مجلة الرسالة/العدد 527/مواكب الأعراس في عهد بني العباس

مجلة الرسالة/العدد 527/مواكب الأعراس في عهد بني العباس

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 08 - 1943



للأستاذ يوسف يعقوب مسكوني

من الحوادث التاريخية ما يبعث اللذة ويسلي في أوقات الفراغ. ونحن في درسنا للتاريخ نضيف إلى حياتنا اليومية ذكريات من الماضي تبعثنا إلى التأمل والمقايسة بين أمسنا وحاضرنا فيختار القارئ من هذه الصفحات ما تصبو إليه نفسه وما يسمو به عقله وما تنتعش به نفسه. وهذه صفحة من صفحات تاريخ الدولة العباسية التي شغلت العالم الشرقي والغربي قروناً كانت فيها أدوار عز وفخر. ولقد اخترنا لموضوعنا هذا ثلاث حفلات من أفخم الحفلات التي جرت في عهد بني العباس من أوائل أدواره وأوسطها وأواخرها فنقول: كانت أيام المأمون أيام عز وجاه ورغد ورخاء وتفوق وانتصار دونها المؤرخون بما فيها من الحلل القشيبة التي رفلت بها الدولة العباسية واعتزت أيما اعتزاز، حيث كانت مناراً للعلوم وينبوعاً للثروة والمال. فبذخ الخلفاء والأمراء وأصحاب المناصب العالية. وتخرقوا بما يفوق وصفه في كل حال من الأحوال. فكانت الحفلات والولائم والاحتفالات ذات مظهر فيه كل البذخ والإسراف يفوق ما يقوم به ملوك الأطراف تعزيزاً لهيبة الخلافة وعنواناً لسلطانها وجبروتها. ومن هذا ما جرى في حفلة زواج المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل الذي كان وزيره آنذاك. وهانحن أولاء نسرد ما جرى في تلك الحفلة التاريخية التي فاقت الحفلات التي تقام عادة بين الملوك والأمراء. وقد جرت تلك الحفلة في منازل الحسن بن سهل السرخسي التي كانت بفم الصلح بالقرب من مدينة واسط. وفم الصلح اسم نهر كبير كان فوق واسط بينها وبين جيُّل، عليه عدة قرى، وفيه كانت دار الحسن بن سهل وزير المأمون، وفيه بنى المأمون ببوران، تزوجها المأمون لمكانة أبيها عنده، واسمها الحقيقي خديجة، وبوران لقبها. احتفل أبوها وعمل من الولائم والأفراح ما لم يعهد مثله في عصر من عصور الجاهلية والإسلام. فقد سافر المأمون وحاشيته ورجال دولته من القواد والكتاب والوجوه إلى فم الصلح فنثر الحسن بن سهل بنادق المسك على رؤوسهم فيها رقاع بأسماء ضياع وأسماء جوار وصفات دواب وغير ذلك، فكانت البندقة إذا وقعت في يد الرجل فتحها فيقرأ ما في الرقعة، فإذا علم ما فيها مضى إلى الوكيل المرصد لذلك فيدفعها إليه ويتسلم ما فيها سواء كان ضيعة أو ملكا آخر أو فرساً أو جارية أو مملوكاً. ثم نث ذلك على سائر الناس الدنانير والدراهم ونوافج المسك وبيض العنبر، وأنفق على المأمون وقواده وجميع أصحابه وسائر من كان معه من أجناده وأتباعه وكانوا خلقاً لا يحصى حتى على الجمالين والمكارية والملاحين وكل من ضمه عسكر. ولم يكن في المعسكر من يشتري شيئاً لنفسه ولا لدوابه. وذكر الطبري أن المأمون أقام عند الحسن تسعة عشر يوماً يعدُّ له في كل يوم ولجميع من معه ما يحتاج إليه. وكان مبلغ النفقة عليهم خمسين ألف ألف درهم. وكان رحيل المأمون نحو الحسن أبن سهل أي إلى فم الصلح لثمان خلون من شهر رمضان سنة عشر ومائتين. وفرش الحسن للمأمون حصيراً منسوجاً بالذهب؛ فلما وقف عليه نثرت على قدميه لآلئ كثيرة. فلما رأى تساقط اللآلئ على الحصير المنسوج بالذهب قال: قاتل الله أبا نواس كأنه شاهد هذه الحال حين قال في وصفه الخمر والحباب الذي يعلوها عند المزج:

