجسام ويقذي العيون؟

في ذلك الغبار حيوية تسبب ذلك الإيذاء، وأن سكت عنها الباحثون، وبرهاني على هذا القول أن القابلية لا تتأثر بدون فاعلية ومعنى ذلك أن الغبار من الأحياء لأنه فعال

يقول الدكتور حامد البدري:

(الإنسان الحي يقتات من المواد النباتية وهي غير حية، كما تقتات من لحوم الحيوانات بعد ذبحها وموتها وموت خلاياها موتاً كلياً)

وأنا لا أقول بهذا القول، فالنباتات التي نأكلها حيةُ وليست بميتة، ولحوم الحيوانات لا تموت خلاياها موتاً كلياً بذبحها وموتها، كما يقول هذا الطبيب، وإنما هي لحوم حية وإن أنضجناها بالنار، وإلا فكيف يمكن أن تعود على أجسامنا وعقولنا بالنشاط والأريحية؟

إن حياة الدجاجة، حياتها الطبيعية، لا تقاس إلى حياتها المعنوية بعد أن تذبح وتؤكل، فقد يكون آكلها قائداً فينتصر في موقعة، وقد يكون شاعراً فينظم قصيدة بليغة، وقد يكون باحثاً فينشط ذهنه لحل أصعب المعضلات

هل تعرفون شيئاً عن طمى النيل، وإلى ذلك الطمي يرجع خصب الأرض المصرية؟

ذلك الطمي ليس غباراً تسفيه الرياح كما يقول جماعة من المهندسين، وإنما هو محصول حيواني ونباتي تنظمه خلائق صغيرة لم يتحدث عنها العلم ولا التاريخ، ولهذا السبب نجد في الفلاحين من يأكل طمي النيل بشهية، لأنه في الواقع طعام من لأتراب، وهو لدسامته المفرطة يؤذي الأمعاء، ويصيب الفلاحين بمرض الرهان

والفلاح بطبعه يترك الماء المقطر، ويقبل الماء المعكر لأن عكارة ماء النيل غذاء، وهي السبب فيما نتمتع به من الخيرات. لا تنسوا أن العكارة هي في الأصل عناصر نباتية والحيوانية، وإن سكت عنها الأطباء في القديم والحديث

ثم ماذا؟ ثم أمضى إلى نهاية الشوط فأقول:

ما الذي يوجب أن تكون الرسوم الهوامد من أسباب الإيحاء، إلى الشعراء؟

وتذكروا الفاعلية والقابلية، لتعرفوا أن الرسم الهامد لا يخلو من حياة، وهل يوحي الأموات إلا وهم في بعض أحوالهم أحياء؟

الناس في جميع العهود يؤمنون بالعين، أو يخافون العين، وتلك أسطورة معروفة عند بني إسرائيل، وعنهم نقلها أكثر شعوب الشرق، وما سميتها أسطورة إلا تلطفاً مع العلم الحديث وإلا فهي حقيقة من الحقائق، فعين الحاسد يصدر عنها شعاع محرق، شعاع يحسه الحاسد نفسه، كما نص بعض القدماء، وهذا الشعاع يسلم الرجل إلى القبر، والجمل إلى القدر، كما جاء في بعض الأحاديث المنسوبة إلى الرسول

قال يعقوب لبنيه عند دخولهم عاصمة مصر لذاك العهد: (يا بنيّ لا تدخلوا من باب واحد، وأدخلوا من أبواب متفرقة) فما معنى هذه الوصية؟ قال جماعة من المفسرين: إنه خاف عليهم عيون الحاسدين

ولنفرض أن الحسد خرافة في خرافة، وأن الجاهلين افتروا على النبي محمد والنبي يعقوب، فكيف تفشت تلك الخرافة في اكثر الشعوب؟

هل تصدر الخرافات بدون أصل؟

إن كان ذلك فحدثوني عن سر التوافق بين المصريين والفرنسيين في هاتين العبارتين:

إن خاف المصري الحسد قال: عين الحسود فيها عود. وإن خاف الفرنسي الحسد قال: إلمس الخشب

