مجلة الرسالة/العدد 523/(أعاصير مغرب) للعقاد
مجلة الرسالة/العدد 523/(أعاصير مغرب) للعقاد
1 - (أعاصير مغرب) للعقاد
للأستاذ علي متولي صلاح
عندما شرعت القلم لأكتب عن ديوان العقاد الفذ (أعاصير مغرب) قرأت مقالاً للدكتور مندور في مجلة الثقافة عن (ترنيمة السرير) يقول في نهايتها: (لقد تصفحت (أعاصير مغرب) فعجبت لمن يجرؤون على تسميتها شعراً وهي نثرية في مادتها، نثرية في أسلوبها، نثرية في روحها. ونثريتها بعد مبتذلة سميكة، حتى الإحساس فيها شئ لا تطمئن إليه النفس، شئ ناب. الأدب الجيد لا بد أن يلونه الإحساس، وصاحب (أعاصير مغرب) من الكتاب الذي قد تبهرك مهارتك العقلية في التخريج، ولكني لا أذكر إلا في النادر الذي لا يذكر أنه قد استطاع يوماً أن يحرك في نفسي إحساساً فكيف له بقول الشعر؟ وكيف لنا أن نقارن شعراً كالأعاصير ونحوها بشعر المهجر الحي)
فعجبت بدوري من الدكتور مندور كيف يمسك سيفه بيده ويضرب في الهواء عن يمين فيحسب أنه قتل ألفاً، ويضرب في الهواء عن يسار فيحسب أنه قتل ألفاً! الدكتور مندور شاب نرجو منه الخير الكثير للأدب إن فارقته نزعة التعقب والرغبة في الهدم بلا استقصاء ولا روية، ولا تأن ولا دراسة شاملة لمن يتعقبهم ويحسبه قادراً على هدمهم! ذم أدباءنا وشعراءنا جميعاً: العقاد والزيات والحكيم ومن إليهم عنده طبول وأبواق؛ وعلي طه ومحمود حسن إسماعيل ومن إليهم خطباء منابر لا شعراء يصدحون! اللهم إلا شعراء المهجر؛ فهم عنده في القمة والذؤابة ومن خلاهم هباء!
وأعاصير مغرب ابعد هو - عندي - أعظم وأرق وأجمل دواوين العقاد جميعاً. قرأت كل ما قال العقاد من شعر فما اجتمع لديوان من دواوينه القديمة والحديثة ما اجتمع لهذا الديوان - في رأيي - من روعة ورونق وصدق عاطفة، وجمال أسلوب وإشراق ديباجة
ولم أفهم بعد لماذا سماه العقاد (أعاصير مغرب) ولو أنه شرح ذلك بعض الشرح في مقدمته إلا أنه لم يقنعني ولم أسترح إليه إلا في نصفه الأول (أعاصير) فالديوان في مجموعة أعاصير عاتية عارمة، نظمه العقاد إلا أقله وعالم الدنيا مضطرب بأعاصيره، وعالم النفس مضطرب بأعاصيره. بيد أنها ليست أعاصير (مغرب) إن كان العقاد التمس الغروب من (توماس هاردي) الذي ينظر إلى المرآة فيرى بشرته الذابلة تتقبض فيتوجه إلى الله مبتهلاً يقول: (أسألك يا رب إلا ما جعلت لي قلباً يذبل مثل هذا الذبول، إنني لأحس برد القلوب من حولي فلا آلم ولا أحزن، وإنني لأظل في ارتقاب راحتي السرمدية بجأش ساكن، وسمت وقور. غير أن الزمن الذي يأبى لي إلا الأسى قد شاء أن يختلس فلا يختلس كل شئ، ويترك فلا يترك كل شئ. ولا يزال يرجف هذه البنية الهزيلة في مسائها بأقوى ما في الظهيرة من خلجة واضطراب). . . أو كان التمسه عند (بيرون) الذي نظم قصيدة (عيد ميلاد أخير) وهو في السادسة والثلاثين من عمره وقال: (آن لهذا القلب أن يسكن مذ عز عليه أن يحرك سواه؛ ولكني وقد حرمت من يهوى إلي، حسبي نصيباً من الحب أن أهوى. إن أيامي لمكتوبة على الورقة الذابلة الذاوية. إن زهرات الحب وثماره ذهبت إلى غير رجعى، إنما السوس والديدان وحسرة الأسى هي لي. . . لي وحدها تحيي. . . تلك القدرة على الهيام والهوى ليس لي منها حصة تبقى، فما لأغلالها في عنقي لا تنزع ولا تبلى؟. . .)
