مجلة الرسالة/العدد 522/تشارلز دكنز

مجلة الرسالة/العدد 522/تشارلز دكنز

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 07 - 1943



مواهبه وخصائص فنه

للأستاذ محمود عزت عرفة

(تتمة ما نشر في العدد 520)

ضحك. . . وبكاء

قد تعجب للكاتب الواحد يجمع بين الجد الصارم والفكاهة المرحة، أو يمزج في حديثه بين ضحكات الهتانة: ولكن هكذا كان ديكنز! فهو في ثاني كتبه (صحائف بكويك) يرتفع بأدب الفكاهة إلى القمة حتى لتكاد تلمح روحه المرح خلال كل حادث، ومن وراء كل حوار. بل لقد أصبحت تلك الأساليب ذوات المعاني الطريفة الافتراضية التي أجراها دكنز على لسان بطله سامويل بكويك رمزاً أو معنى ينضوي تحت هذا النوع، مما يطلق عليه اليوم اسم ولقد كان انسجام هذه العبارات دقيقاً وتواؤمها طريفاً مع فكاهات سام ويلز - بطل الرواية الثاني - التي جرت في أعقاب ظهورها على كل لسان، وأبهجت بطرافة معانيها نفس كل قارئ. حتى لقد قال أحد نقاد الإنجليز في وصف هذا الكتاب: (أن الهدف الأسمى لصحائف بكويك إنما هو الفكاهة لذاتها، وما نشك في أن هذا الكتاب قد ابتعث في صدور قرائه من الضحكات المرحة البريئة أكثر مما ابتعثه أي كتاب آخر في لغتنا. . .)

أما رواية (حانوت الطرف العتيق) فإنها تعرض علينا صوراً محزنة من الحياة يسترعي التفاتنا، من بينهما قصة (نل الصغيرة) تلك التي أثارت أشجان الكثيرين وهي تطالعهم كل أسبوع بحوادث حياتها في حلقات متتاليات

ويذكرون أنه عندما اتضحت خاتمة القصة، وظهر للقارئين أن (نل) على وشك أن تموت، بعث أحد أصدقاء دكنز إليه بكتاب يرجوه فيه أن يبقي عليها ولو إلى حين. ولكن عبثاً كان هذا الرجاء، فقد تقرر مصير البطلة المسكينة، وظهرت بعد قليل حلقة وفاتها، فاستدرت الدموع، واشجت قلوب الآلاف من القارئين

الواقع أن مفارقات دكنز ومضحكاته. . . وصوره المؤلمة وأحزانه، إنما هي سلاح واحد ذو حدين يرمى به إلى غاية بعينها، ويهدف به إلى غرض واحد لا يبغي سواه فهو قد نصب لأخطاء هذا المجتمع وأغرى بعيوبه؛ وإنه ليحارب هذه الأخطاء والعيوب في كل ما يكتب؛ يتهكم منها أحياناً فيكشف عن سوآتها، ويذيل بسخريته اللاذعة ستارها البراق بحالة تقزز منها النفوس؛ ويصورها بصورة قاتمة محزنة أحياناً فيستثير عليها أعمق مشاعر البغضاء والكراهية. وهو في كلتا الحالتين يعمل على هدمها ويجاهد في تبرئة المجتمع من وصمتها. ومن يقرأ رواية (مغامراة أوليفر تويست) ير كيف يضرب دكنز بسلاحه ذي الحدين في مقتل واحد!

فعوامل البؤس التي ألمت بأوليفر من مبدأ طفولته تحلق في جو الرواية كالسحابات القواتم، وتغمر نفس القارئ بصور من الوحشة والإشفاق والألم تطالعه خلال كل سطر، وتبرز إليه من وراء كل عبارة

فيتم أوليفر الباكر، وحياته البائسة في الملجأ، ثم تحت مسز مان (تلك العجوز التي كانت تتخذ من تربية الأطفال تجارة مربحة!) وانتقاله بعد ذلك للعمل في حانوت مستر سوربري، وسوء المعاملة التي لقيها هنالك مما حمله على الهرب إلى لندن تحت جنح الظلام، ووقوعه ثمة في أيدي عصابة اللصوص التي أوشكت أن تقضي على آخر نوازع الخير في نفسه. . . كل هذه مشاهد أليمة محزنة تملأ النفس بالحسرة، وتثقل على القلب بأشجانها، فلا يخفف من وقعها إلا بعض تلك الجوانب المشرقة التي يعرضها دكنز خلال حديثه فينفس عن القارئ بعض التنفيس. . . كشخصية مسز سوربري - عنوان - وابنتها شارلوت، ومشهد اشتباكهما في معركة مع أوليفر المسكين قبيل هروبه بهيئة تختصب منا الابتسام وإن كانت القلوب مفعمة بالألم؛ ثم منظر القبض على أوليفر في لندن عندما (نشل) زميلاه منديل المستر براونلو، واندفاع المارة خلفه وهم يتصايحون بإيقافه وفي مقدمتهم اللصان الأصيلان؛ وخروج جمهور مسرح بنش برمته والرواية في أدق مواقفها للاشتراك في مطاردة اللص المزعوم. . . إلى آخر ما هنالك. فهذه كلها مواقف مرحة طريفة تستجلب الضحك وتقلل من عنف المأساة التي تمثلها حوادث القصة، فيسير القارئ خلال فصولها وقد اعتدل مزاجه أو كاد، وتوازنت دواعي القلق والارتياح في نفسه

