مجلة الرسالة/العدد 523/الأحلام

مجلة الرسالة/العدد 523/الأحلام

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 07 - 1943



للفيلسوف الفرنسي هنري برجسون

بقلم الأستاذ ألبير نادر

السرعة التي تسرد بها بعض الأحلام تبدو لي كأنها نتيجة أخرى لنفس السبب: الحلم يمكنه أن يقدم لنا في بضعة ثوان مجموعة حوادث تتطلب أياماً عديدة لتتحقق في حالة اليقظة. كتب الفريد موري في هذا الصدد يقول: (كنت نائماً في حجرتي ووالدتي على قمة السرير. حلمت بالثورة وكنت أشاهد حوادث الذبح ثم مثلت أمام محكمة الثورة، ورأيت روبسبيير ومارا وفوكييه تنفيل. . . أخذت أجادلهم، ثم حكم علي بالإعدام وقادوني في عربة إلى ميدان الثورة - صعدت إلى المقصلة وربطني الجلاد على اللوح ثم دفعه والمقصلة هبطت علي؛ فشعرت بأن رأسي قد انفصل عن جسمي واستيقظت وأنا في حالة بأس شديد وشعرت بسهم السرير فوق عنقي، وكان هذا السهم قد انفصل من موضعه ووقع على فقرات عنقي مثل ما تقع مقصلة المشنقة على العنق - حصل هذا في الحال كما أثبتته لي والدتي. فأنا اتخذت هذا الإحساس الخارجي بداية لحلم تعاقبت فيه حوادث متعددة. أهـ (من كتاب موري: النوم والأحلام). ومهما يقل عن ملحوظة موري هذه في أيامنا الأخيرة فأنا أراها ممكنة التحقيق، لأني وجدت حوادث مماثلة لها في أدب الأحلام - وتوالي الصور السريع هذا ليس بأمر قريب، فإن صور الحلم تكون بنوع خاص صوراً بصرية. والمحادثات التي يظن الحالم أنه سمعها تنظم وتتم وتتضخم غالباً عند اليقظة. وربما لا تكون صور الحلم سوى فكرة المحادثة فقط أو معناها الكلي الذي صاحب الصور. فجمع كبير من الصور البصرية يمكنه أن يبدو دفعة واحدة على شكل منظر، وبذلك لا يحتاج إلا لبضع لحظات. فلا تدهش إذا جمع الحلم في بضع لحظات ما يتطلب عدة أيام أثناء اليقظة. إن الحلم يرى الشيء مصغراً فهو يعمل كما تعمل الذاكرة. في حالة اليقظة يلزم الذكر البصرية التي تعبر عن الإحساس البصري؛ ومن ذلك ينتج سرد الحوادث وهو يدوم بقدر الزمن الذي يدومه هذا الانطباق. وبالاختصار يدوم إدراك الحوادث الخارجية تماماً قدر ما تدوم هذه الحوادث. لكن في الحلم تكتسب الذكرى المعبرة عن الإحساس البصري حريتها، وعدم استقرار الإحساس البصري يجعل الذكرى لا تنطبق عليه. ووتيرة الذاكرة المعبرة يعد لها أن تختار وتيرة الحقيقة. والصور يمكنها إذا شاءت أن تندفع بسرعة جنونية كما تتعاقب الصور السينمائية إلا إذا نظمنا تعاقبها. فلا التدفق ولا الغزارة يبرهنان عن قوة في محيط النفس، إلا أن الضبط والدقة في الانسجام يتطلبان مجهوداً. أما إذا تمردت الذاكرة المعبرة والتفتت إلى الحياة وخرجت عن حالة الحلم فالحوادث الخارجية تقسم حينئذ مجراها وتخفف وطأتها مثل رقاص الساعة يقسم أجزاء ويوزع على عدة أيام تمدد الزنبرك مع اللم بأن هذا التمدد يصير في الحال إذا ترك وشأنه

بقى لنا أن نبحث لماذا يختار الحلم هذه الذكرى أو تلك مفضلاً إياها على الذكريات الأخرى التي يمكنها أن تنطبق أيضاً على الإحساسات الحالية. لا يمكننا أن نعبر عن خاطر الحلم ولا يمكننا أن نعبر عن خاطر اليقظة، لكن يمكننا أن نشير إلى اتجاههما البين. ففي النوم الطبيعي تعيد لنا أحلامنا في الغالب الأفكار التي مرت بنا كالبرق، أو الأشياء التي أدركناها بدون أن نعيرها انتباهاً. وإذا حلمنا أثناء الليل بحوادث النهار فالحوادث التافهة لا الحوادث المهمة هي التي يكون لها حظ الظهور. وإني أؤيد نظريات دلاج وروبرت وفرود في هذا الصدد. أنا في الطريق أنتظر الترام ولا يمكنه أن يمسني لأني واقف على الرصيف؛ ولكن إذا طرأت علي فكرة خطر ممكن عندما يمشي الترام. لا بل أكثر من ذلك: إذا تراجع جسمي بدون انتباه وبدون أن أشعر بأي خطر فيمكن أن أحلم في الليلة السابقة أن الترام قد دهمني. أعود أثناء النهار مريضاً حالته تدعو إلى اليأس، ويكفي أن يمر شعاع أمل بسيط ولمدة لحظة وجيزة - شعاع أكاد أشعر به - حتى يظهر لي حلمي أثناء الليل أن المريض قد شفى، وعلى كل حال سأحلم بشفاء لا بمرض أو موت، بالاختصار ما لم نعن بمشاهدته له الأفضلية في الرجوع والعودة. ولا غرابة، فالشخصية التي تحلم هي شخصية ساه تتمدد. والذكريات التي تتفق أحسن اتفاق مع هذه الشخصية هي ذكريات السهو التي لا تحمل معها علامة المجهود

هذه هي الملاحظات التي أردت أن أقدمها لكم في موضوع الحلم. أنها غير وافية. فهي لا تبحث إلا في الأحلام التي نعرفها اليوم وفي الأحلام التي نتذكرها والتي ترجع إلى النوم الخفيف؛ ولكن إذا كان النوم عميقاً فربما تحلم أحلاماً من نوع آخر ولا يبقى منها شئ عند اليقظة وأنا أميل إلى الاعتقاد وخصوصاً لأسباب نظرية ومحض اقتراح بأن رؤيانا حينئذ تكون أكثر تمدداً وأكثر إيضاحاً لماضينا. فعلى علم النفس أن يوجه مجهوده نحو هذا النوم العميق، لا ليدرس فيه فقط كيان الذاكرة الباطنية وعملها، بل ليفحص العوامل الخفية التي تتعلق بالبحث النفساني. أني لا أريد المغامرة في هذا المضمار ولكن لا يسعني إلا أن أهتم بالملاحظات المتجمعة بفضل مجهود (جمعية الأبحاث النفسية) الذي لا يعرف الكلل، فالتنقيب عن العقل الباطن والبحث عن أعماق النفس بواسطة طرق مخصوصة هو عمل علم النفس الأساسي في فجر هذا العصر. ولا أشك أن هناك اكتشافات بديعة تنتظره وأهميتها تضاهي أهمية العلوم الطبيعية في العصور الماضية، وهذا ما أتمناه لكم في ختام حديثي هذا.

(تم)

ألبير نادر