مجلة الرسالة/العدد 53/بين المعري ودانتي

مجلة الرسالة/العدد 53/بين المعري ودانتي

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 07 - 1934


10 - بين المعري ودانتي

في رسالة الغفران والكوميدية المقدسة

بقلم محمود أحمد النشوي

تحدثنا معك في المقال الماضي عن ابن القارح، وتوسله بالسيدة فاطمة إلى رسول الله ، وما كان من أمر هذا التوسل والأذن له بدخول الجنة

والآن ماذا صنع ابن القارح؟ أنه تعلق بركاب سيدنا إبراهيم عليه السلام حتى بلغ الصراط، وأشير إليه بأن اعْبرْهُ، فلما وجد نفسه لا يستمسك قالت الزهراء لجارية من جواريها يا فلانة أجيزيه. فجعلت هذه تمارسه وهو يتساقط عن يمين وشمال، فقال لها: يا هذه إن أردت سلامتي فاستعملي معي قول القائل:

ست إن أعياك أمري ... فاحمليني زقفونه

فقالت: وما زقفونه؟!

فقال أن يطرح الإنسان يديه على كتف الآخر ويمسك بيديه ويحمله وبطنه إلى ظهره، أما سمعت بقول الجلجلول من أهل (كفر طاب)

صلحت حالتي إلى الخلف حتى ... صرت أمشي إلى الورى زقفونه

فقالت: ما سمعت بزقفونه، ولا الجلجول، ولا كفر طاب إلا الساعة!!!

ثم تحمله وتمر به كالبرق الخاطف حتى يبلغ الجنة، فيمنعه رضوان طالبا منه جواز المرور، فيطلب ابن القارح ورقة من صفصاف الجنة ليرجع بها إلى الموقف، ويأخذ عليها الجواز، ولكن رضوان يأبى عليه هذا، فيقول ابن القارح أنا لله وأنا إليه راجعون، لو أن للأمير أبي المرجي خازناً مثلك، ما وصلت أنا ولا غيري إلى قرقوفمن خزانته.

ولا يطول بينهما الحوار، حتى يرجع إليه إبراهيم عليه السلام فيجذبه جذبة شديدة يحصله بها في الجنة. . . أفرأيت إذاً كيف كان سبيل المعري إلى الفردوس مليئاً بالدعابة وبالمرح حين سقوط صك التوبة من ابن القارح، وحين تدخله في فض النزاع بين أبي على الفارسي ومشاجريه، وفى دعابته مع الجارية، وهو على الصراط في أحرج المواقف وأدقها. فهل كان طريق دانتي كطريق المعري، كله دعابة وظرف؟ لا. فقد كان طريق دانتي على العكس من طريق المعري، آلام وأوصاب، وأهوال وعذاب. . . لقد كان طريق دانتي على النار يعيرها أولاً ثم (المطهر) بعدها حتى يصل إلى الفردوس. فما ظنك بذلك الطريق الشائك المترع بالأهوال والآلام؟!

فبينا هو في غابة موحشة إذا به يتخلص منها إلى أكمة تكلل هامتها شمس الصباح فيهم بصعودها حتى إذا سار قليلاً رأى نمراً قبيحا يسد عليه شعاب طريقه، ثم يرى أسداً مخيفاً وذئبة قاحلة حدقته بنظراتها، فكر راجعاً إلى سفح الأكمة فرقاً ورعباً، فثار في نفسه اضطرابها حتى أتاه (فرجيل) فاستغاثه فهدأ روعه، وحدثه بأن سبيل النجاة من هاتيك المخاطر هي رحلة في أعماق الجحيم، ومنها، إلى الأعراف، ثم إلى الفردوس. ثم حدثه بأن بياتريشي أوفدته لإنقاذه مما هو فيه من أخطار. فاطمأن قلبه وهدأ روعه وعقد عزيمته على اجتياز الجحيم فاجتازها بين أنين العصاة وعويل المذنبين، مما حدثتك عن كثير منه في المناسبات الماضية. حتى إذا انتهت رحلته من جهنم أمسك فرجيل بابليس، وأمسك دانتي بعنق فرجيل، وساروا قليلاً حتى خلصوا من الجحيم، وأسلمت الجحيم دانتي إلى الأعراف فدخلها وسار في جنباتها يتحدث مع العصاة الذين يتطهرون من ذنوبهم ومن آثامهم، حتى إذا قارب نهايتها رأى نهراً ينفرج عن ماء رقراق، فبصر بالنهر وبفتاة على سيفه الآخر، وهي تغرد بصوت مطرب وتقطف الزهرات، فطرب دانتي واقترب منها فقصت عليه حديث النهر، وأن اسمه نهر ليتي نهر التوبة، من أغتسل منه طهر من ذنوبه، وبرئ من آثامه، ثم عاودت الفتاة الغناء، وعاد له من الفتاة الطرب.

ثم تراءت أمام عينيه أضواء تشع في أرجاء الغابة، وتواردت على سمعه نغمات حلوة لم يكد يطرب لها حتى تراءت له من بعيد سبعة أجسام كأنها شجرات من خالص الذهب، تبينها فإذا هي مصابيح تحمل أضواءها كل ألوان الطيف، ويتلوها أربعة وعشرون شيخاً يجللهم وقارهم، وتلقي عليهم الهيبة رداءها، وتكلل رءوسهم زهرات الزنبق وتتبعهم عربة يقودها حيوان يشبه الأسد، بيد أن له رأساً، وأن له أجنحة كأجنحة الطيور ورءوسها.

تلك العربة كانت تحمل بياتريشي جاءت تستقبله لتكون دليله في جنبات الفردوس المحرمة على فرجيل أن يلج بابها. وقد افتن شاعر الطليان في وصف بياتريشي وعربتها، وما احتف بها من راقصات، ومن سحائب الزهور افتنانا جعل ذلك الوصف في طليعة كوميديته إبداعاً وفتنة. وكذلك نرى فيرسالة الغفران وصف الطريق إلى الفردوس، وامتداح رضوان وزفر، ودعابة الجارية على الصراط ناحية جد مخصبة من خيال أبي العلاء ومن إبداعه.

ذلك هو طريق الفردوس، وهاهو ذا وصفه في الروايتين، فأما الفردوس وطبقاته وأقسامه وما تخيله المعري من حيات يسبحن في الخلد فوق كثبان العنبر. وقد كان منهن في الدار العاجلة من تسكن في جحر بدار حمزة بن حبيب أمام القراء.

ونقمت عليه قراءته واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام (بخفض الأرحام) بعد أن كانت تسكن من قبل في دار الحسن البصري. ثم تحولت عنه لأنها رغبت عن بعض حروف في قراءته حين يقرأ الإنجيل. وفالق الأصباح (بفتح الهمزة فيهما). فأما الحديث عن تلك الحيات والرد على المعري في تخطئته حمزة فموعدنا به العدد القادم.

(يتبع)

محمود أحمد النشوي