هذه الفكاهة

على هذا النحو البارع يجمع دكنز في حديثه بين الجد القابض والفكاهة المرحة، وفي وسعنا أن نتصور مبلغ الوحشة التي كانت تبدو فيهما رواياته لو أنها خلت من هذا الروح الممتع الذي يتألق خلال حوادثها، كما تتألق النجوم اللوامع في ظلمة الليل البهيم

على أن ثمة علاقة وثيقة بين الفكاهة والألم يجتمعان لها في أكثر الأحيان

فقد ذكرنا أن جهاد الرذيلة إنما يكون بأحد سلاحين؛ عرض سورها المشوهة المؤلمة لتأليب النفوس عليها وحشد عوامل الكراهية والبغضاء فيما حولها؛ أو غمزها والسخرية منها ومن مرتكبيها، وإثارة روح التحقير والازدراء بها وبهم. وقد يكون السلاح الأخير أشد نكاية وأعمق أثراً، فضلاً عن سلامة عقباه وسهولة متناوله. والأستاذ (العقاد) كلام نفيس قرأته له في الرسالة منذ سنوات في تعليل انتشار الروح الفكاهي بمصر في فترات الانحطاط السياسي وقيام المظالم الاجتماعية. على أني لست أحاول هنا أن أفترض أن دكنز كان من أهل التقية في محاربة المظالم التي نصب لها، فقد كان له من طبيعة نفسه، ومن حال بيئته ما يؤديه إلى أتم الصراحة ويحمله على أبلغ الجرأة؛ ولكني أقول إنه اجتمعت في نفسه عوامل السخرية وبواعث الألم جميعاً، وإنه استغل هذه الموهبة الفذة التي أوتيها: موهبة الذوق الفكاهي، والقدرة على التهكم اللاذع القاسي، استغلالاً أتاح له أن يخرج نوعاً من الأدب قل أن أتيح لغيره أن ينتج مثله

أهداف وإصابات

كان دكنز يهدف بكل كتاب يخرجه إلى غاية إصلاحية يضعها نصب عينيه، ويتجه في الوقت نفسه نحو رذيلة من الرذائل يحاول أن يهدم كيانها ويجتث أعمق أصولها. فهو يحمل معول الهدم في يد ومواد البناء والتجديد في أخرى؛ أو هو يهدم، يخطط الأوضاع - على الأقل - لمن يقوم بعده بمهمة البناء

ففي صحائف بكويك يعالج - فيما يعالج - مشكلة السجون، ويكشف عن بعض مثالب النظام فيها. وفي مغامرات أوليفر تويست يندد بقسوة المجتمع على الأطفال المتشردين، ويحمل أنظمته الجائرة تبعة انحدارهم إلى مهاوي الرذيلة والفساد.

وفي (حياة ومغامرات نكولاس نيكلباي) يكشف عن مساوئ التعليم الأهلي في إنجلترا، ويوجه النظر إلى أشهر عيوبه كما أنه يعالج مشاكل الأسرة في روايات (عيد الميلاد) ويحاول أن يضع نموذجاً عالياً لمجتمع فاضل قوامه التعاطف والتواد، وملء أفقه السعادة والرضا وحب الإحسان، مع الشعور بآلام الغير وبأفراحه ومشاركته في بأسائه وفي ضرائه

ولقد عاش دكنز حتى شاهد بعيني رأسه جل نظراته يتحقق، وأكثر أمثلة العليا يصبح أمراً واقعاً ونهجاً في الحياة مسلوكاً

وهو يعد - إلى جانب ذلك - أول من رفع من شأن الروح (الفكاهي المرح) في إنجلترا واحله في الأدب مكاناً مرموقاً. فلقد كانت الشخصيات الفكاهية قبل دكنز أمثلة تامة للخيبة والجهالة، ووسائل مصطنعة للإضحاك والترفيه ليس غير. . . حتى جاء دكنز فنفض عن هذا الروح غبار الإهمال والتخلف. وهو ذلك لم يبتدعه من نسج خياله أو يخلق به شيئاً من العدم؛ وإنما وجده بأتم أوضاعه في أزقة لندن، واقتبسه من صدور أبنائها - بل من صدره هو نفسه - ثم أظهر للناس قيمته في تذليل مصاعب الحياة ومواجهة أحداثها

ويقول الإنجليز إن هذا الروح المرح، روح أبناء لندن الصميمين، أو ما يسمونه: هو سر نجاحهم ودعامة انتصارهم في كل معترك. وإنه - إذا حللناه - لمزيج عجيب التركيب من الهدوء والسخرية والصلابة والاستسلام والتصميم جميعاً وذلك شئ قديم في طبائع القوم، ولكن جاء دكنز فأعطى منه أمثلة روائع تنبض بالحياة، فأدبر بذلك من قيمة، ورفع من قدره كخلق اجتماعي نافع، وسلاح في معترك الحياة لا يفل له أو حد أوتنبو عنه ضريبة.