كأن صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء درٍّعلى أرض من الذهب

وقال الطبري أيضاً: دخل المأمون على بوران الليلة الثالثة من وصوله إلى فم الصلح، فلما جلس معها نثرت عليها جدتها ألف درة كانت في صينية ذهب، فأمر المأمون أن تجمع، وسألها عن عدد الدر كم؟ فقالت: ألف حبة؛ فوضعها في حجرها، وقال لها: هذه نحلتك وسلي حوائجك. فقالت لها جدتها: كلمي سيدك فقد أمرك. فسألته الرضا عن إبراهيم بن المهدي عمه، والسماح لأم جعفر، وهي الست زبيدة. فقال: قد فعلت. فألبستها أم جعفر البدلة اللؤلؤية؛ وأوقدوا في تلك الليلة شمعة عبر وزنها أربعون مناً في تور من ذهب. فأنكر المأمون ذلك عليهم وقال: هذا إسراف. وقد قالت الشعراء والخطباء في ذلك فأطنبوا. ومما يستظرف فيه قول محمد بن حازم الباهلي:

بارك الله للحسن ... ولبوران في الختن

يا ابن هرون قد ظفر ... ت ولكن ببنت مَنْ

فلما نمى هذا الشعر إلى المأمون، قال: والله ما ندري أخيراً أراد أم شراً؟ وقد أمر المأمون للحسن عند منصرفه بعشرة آلاف ألف درهم، وأقطعه فم الصلح، فجلس الحسن وفرق المال على قواده وأصحابه وحشمه. وقد كان الحسن كثير العطاء للشعراء وأنشده:

تقول خليلتي لما رأتني ... أشد مطيتي من بعد حل أبعد الفضل ترتحل المطايا؟ ... فقلت نعم إلى الحسن بن سهل

والحكاية الثانية زواج الخليفة المقتدى بأمر الله بابنة السلطان ملكشاه السلجوقي، وهي من حوادث سنة ثمانين وأربعمائة، على ما رواه ابن الأثير، قال: في المحرم نقل جهاز ابنة السلطان ملكشاه إلى دار الخليفة على مائة وثلاثين جملاً مجللة بالديباج الرومي. وكان أكثر الأحمال الذهب والفضة، وثلاث عماريات، وعلى أربعة وسبعين بغلاً مجللة بأنواع الديباج الملكي وأجراسها وقلائدها من الذهب والفضة، وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقا من فضة، لا يقدر فيها من الجواهر والحلي، وبين يدي البغال ثلاث وثلاثون فرساً من الخيل الرائعة عليها مراكب الذهب مرصعة بأنواع الجوهر، ومهد عظيم كثير الذهب. وسار بين يدي الجهاز سعد الدولة كوهر آتين، والأمير برسق وغيرهما. ونثر أهل نهر معلى عليهم الدنانير والثياب. وكان السلطان قد خرج من بغداد متصيداً، ثم أرسل الخليفة الوزير أبا شجاع إلى تركان خاتون زوجة السلطان وبين يديه نحو ثلاثمائة موكبية، ومثلها مشاعل، ولم يبق في الحريم دكان إلا وقد أشعل فيها الشمعة والاثنتان وأكثر من ذلك. وأرسل الخليفة مع ظفر خادمه محفة لم ير مثلها حسناً. وقال الوزير لتركان خاتون: سيدنا ومولانا أمير المؤمنين يقول إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها. وقد أذن في نقل الوديعة إلى داره؛ فأجابت بالسمع والطاعة. وحضر نظام الملك فمن دونه من أعيان دولة السلطان، وكل منهم معه من الشمع والمشاعل الكثير. وجاء نساء الأمراء الكبار ومن دونهم، كل واحدة منهن منفردة في جماعتها وتجملها، وبين أيديهن الشموع الموكبيات والمشاعل يحمل ذلك جميعه الفرسان. ثم جاءت الخاتون ابنة السلطان بعد الجميع في محفة مجللة عليها من الذهب والجواهر أكثر شيء، وقد أحاط بالمحفة مائتا جارية من الأتراك بالمراكب العجيبة وسارت إلى دار الخلافة. وكانت ليلة مشهودة لم ير ببغداد مثلها. فلما كان الغد أحضر الخليفة أمراء السلطان لسماط أمر بعمله، حكي أن فيه أربعين مناً من السكر، وخلع عليهم كلهم وعلى كل من له ذكر في العسكر، وأرسل الخلع إلى الخاتون زوجة السلطان والى الخواتين، وعاد السلطان من الصيد بعد ذلك