ما هاردي ولا بيرون بشبيهين للعقاد في هذا الذي يقولان. العقاد ذو قلب شاب فتى قوي متفتح للحياة، مقبل عليها، نهم بها، كلف بألوان الجمال وأنماط الحسن فيها، فأين يكون الغروب منه؟ العقاد يسير قلبه دائماً إلى الشباب حيث تسير قلوب الناس إلى الهرم والشيخوخة، ويصبو قلبه إلى الحياة حيث تزهد القلوب الفانية في متاعها. العقاد يصغر حيث يكبر الناس، والشاعر - بعد - طفل كبير!
لو أنه سماه (أعاصير قلب) لكان أدنى إلى الصدور وأقرب إلى الحق من اسمه الذي اختار اللهم إلا أن يكون استطراداً لفظياً مع دواوينه السابقة: يقظة الصباح، ووهج الظهيرة، وأشباح الأصيل، ووحي الأربعين، التي يعبر بها عن الزمن والأيام والسنين لا عن القلب وما به من صبى وشباب أو كهولة وفناء، وهل غرب قلب الذي يقول:
هي قبلة ضمَّتْ عرى ... عامّين فاتّصلا اتّصالا
ومُنى الخواطر في غد ... عام كسابقه مآلا
لا تعجلنّ به فما ... أقسى الحياة على العجالى
لا لا فهذا يومنا ... وغد وبعد غد خفاء
أنا مغمض عيني ... ومستمع إلى حادي الرجاء فإذا سمعت حداءه ... فدعيه يمضي حيث شاء!
والذي يقول:
أهلاً بعام ثالث ... يتلوه عام رابع
بل خامس فيما عهد ... ت وسادس أو سابع
ما ضاقت الدنيا وفي ... جنبيْك قلب واسع!
أو الذي يقول:
سنةٌ كان لها نجم فريد
هات منها أيها النجم وهات
سنة ثانية بل سنوات
ولنا منك مزيد المستزيد. . .!
أو الذي يقول:
وفي كل يوم يولد المرء ذو الحجي ... وفي كلَّ يوم ذو الجهالة يُلحد!
بل إني لألمح بين سطور الديوان غراماً حقيقياً وقع فيه العقاد! ولعله وقع أخيراً في (فخ) جعل هذا الشعر الغزلي الرائع ينساب من قلبه انسياباً
والعقاد إذ يكتب الشعر إنما يكتبه بعاطفته وبعقله معاً، وتلك ميزة تفرد بها العقاد، فهو يكتب مدفوعاً بعاطفة أصيلة صادقة دفاعة، فإذا بدأ يكتب جاء عقله من وراء الستار فصقل الفكرة وهذب الرأي، وأخرجه للناس في رواء بهيج من الفلسفة والشعور معاً، وما أحسب ذلك قد توفر لغير العقاد. خذ مثلاً شعره الغنائي في هذا الديوان، فهو جماع من اللفظ الصادح، والعقل الراجح، والقلب المحب الولهان، وإنك لواجد في هذا الديوان مجموعة طيبة جداً من شعر العقاد مثل قصيدة (عمر زهرة):
فريدة في روضها ... أخيرة في الموسم
عيشي وأهدي غيرها ... في كل عيد واسلمي
ألست أنت مثلها ... علمَت أو لم تعلمي
هدية الخلاق لي ... وقدرٌ أن تنسمي
زهرتك البيضاء هلا ... تذكرين نشرها؟ حفظتها في خدرها ... هل برحت مقرها؟
حفظتها حفظتها ... فهل حفظت سرها؟
قصصتُ منها عقدة ... لكي أطيل عمرها؟
ولا أدري ما الهمس الذي يقولون به إن لم يتوفر كله في هذه الأبيات، أو تلك القصيدة الأخرى (الطير المهاجر) التي غناها الفلسطينيون في محطتهم فكانت بحق درة الغناء عندهم:
علمتني مواسم الروض أن الطير ... سر شتّى: مهاجر ومقيمُ
أتراني لا أسمع الطير إلا ... في رياض معشعشاً لا يريم
رب شاد في هجرة يتغنى ... وعليه السلام والتسليم
من جنوب إلى شمال وحيناً ... من شمال إلى جنوب يحوم
فله حين يستقل وداع ... وله حين يقبل التكريم
خذ من الطير كل يوم جديداً ... فسواء جديده والقديم
كم مولٍ وصفوه لا يولي ... ومقيم وصفوه لا يقيم!
وأنا - بعد - أسأل الأستاذ الدكتور محمد مندور أمثل هذه القصيدة نثرية في مادتها، نثرية في أسلوبها وروحها، ونثريتها مبتذلة سميكة؟؟
(المنصورة)
على متولي صلاح