مراحل أخرى

نشر دكنز جل رواياته في حلقات أسبوعية متتابعة، فكان لا يرى أكثر وقته إلا منهمكاً في تحرير أو غارقاً في تفكير. . . ولقد أثر فيه هذا المجهود المضني فألم به المرض غير مره خلال عام 1841م

ثم رحل إلى أمريكا طلباً للاستشفاء والراحة فقوبل هناك بأجل مظاهر الحفاوة. ولما عاد اصدر كتابه (مذكرات أمريكية) ويبدو أنه كان فيه صريحاً إلى الحد الذي أثار عليه عاصفة قوية من الاحتجاج في سائر مدن الولايات المتحدة!

ومرت فترة قصيرة ظهر بعدها بقصته (أغنية عيد الميلاد) فكانت الحلقة الأولى من سلسلة روايات عيد الميلاد التي دأب على إصدارها في مثل هذه المناسبة من كل عام

وفي سنة 1846م تولى رئاسة تحرير الديلي نيوز، ولكنه تخلى عن هذا المنصب بعد قليل ليمضي في رحلة إلى سويسرا، وهناك كتب رواته: دومي وولده وبدأ ينشر في عام 1849م فصول أشهر رواياته على الإطلاق: دافيد كوبر فيلد، وأنشأ في الوقت نفسه مجلة أسبوعية تحت عنوان: وصايا منزلية. واستبدل بها فيما بعد صحيفة أخرى سماها، دورة العام الكامل

وقد استنفذ هذا المجهود الهائل قواه ولكن لم يزده ذلك إلا تهالكاً على العمل

وبدأ في عام 1853م يلقي فصولاً من رواياته في مجتمعات عامة. . . بدأ ذلك في برمنجهام بروايته: أغنية عيد الميلاد، واستأنفه في سائر المدن الإنجليزية إجابة لدعوات ملحة، ولقد درت عليه هذه المحاضرات فيما بعد أرباحاً وفيرة

وفي عام 1856م تيسر له - كما أشرنا من قبل - أن يشتري بيت أحلامه منذ الطفولة (قصر جادز هيل) حيث أنشأ في رحابه كوخاً على النسق السويسري أتم بين جدرانه تأليف كثير من رواياته الخالدة. ولقد ارتفعت أرباح دكنز من قراءاته العامة خلال فترة ما إلى نصف ألف من الجنيهات كل أسبوع؛ ولكن أوهن هذا المجهود المتوالي من صحته وأذال من قواه حتى اقتضب حبل حياته، لا سيما وأنه كان يوالي إلى جانبه إصدار رواياته في فصول متلاحقة

وفي عام 1866م شد رحاله مرة أخرى إلى أمريكا ليحاضر القوم برواياته، ثم عاد إلى إنجلترا مستأنفاً مهمته الشاقة حتى صرفه عنها المرض وفرط المجهود فأمسك مرغما.

النهاية

أقبل خريف عام 1869م فاعتكف دكنز في جادز هيل ليكتب روايته الأخيرة (سر إدوين درود ولكن تقطعت به أسباب العيش قبل تمامها. . .

وكان موته فجائياً، فقد أصيب بنكسة شديدة في اليوم الثامن من يونية سنة 1870م وتوفي في مساء اليوم التالي

وكان لنعيه وقع شديد في كل مكان، ورنة حزن قوية

زلزلت قلوب المعجبين به. . . وما أكثرهم

ولم يكن عجيباً أن تصل تعزية الملكة فكتورية في أوائل الرسائل التي تدفقت من سائر الجهات تدفق السيل العرم، وهي التي دعته في أخريات أيامه إلى التشرف بلقائها في قصر بكنجهام وتقبلت هديته التي رفعها إليها من مؤلفاته بأحسن قبول وكان طبيعياً أن يكون مقر دكنز الأخير بين جنبات كنيسة وستمنستر مثوى الأبطال والزعماء والنابغين في كل فن

وقد احتفل بدفنه في بساطة وهدوء وفق وصيته الأخيرة، ولم يخط على صفائح قبره إلا هذه الكلمات القصيرة:

(تشارلز دكنز: ولد في 7 فبراير عام 1813، وتوفي في 9 يونيه 1870).

(جرجا)

محمود عزت عرفة