مجلة الرسالة/العدد 522/دفاع عن البلاغة

مجلة الرسالة/العدد 522/دفاع عن البلاغة

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 07 - 1943


13 - دفاع عن البلاغة 5 - الأسلوب

خلص لنا من مخض هذه الأحاديث أن الأسلوب الفني يتكون من الصورة والفكرة كما يتكون الماء القراح من الهدروجين والأوكسجين. وكما استحال في فن الطبيعة أن يتكون الماء من أحد عنصريه، فقد استحال في فن الإنسان أن يتكون الأسلوب من أحد جزئيه. ولا أقصر وجه الشبه بين الأسلوب والماء على أن تركُّب هذا وذاك من عنصرين ضربة لازب؛ إنما أمد الشّبه إلى أن نسبة الصورة إلى الفكرة في الأسلوب يجب أن تكون كنسبة الهدروجين إلى الأوكسجين في الماء. وإذن لا يعد من الأساليب الفنية تلك المعاني الحكيمة التي تُعرض في معرض بشع من الركاكّة والغثاثة والتعقيد والخطأ ولا تلك الصور المموهة التي تنتفخ انتفاخ الفقاقيع، وتبرق بريق الشرر، ثم لا يكون من ورائها غير فراغ وظلمة. قال ابن رشيق: (ولا تجد معنى يختل إلا من جهة اللفظ وجريه فيه على غير الواجب، قياساً على ما قدمت من أدواء الجسوم والأرواح. فان اختل المعنى كله وفسد، بقى اللفظ مواتاً لا فائدة فيه وإن كان حسن الطلاوة في السمع، كما أن الميت لم ينقص من شخصه شيء في رأى العين إلا أنه لا يُنتفع به ولا يفيد فائدة. وكذلك إن اختل اللفظ وتلاشى لم يصحّ له معنى، لأنا لا نجد روحاً في غير جسم ألبتَّهَ)

على ذلك نستطيع أن نتحدث إليك اليوم عن صفات الأسلوب الذي عرَّفناه وآثرناه. وحاشاك أن تفهم مما قدمتُ أن في ذهني أسلوباً معيناً جعلته النموذج، وأن في بالي نموذجاً خاصاً جعلته المقياس؛ فأني ذكرت لك من قبل أن الأساليب تختلف باختلاف الذهن والثقافة والنوع والغرض والحال والشخص الذي يتحدث. فأسلوب القصة غير أسلوب الرواية، وأسلوب العتاب غير أسلوب الشكر، وأسلوب التأثير غير أسلوب الإقناع، وأسلوب العالم غير أسلوب العامل؛ وكل أسلوب بليغ في بابه، مقبول من أصحابه. ومن العسير عليَّ في هذه اللمحات أن أستوعب الصفات الخاصة بكل أسلوب لكل نوع؛ فإن موضع ذلك عند تفصيل القول في الأنواع الأدبية وقواعدها الثابتة وشروطها المميزة؛ ولكن لهذه الأنواع مهما تعددت واختلفت صفات مشتركة من جهة الأسلوب، كما أن لها ملكات مشتركة من جهة الذهن، هذه الصفات المشتركة هي التي تعنينا ونعنيها، وهي التي سنحاول بسط الكلام فيها

تقرأ في كتب النقد والبلاغة فتجد من صفحه إلى صفحه سلاسل من الوصف الجزاف تتلاحق على الكلام البليغ فلا توضحه ولا تحدده. ذلك لأن أكثرها من الألفاظ التي أشاعها الكتاب في الناس من غير تقييد ولا تحديد فظلت معانيها مبهمة ودلالها شائعة. من ذلك قولهم: الجزالة والسهولة والعذوبة والرقة والدقة والخفة والقوة والسلاسة والرصانة والنصاعة والوضوح والصدق والحلاوة والرونق والمائية والطبيعية والسبك والحبك والشرف والسمو والجلال، إلى آخر هذه النعوت المتداخلة التي لا تعين حداً ولا تبين مزية

وأنت إذا تدبرت هذه الصفات على علاتها ثم عرفتها وصنفتها لا تجدها تخرج عن صفات ثلاث هي جملتها وجماعها: تلك الصفات الجامعي هي الأصالة والوجازة، والتلاؤم. ويقابلها في الفرنسية ' , , ' وسنفيض القول في كل صفة منها ما وسعنا البيان والجهد

يراد بالأصالة في الأسلوب بناؤه على ركنين أساسيين من خصوصية اللفظ وطرافة العبارة. وتلك هي الصفة الجوهرية للأسلوب البليغ، والسمة المميزة للكاتب الحق. وملاك الأصالة ألا تكتب كما يكتب الناس. ملاكها أن تكون أََصيلاً في نظرتك وكلمتك وفكرتك وصورتك ولهجتك، فلا تستعمل لفظاً عاماً ولا تعبيراً محفوظاً ولا استعارة مشاعة. ولعلك قرأت فيما قرأت كلاماً يرضي اللغويين ويعجب النحاة، ولكنه مضطرب الدلالة مختلط الألوان تفه المذاق لا تستقله روح ولا تمثله صورة. ذلك هو الأسلوب الذي صدر عن الذاكرة ولم يصدر عن الذهن، ونقل عن الناس ولم ينقل عن النفس، وعبر بالجمل لا بالكلمات، وأبان بالتقريب لا بالدقة، وصور بالسوقي المبتذل لا بالأصيل المبتكر أما خصوصية اللفظ فدلالته التامة على المعنى المراد ووقوعه الموفق في الموقع المناسب. وآية مطابقته لمعناه ومبناه أنك لا تستطيع أن تُبدله ولا أن تَنقله. والخصوصية في اللفظ أصل الدقة في التعبير والوضوح في المعنى والصدق في الدلالة؛ لأن الكلمة إذا تمكنت في موضعها الأصيل دلت على المعنى كله؛ فإذا حُشرت فيه حشراً، أو قسرت عليه قسراً، دلت على بعض المعنى أو أبانت عن غيره

وفي اختيار الكلمة الخاصة بالمعنى إبداع وخَلق؛ لأن الكلمة ميتة ما دامت في المعجم؛ فإذا وصلها الفنان الخالق بأخواتها في التركيب، ووضعها في موضعها الطبيعي من الجملة، دبت فيها الحياة، وسرت فيها الحرارة، وظهر علية اللون، وتهيأ لها البروز. والكلمة في الجملة كالقطعة في الآلة، إذا وضعت في موضعها على الصورة اللازمة والنظام المطلوب تحركت الآلة وإلا ظلت جامدة. وللكلمات أرواح كما قال (موباسان). وأكثر القراء، وإن شئت فقل أكثر الكتاب، لا يطلبون منها غير المعاني. فإذا استطعت أن تجد الكلمة التي لا غنى عنها ولا عوض منها، ثم وضعتها في الموضع الذي أعد لها وهندس عليها، ونفخت فيها الروح التي تعيد لها الحياة وترسل عليها الضوء، ضمنت الدقة والقوة والصدق والطبيعّة والوضوح، وأمنت الترادف والتقريب والإعتساف ووضع الجملة في موضع الكلمة. وذلك في الجهاد الفني فوز غير قليل.

(للكلام بقية)

احمد حسن الزيات