فما معنى هذا التوافق العجيب في الفكرة والصورة؟

هل كان المصريون والفرنسيون يدركون قيمة الخشب في دفع باس الكهرباء؟

هذه والله إحدى العجائب

المهم هو أن أقرر بصراحة أن ليس في الوجود شئ ميت، وأن القرآن حين قال: (يخرج الحيّ من الميت) لم يكن يريد الموت المطلق، وإنما كان يريد الموت الاصطلاحي، وهو الحالة التي لا تتمثل فيها خصائص الحيوان والنبات من الإحساس والنماء

وما هو الموت إذا أريدت حقيقة الموت؟

إن كان الموت هو الفناء فلا فناء

قال القرآن المجيد: (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد) ومع هذا فالله لن يتركنا أبداً، فالكتب السماوية صريحة في أنه سيردنا إليه، للثواب أو العقاب، وعلى هذا لن يكون الموت لغير غفوات قصار أو طوال

ثم ماذا؟ ثم أسأل عن التفسير الصوفي لعبارة (يخرج الحي من الميت) وهو تفسير سكت عنه أساتذتي في التصوف، ومن حقي أن أتأدب بأدبهم فأدير الحديث بالرمز والإيماء

الميت في التصوف هو الإنسان الفاني، والحي في التصوف هو الإنسان الباقي، ومن فضل الله على عباده الفانين، أن يجعل منهم عباداً خالدين

فإن قيل: وكيف يخرج الله الميت من الحي على الطريقة الصوفية؟ فأنا أجيب:

الحي في هذه المرة هو الدنيوي المفتون، وسينتقم الله منه فيجعل ميتاً بالعقاب يوم الحساب

أما بعد فهذه كلمات لم أرد تفنيد ما قال ذانك الطبيبان الفاضلان، وإنما أردت أن أقدم إلى قرائي حقائق تعتلج في صدري، وهي حقائق متصلة بالشروح التي أيدت بها نظرية وحدة الوجود

لا موت ولا فناء

فاسمعوا كلامي واعتقدوا أن في مقدور كل مخلوق أن يظفر بالخلود إن أراد جاهدوا لتحيوا، فلا حياة بدون جهاد

لا تكونوا صحراوات لا يترقرق فيها غير السراب، وإن كان للصحراء حياة تتمثل في قدرتها على تفويت ألوان السراب كل شئ حي، حتى الصحراء التي تبدع السراب، فأين من سمع قبل اليوم أن الصحراء تؤيد غناها الموهوم بتلك الأحابيل؟

وكيف يكون غنى الصحراء غنى موهوماً وهي لا تقل في الثروة والمناعة عن البحر المحيط؟

أنا لا أخاف عليكم الموت ولا الفناء، لأني أنكر الموت والفناء، وإنما أدعوكم إلى التسلح بسلاح الفاعلية لا القابلية لا تكونوا مقابر توحي فكرة الخوف والخذلان، وكونوا آساداً توحي فكرة السيطرة والافتراس

القبر يوحي والأسد يوحي، فاختاروا الأفضل والاشرف من الوحيين

لا موت في الوجود ولا فناء

ولكن الميت قد يحيا، والحي قد يموت

أموركم بأيديكم، فاصنعوا بأنفسكم ومصايركم ما تريدون، فقد بلغت في نصحكم غاية ما أملك من عافية الروح وصراحة البيان

احترسوا من الأموات

وراء كل إنسان حي إنسان ميت يسوقه بعنف إلى مصاير فيها المقبول والمردود، تبعاً لما يملك الميت من آراء وأهواء

ومن غرائب ما يقع في القدوة الفكرية أن الناس في الأغلب لا يحترمون رأي المفكر إلا بعد أن يموت. هل التفت الناس إلى آراء الشيخ محمد عبده إلا بعد أن مات؟

إن الشيخ عبده كان يتندر بمعاصريه فيقول إنهم لا يحترمون غير الرأي المنصوص عليه في كتاب قديم بعد عهد صاحبه بالحياة ولأحياء

