مجلة الرسالة/العدد 53/أعيان القرن الرابع عشر
مجلة الرسالة/العدد 53/أعيان القرن الرابع عشر
7 - أعيان القرن الرابع عشر
للعلامة المغفور له أحمد باشا تيمور
الشيخ أحمد أبو الفرج الدمنهوري
احمد أبو الفرج الدمنهوري الشاعر الأديب، ظريف الجملة والتفصيل، حلو النادرة والفكاهة، انجذبت إليه النفوس وألفته القلوب على دمامته وغرابة شكله. ولد بدمنهور ونشأ بها في ضنك وحرقة حال، ولم يكن مشتغلاً بالأدب في أول أمره، ثم لازم الشيخ محمداً الوكيل القباني أحد أدباء دمنهور المشهورين وعليه تخرج في النظم، وصحب أيضاً الشيخ حميده الدفراوى، وهو أديب لكنة لا يبلغ درجة الوكيل، ولم يحضر المترجم العلم على شيخ، بل كان يلازم مجلس الوكيل ولا يفارقه ليلاً ولا نهاراً فيكتب عنه كل ما يسمعه من شعر ونثر ونادرة ثم يستظهره، أخبرني ثقة أنه اجتمع بدمنهور حوالي سنة 1285 فرآه شاباً نيف على العشرين مخفوض الجانب كثير التواضع لا يستنكف من خدمة الوكيل المذكور وحمل المصباح أمامه إذا سار ليلاً.
ثم نظر المترجم في كتب الأدب ودواوين الفحول وبدأ ينظم الشعر فكان يعبث بالبيت والبيتين، ثم نظم بعد ذلك القصائد والمقطعات، إلا أنه كان قليل الإجادة كثير الخطأ واللحن، يتكلف التجنيس والتورية، وأحسن شعره ما نظمه في المجون وضمنه ألفاظ العيارين والشطار. وكان حضوره إلى القاهرة صحبة الوكيل، فأوصله إلى السيد عبد الخالق بن وفا شيخ السادات الوفائية فأعجب بظرفه ومجونه، وكان ينزل عنده كلما حضر إلى القاهرة، وهي إذ ذاك غاصة بالأدباء والأعيان وفي الناس بقية، فكانوا يهشون له ويتهادونه إذا حضر، ويراسلونه إذا غاب، فحسنت حاله قليلا بما كان يناله من هباتهم. ثم اتصل بشاهين باشا كنج في طندتا لما كان مفتشاً على الأقاليم سنة 1293 فانتظم في حلبة ندمائه، واختص به وواساه وجعله طرفة مجلسه، وجمع له من أغنياء البلاد مبلغاً وافراً اشترى به عقاراً ورمم داره بدمنهور، واجتمع عند شاهين باشا بعبد الله أفندي نديم الشهير وغيره من خاصة أهل الفضل والأدب، ثم نقل شاهين باشا إلى منصب آخر بالقاهرة فصار المترجم يتردد عليه ويقيم عنده الأيام والأشهر يجتمع في أثنائها بغيره من الكبراء وذوي الوجاهة فيهدي إليهم مدائحه ويتحفهم بطرائفه وكان على قلة إجادته في شعره مفتوناً به مبالغا في تقريظه وقت إنشاده، يمزج ذلك بإشارات وحركات تستظرف منه، ولا يكاد يقر لأحد بالتقدم عليه في النظم، ولعمري لا أرى عبارة تفي بوصفه ووصف حركاته عند الإنشاد وقيامه وقعوده والتفاته واستدعائه الحاضرين إلى استماعه، فانه كان إذا أراد إنشاد قصيدة من نظمه بدأ أولاً بتقريظها ونبه الحاضرين إلى مواضع الإجادة منها، فإذا ألقوا إليه بسمعهم أنشد المطلع وسكت هنيهة كالمأخوذ من جودته، ثم التفت يمنة ويسرة مستطلعاً خبيئة رأيهم فيه، واستحلفهم بالله وبأنبيائه هل طرق، آذانهم مثله في عمرهم، وهل تهيأ لشاعر قبل ما تهيأ له فيه من رشاقة المبنى وغرابة المعنى وتناسب الشطرين، ثم يمضي في البيتين والثلاثة ويعود إلى الصمت والتفكر. ويقول سبحان المانح! كمترك الأول للآخر! وأمثال هذه الجمل التي اشتهرت عنه وصارت من لوازمه، ثم يمضي في الإنشاد، فإذا مر بتجنيس أو تورية وثب من موضعه وتمايل طرباً، ثم نظر للحاضرين وقال لهم اسمعوا من الفتى العربي اللعوب، تُفّ على المتنبي وسحقاً له، أين له السلاسة والسهولة؟ وهكذا حتى يتم القصيدة، فان رأى من السامعين استحساناً تمادى في غلوائه وأعجب وأطرب، وربما عارضه بعض من يحضره استجلاباً لطرائفه واستئناساً بمحاورته، فتصدر عنه النوادر ومحاسن الأجوبة الحاضرة. بلغني أنه حضر مرة مجلساً جمع لفيفاً من أهل الأدب فأنشدهم قصيدة من نظمه، وبالغ في استحسانها كعادته، وأخذ يستطلع طلع آرائهم فيها. فأنتبذ له صديقنا العالم الفاضل، والشاعر المجيد، الشيخ عبد الرحمن قُرَّاعة مداعباً، وقال له أخطأت في بيت منها فأدخلت حرفاً على حرف وهو مما لا يجوزه النحاة، فإما أن تسقطه أو تأتينا بشاهد على صحة قولك، ووافقه الحاضرون ومالوا معه على المترجم، فنكس رأسه هنيهة، ثم نظر إليهم كالمتعجب وقال يا ليت قومي يعلمون! وكان كثير الاجتماع بشيخ أدباء العصر الشيخ أحمد أبي البقاء الزرقاني، فلا يخليه مرة من شعر له ينشده إياه، ويعرض للشيخ ما يشغله عن الاستماع فيستلفته ويكثر من الإلحاح عليه بترك ما هو فيه والاصاخة إليه ويضايقه بذلك مضايقة شديدة، ولكن لا يكاد الشيخ يعرض عنه حتى تصدر منه نادرة ينقلب لها المجلس ضحكاً، فكان يقول فيه إن أبا الفرج عندي مشكلة من المشاكل لا أدري أهو ثقيل أم ظريف.
وكان أول اجتماعي به في مجلس أحد الأعيان وأنا شاب يافع متعلق بالأدب وأهله، ولم اكن لقيته من قبل، بل كنت اسمع به وأشتاق رؤيته فرأيت عجباً: رأيت شيخاً قصيراً دميم الوجه قد ذهبت إحدى عينيه، عليه جبة واسعة الأكمام وهو جالس في زاوية من المكان يملي على شخص حسن الخط دالية من الطويل منصوبة الروى جعلها تهنئة للخديو محمد توفيق باشا بقدومه من الإسكندرية، فكان منه من الوقوف عند كل بيت والإعجاب به على ما تقدم ذكره ما نبهني للالتفات إليه، ثم مر ببيت قافيته لفظة (ومعضداً) فوثب من مكانه ونبه الحاضرين إلى أنها تورية باسم الخليفة المعتضد بالله فلم يوافقوه، فاعرض عنهم واقبل على الكاتب يشرح له حسن هذه التورية وأنها لم تتهيأ له إلا بعد إعمال الفكر والروية حتى أضجره ورمي الدرج من يده، فغلبني الضحك واستظرفته وقصدت محادثته، فقلت لعل سيدي الأستاذ عارض بهذه القصيدة قصيدة أبى الطيب التي يقول في مطلعها:
لكل امرئ من دهره ما تعودا ... وعادة سيف الدولة الطعن في العِدا
فسكت ثم نظر إلي شزراً ولم يزدني على قوله: تِفّ على المتنبي، فاستغربت في الضحك وسألت عنه بعض الحاضرين فخبرني به فكدت أطير سروراً بلقائه، وأقبلت عليه امدح القصيٍدة وأذكر مواضع الإجادة فيها وأستعيدها منه، فأبرقت أسرته وأقبل علي أيما إقبال واسمعني بعض مقطعات من شعره، فقلت له: أما كان الأولى بهذه اللآلئ أن تنظم في سمط؟ فقال نعم يا سيدي إني مهتم بذلك وسيكون ديوانا مرقصاً، وامتد بنا المجلس فرأيت منه ما لو أردت إثباته برمته لطال بنا المقال. ثم فارقته وأنا أشوق الناس إليه، وكأني به أحد أبناء المنجم الذين ذكرهم الثعالبي في اليتيمة وأورد فصولا للصاحب بن عباد في وصفهم.
