مجلة الرسالة/العدد 523/من أدب الشاطئ

مجلة الرسالة/العدد 523/من أدب الشاطئ

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 07 - 1943



شكاة المغيب!

(إلى العروس النائية)

لشاعر الوجدان جان ريشبان

للأستاذ عبد العزيز العجيزي

أين مني الليالي الزُهر، والسنا النشوان! أين مني بهجة الدنيا وابتسامة الزمان! أين مني يا ليلاي أيامك الخوالي، ومغانيك الحسان! أين مني الهوى، والصبا، والمنى، وروضك الفينان؟

آه لقد كدر الفراق صفو المعاني، وأشقى البعد مهجة العاني! وبقيت وحيداً أعاني الشوق والأشجان، وأقاسي الهجر والحرمان!

أين الزمان الذي قد كنت ناعمة ... مهلةً بدنوِّ منك يا سندي

هاج شوقي لو كر إلهامي وروض إنشادي، وزاد حنيني لمهد أحلامي وظل ودادي. وفررت من عيش كئيب تكتنفه أكدار وتمازجه آلام. . . وسرت بقلب يذوب جوى، ونفس تتأجج لوعةً، وكبد تتلظى كمداً. . . إلى أطلال حبي الغابر! فلاحقتني أطياف الأسى المتفجر، وأشباح الجوى المتسعر، وقد أهلكها ا ? نحيب وأزهقها الوجيب، من ضناها وتوجعها، وأساها وتفجعها!

طليحُ شوقً بنار الحب محترق ... تقتاده زفرات إثر لوعات

واحسرتاه على شباب نضب معينه هو في غضارة الإهاب، وذوى زهره في ربيع الصبا! وا لهفي على أمسيات ساحرات ولت تشيعها أنين الحسرات وكمين العبرات! وا أسفاه على ضياء خبا سناه من تفجع الذكريات ثم ما لبث أن عاد النور إلى الظلمات! واشجني على نفس ترسف في أغلال همومها، ومهجة حرى تذوب من سعير خطبها، وروح صرعتها أهوال القضاء، وأنشبت فيها أظفار الشقاء!

فيا هجر ليلى قد بلغت بي المدى ... وزدت على ما لم يكن بلغ الهجر

لقد أبلى السقام جسدي النحيل، وأضنى الهيام بدني العليل! فأين مني رحمتك وحنانك، وأي مني سحرك ودلالك؟!. . .

لقد كنت يا ليلى أستشفي بوصالك وأستهدي بجمالك، فأنت شفاء العاني الموله، ورواء المحب المدله!

وما عبد العزيز طبيب قلبي ... ولكن الطبيب هو الحبيب

فوا حزناه على معذب محروق أذابه لهيب الشجون، وأضنته أسقام المنون!

أواه ليلاي! لقد أدمى البعد فؤادي، وذهب الجوى برشادي، وقضيت أيامي حليف سهادي. . . ونأيت بنفسي بعيداً عن صخب الحياة ولغوب الناس حتى. . . . . . . . . . . .

أخلو بذكرك لا أريد محدثاً ... وكفى بذكرك سامراً وسروراً

فلا يقع بصري على إنسان، وأكون بنجدة من همسات الحسان، وخلوة في ذكر، وحنان، وأمان!

واهاً لذكرى المجالي بين أفنان الجمال، تتابعني أشباحها أينما سرت، وتلاحقني أطيافها أنى حللت بين زفرات التأوه وحسرات التوجع!

أُرْدد سعادُ على حيران مكتئب ... يمسي ويصبح في هم وتذكار

واهاً لمحب عربيد عربيد، ترك حبه صريع الجوى، شهيد الهوى، تنزف منه دماء قلبه المكاوم، ثم يفر هارباً كجبان رعديد دون أن يرحم جرحاً دامياً، أو يغيث قلباً عانياً!

لقد فررت بنفسي إلى جزيرة نائية كي أكون بمناجاة من سخر الرجال وأضاحيكهم، وبمأمن من رياء النساء وأكاذيبهن! فيطمئن القلب ويهدأ الجنان؛ في عالم قدسي موفور الأمان!

دلفت كابياً في سكينة هذه الجزيرة الوادعة، وأقمت فيها كاسفاً بين وحشة الصمت ورهبة الموت كبوم لفه البؤس والوجوم والوجوم في وادي الآلام والهموم!

واهاً لوحدتي، وسهدي، وانفرادي! ها قد جلست منعزلاً وللحياة معتزلاً. لا أرى إلا بحراً مضطرب الأمواج، ولا أسمع إلا إعصار ثبج يصارع الأنواء صراعاً رهيب الأصداء، واصطفاق لجج على ثنايا الشاطئ في إزباد وإرغاء!

ولا مُؤنس إلا شهيق وزفرة ... ولا مسعدُ إلا دموع وأشجان

أطلق النسيم أنفاسه العذاب، وسرى يختال في أردية العباب، وسجن البحر، وترفق الموج ناثراً رذاذاً كحباب الصهباء وشدت قيثارة الريح ألحان الصفاء. ولكن، ما أسكرتني خمرة الألحان، ولا أنعشتني لذة الوجدان، وما أطربني صداح الأغاني ولا هاجني لماح الأماني: إذ

كيف السرور وأنت نازحةُ ... عنّي وكيف يسوغ لي الطرب

أجل. لا شئ في الحياة يسري عني هموم الوصب إلا ورقاء حزينة هي مسلاة غرامي ومتنفس آلامي، تؤنسني في وحدتي، وتسليني في عزلتي، وشدوها سلوان خاطري وألحانها عزاء شاعر

فكأنها صاغت على ... شجوى شجا تلك اللحون

أواه! لقد جنت التأوهات من فرط جواها، وهامت اللهفات من فيض ضناها، ورفرفت أحلام الهوى العذري على الرمال الشقراء. فتغنى البحر بأنين الزفرات، وأنشد الموج على الصخر أناشيد العبرات. أخذت صخور الشاطئ تبكي وتنتحب رحمة بي وشفقة علي، وترقرقت القطرات على خدها كحبات لؤلؤ وضاح. فغاض الأسى بجفوني، وفاضت مدامعي عقيقاً وتهللت على الخدين والنحر. . .

علّ ماء الدموع يخمد ناراً ... من جوىّ الحب أو يبل غليلاً

أجل إنه لسراب يخدع النظر، وعبث لا ينيل الوطر! حقاً إنه خداع كاذب ووهم باطل اعتراني في حمى قطيعة لا تجدي نفعاً إذ علام الحياة في خراب مقفر، وباب موحش، أمل امتلاك ناصية ضالة خادعة!؟

أسجناً وقيداً، واشتياقاً وغربة ... ونأي حبيب إن ذا لعظيم

لكن! كيف المفر من ذكريات أضنت صباي وأضاعت مناي؟! كيف النجاة من طيفك يا قاسية؟ إنك قد نزلت من مهجتي في كل مكان؛ وغداً خيالك يتمثل لناظري ويسبح في خاطري، ويسطو على مشاعري ويهيج سرائري!

خيالك في عيني وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فأين تغيب

(شاطئ رأس البر)

عبد العزيز العجيزي