وغفلة بني آدم من هذه الناحية أوضح من أن تحتاج إلى بيان، فقد أشاع أبو نواس وأصحابه أن الخمر لا تجود إلا إن قدم عهدها بالوجود، ولهذا نجد تجار الخمر يعفرون الزجاجة بالتراب ليوهموا الغافلين أن جوهرها عتيق، كما كنا نرى في بعض مخازن الخمور بمدينة باريس

والقديم في الأدب هو الأصل، فقد مرت أزمان والناس يعتقدون أن أشعار الجاهليين أقوى وأبرع من أشعار الأمويين والعباسيين

القدم في عرف بني آدم يمنح صاحبه قدسية تفوق الوصف، وهو شارة من شارات النضج العبقري في الأشخاص وفي المعاني بسبب ما درج عليه الناس من احترام الأموات

أي العبارتين أقوى: عبارة قال القدماء، أو عبارة قال المعاصرون؟

وازنوا بين هاتين العبارتين من الوجهة النفسية لتصدقوني

وأي الحفظين أنفع في نظر المتأدبين: حفظ ديوان المتنبي، أم حفظ ديوان شوقي؟ إن الأموات يسيطرون على الجماهير سيطرة روحية وعقلية لا يرتاب فيها إنسان، ولو كان من أكابر الحكماء

فكيف ننكر أن يخرج الحي من الميت، وهذا هو الحال في تصورات الأفهام والعقول؟

للموت قدسية رائعة، فهو يرفع الأموات إلى آفاق لم تخطر لهم في بال، ألم تسمعوا أن كلمة الموت أصبحت مرادفة لكلمة الخلود؟

تبارك من يخرج الحي من الميت، وعفا عن صاحب ذلك الاعتراض!

الغصن الوريق

هذا الغصن هو مصدر الوحي، وهو أنضر فنن من أفنان الجمال جمالة عندي ليس جمال الشراب المعتق، وإنما هو جمال الماء الصابح في بحر سنتريس

أهفو إليه وهو سرحة ناشئة لم يغرد فوقها غير شعري وخيالي، وأشتاق رؤيته لأحميه من رقة النسائم في لطائف الآصال

فوق أوراقك أيها الغصن الوريق تراق دموع الهوى، وهي أرق من قطرات الندى، ومن أجل الوفاء لهواك يفتضح من يكره الافتضاح

وهل عرف أحد هويتك، أيها الغصن الوريق؟

أنت نفسك لا تعرف أنك المعنى بما يهتف به روحي في رسائلي وأشعاري، يا أجمل جاهل في هذا الوجود

هل تعرف أيها الغصن رفقي بك في القريب من أيامك ولياليك؟

كان بيدي أن أصيرك صرخة لا يترنم فوقها بلبل، ولا يفرح بمداعبتها نسيم، ولا يتطلع إليها نور الصباح

كان بيدي أن أهصرك، أيها الغصن الوريق، فكيف جاز أن أسلك مسلك الزهادة فيك؟

رأيت أن أجعلك فوق مشتهيات العيون والقلوب؛ يا أجمل وأظرف ما تشتهيه العيون والقلوب

كان رأيك أنني ترفقت بنفسي فلم أقل إنك هواي، وكان رأيي أني أرحمك فلا أقول إنك هواي، لأني أقدر منك على مقاومة الرقباء

فيا أنضر غصن في أجمل شجرة تتخايل في أعظم بستان، ما رأيك فيمن يكتم هواك؟ ألا يكفي أن الغناء بحبك صيرني أشقى الأشقياء بالحب في زماني؟

سكت فقال العاذلون أنت، ونطقت فقال الكاشحون أنت، فمن أنت؟

آفتي في زماني أني أحب الغصن الوريق، فليعرف من لم يكن يعرف أن هواي مقصور على الأغصان الوريقة بحديقة داري في سنتريس، مع الأدب في حق من زار تلك الدار وكأنه طيف من أطياف الخلود

زكي مبارك