والحكاية الثالثة وهي من أواخر عهد الدولة العباسية أي من حوادث سنة أربع وثلاثين وستمائة، ذكرها ابن الفوطي قال: في هذه السنة وصل الأمير عز الدين قيصر الظاهري مخبرا بوصول ابنة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل. وكان قد نفذ لإحضارها لتزف على زوجها مجاهد الدين أيبك المستنصري المعروف بالدويدار الصغير. فخرج إلى تلقيها بدر الظاهري المعروف بالشحنة - أي رئيس الشرطة - أحد خدم الخليفة وفي صحبته ثلاثون خادماً، والأمير بدر الدين سنقر جاء أمير اخور الخليفة وجماعة من المماليك والحاجب أبو جعفر أخو أستاذ الدار ومؤيد الدين محمد بن العلقمي فتلقاها بدر الشحنة في المزرفة وعاد والجماعة معه وانحدرت هي في شبارة حملت لها إلى هناك في جماعة من خدمها وجواريها وصعدت في باب البشرى ليلاً وقد أعد لها بغلة فركبت واجتازت دار الخلافة وخرجت من باب النوبي إلى دار زوجها مجاهد الدين بدرب الدواب وهي الدار المنسوبة إلى احمد بن القمي فنثر عليها خادم لزوجها ألف دينار عند دخولها الدار. وفي رابع جمادي الآخرة خلع الخليفة على مجاهد الدين بين يديه وقدم له مركوب بعدة كاملة فخرج وقبل حافره وركب من باب الأتراك ورفع وراءه أربعة عشر سيفاً إلى غير ذلك من الحراب والنشاب واشتهرت السيوف من باب دار الضرب وخرج معه جماعة من خدم الخليفة والحاجب أبو جعفر بن العلقمي أخو أستاذ الدار ومهتر الفراشين وحاجب ديوان الأبنية وغيرهم. وتوجه إلى داره فلما اجتاز بباب البدرية نثر عليه خادم من خدم الشرابي أربعة آلاف دينار. ولما اجتاز درب الدواب نثر عليه في عدة مواضع من دار الأمير جمال الدين قشتمر ودار ابنته زوجة الأمير نصرة الدين كنج أرسلان وكان وراءه الأعلام والطبول والكوسات. وفي عشية هذا اليوم نفذ له أحد عشر طبلاً للخلق وأحد عشر قصعة وزوج صنج برسم طبل النوبة في الصلوات الثلاث. وزفت عليه زوجته فاجتمعت له فرحتان فرح الأمارة وفرح العرس. ولم يبلغ أحد من أبناء جنسه مع حداثة سنه ما بلغ. ومن الغد عرضت عليه الهدايا من رقيق الترك والخدم والجيوش وأنواع الثياب والطيب والخيل وآلة الحرب وغير ذلك من جميع الزعماء وأرباب الدولة وخدم الخليفة وسائر المماليك؛ ثم الوزير والشرابي وأستاذ الدار والدويدار الكبير، ولم ينفذ له أحد شيئاً إلا وخلع على المنفذ على يده ثم ركب وبين يديه الأمراء والمماليك ورفع وراءه السلاح وقيدت بين يديه الخيول المجنونة وشهرت حوله السيوف وسعى الكيانية وبأيديهم الحراب والأطيار والجاووشية وبأيديهم الجوالكين الذهب والفضة وقصد دار الخلافة فخدم وعاد ثم ركب عشية هذا اليوم وقصد دار الخليفة فخدم وخرج وقت العشاء الآخرة في الأضواء الشموع واستمر دخوله إلى دار الخليفة في كل يوم بكرة وعشية على هذا الوضع

(بغداد)

يوسف يعقوب مسكوني