ومن غريب أمر المترجم أنه كان يستملح منه ما يستثقل من غيره، فقد رَوَوْا عن بشار أنه كان يصفر ويصفق ويتفل عند إنشاده وعن البحتري أنه كان يتقدم ويتأخر ويتلفت إعجاباً بشعره، وقد عيبا بذلك وعد من سقطاتهما التي نعاها عليهما الناعون بخلاف المترجم.
ومن غرائبه أنه كان معجباً بكنيته وكثيراً ما كان يتدرج بها إلي الانتساب لمن تكنى بها من الفضلاء المتقدمين كأبي الفرج ابن الجوزي وأبي الفرج الاصبهاني صاحب الأغاني وغيرهما، فلا يدع أحداً من المتكنين بها إلا وينتسب إليه، تارة لهذا وتارة لذاك، ثم ارتقى درجة فادعى الشرف ولاث على رأسه عمامة خضراء، ووسع أكمامه وسعى حتى جعلوه نقيباً للأشراف بدمنهور. حدثني صاحبنا الأديب الفاضل محمد شكري أفندي المكي قال: لقيته مرة وكنت علمت بأمر تلك النسب وأردت مداعبته فقلت: يا أبا الفرج إن كنيتك تنبئ عن شرف عظيم فلعلك من نسل أبي الفرج بن الجوزي، فقال نعم يا سيدي صدقت وأصابت فراستك، ثم لقيته بعد ذلك بأيام وقد نسى ما دار بيننا فأعدت عليه الحديث وقلت له إجادتك في الشعر مع هذه الكنية تدلني على انك من نسل أبي الفرج الببغاء، فقال أي نعم وهو الواقع أ. هـ. ولا خلاف في انه كان يعلم قصد محدثه في أمر نسبه، إلا أنه كان يخرجه مخرج الجد حتى مع أخص الناس به ويغضب ممن ينكر عليه فتستظرف منه.
وادعى مرة أنه نال نصيباً وافراً من اللغة بحيث أصبحت لا يشذ عنه شيء من مفرداتها، وتمادى في هذه الدعوى وتبجح بها في المجالس، وتصدر للإجابة عن كل سؤال فيها يطرح عليه فتوالت عليه الأسئلة وهو يجيب عليها خابطاً خبط عشواء لا يبالي بمن يحتج عليه بكتب اللغة. وصار الأدباء من أصحابه يرتجلون له الفاظاً يسألونه عنها فيخترع لها معاني يجيب بها، وربما أحال تخرصاً على كتب لغوية يعينها، ونظم له بعضهم بيتاً كبيت الخنفشار وسأله عن معناه في جمع كبير من الأدباء وهو:
وبِخرْنقِِ الأقيال عاثت فالتثت ... وركاء تعترض الأكام بشيظم
فقال نعم! هذا بيت لعنترة، ذكره له صاحب الأغاني وهو يصف به حمامة، والخرنق شيء يشبه نسج العنكبوت وليس به، يكون بين أغصان الأشجار، فيقول إن هذه الحمامة عاثت بين الأقيال، أي الأشجار الكبيرة فالتثت قدماها بالخرنق أي اشتبكت به، وأما الشيظم، وأراد أن يفسره فقطعته أصوات الضحك من جوانب المجلس.
وبالجملة فقد كان خفيف الروح محبباً إلى القلوب أديباً ظريفاً حاضر الجواب حلو النادرة، وكانت وفاته فجأة بدمنهور في ثاني ليلة من شهر ربيع الثاني سنة 1310 بعد أن صلى العشاء، وكان آخر قوله أنا لله وأنا إليه راجعون، فشق نعيه على من عرفه وشيع جنازته الألوف تغمده الله برحمته.