مجلة الرسالة/العدد 535/الإسلام والفنون الجميلة
مجلة الرسالة/العدد 535/الإسلام والفنون الجميلة
3 - الإسلام والفنون الجميلة
للأستاذ محمد عبد العزيز مرزوق
وكما أجاد المسلمون فن الخط، فقد بلغوا في الزخرفة شأواً بعيداً أقل ما يشهد به أن كلمة (الأرابسك) علم - في تاريخ الفن - على نوع معين من الزخرفة ابتدعه الفنان المسلم. حقاً إنه لم يبتكر وحدات زخرفية جديدة بل استعمل ما وجده بين يديه من مخلفات الفنون السابقة على الإسلام، إلا أنه لا سبيل إلى إنكار مقدرته في طريقة رسم هذه الوحدات الزخرفية وتوزيعها والتأليف بينها وتنسيقها تنسيقاً يجعلها تبدو كأنها اخترعت لأول مرة وما هي كذلك، ولكنه صهرها في بوتقته ومزجها بفلسفته وسلط عليها أشعة عبقريته فخرجت من بين يديه فناً جديداً لا يخفى عليك أصله ولكنك لا تستطيع أن تنكر عليه شخصيته القوية الواضحة
لم يخترع أشكالاً هندسية جديدة، ولكنه بالغ في تقسيمها وتحليلها، نراها تارة متشابكة، وأخرى متداخلة، وأحياناً متلاصقة وأحياناً متباعدة، حتى ليصح لنا أن نقول في اطمئنان إنه بعث في هذا النوع من الزخرف روحاً من لدنه فبدا في ثوب من الجمال قشيب لم يكن له قبل الإسلام
ولم يبتكر وحدات نباتية أو حيوانية بل رسم الأزهار والأشجار والأوراق والسيقان، والطيور والحيوان بعد أن حورها تحويراً كادت معه أن تفقد شخصيتها كوحدات نباتية أو حيوانية، ولكنها وإن بعدت عن الطبيعة فقد دلت على سعة خيال مبدعها وصفاء قريحته
ونفر من الفراغ، وكره أن يرى سطحاً عاطلاً من الزخرف فكرر الوحدات الزخرفية المذكورة تكراراً يمكن أن يستمر دون أن يقف عند حد
وهذه المظاهر الجديدة إتقان الزخرفة الهندسية، وتحوير العناصر النباتية والحيوانية، وتكرار الوحدات الزخرفية، والنفور من الفراغ، هي في الغالب نتيجة لبعض توجيهات في الدين الإسلامي: فقد كان التصوير - وسنتحدث عنه فيما بعد - أمراً غير مرغوب فيه عند كثير من المسلمين نظراً لما حام حول مزاولته من شك، فانصرف نشاط الفنانين إلى نواحي أخرى؛ ولعلهم كانوا متأثرين في بعض ما اتجهوا إليه بما روي في صحيح لبخاري (كتاب البيوع) عن سعيد بن أبي الحسن إذ يقول: (كنت عند ابن عباس رضي الله عنه إذ أتاه رجل فقال: يا ابن عباس، إني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير. فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت رسول الله ﷺ يقول، سمعته يقول من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها أبداً.
فربا الرجل ربوة واصفر وجهه؛ فقال ويحك إن أبيت إلا أن تصنع فعليك بهذا الشحر وكل شيء ليس فيه روح) فلا عجب إذا بلغت الزخارف الهندسية على يديهم ذروة الإجادة، وأصبحت الزخارف النباتية آية في الإبداع والإتقان وإن كانت بعيدة عن تمثيل الطبيعة تمثيلاً صحيحاً في معظم الأحيان، شأنها في ذلك شأن الزخارف الحيوانية التي ترخص في رسمها بعض الفنانين. على أن هذا البعد عن الطبيعة لم يكن نتيجة لضعف في الملاحظة أو نقص في المقدرة بل هو، في أغلب الظن، مقصود لذاته، ولعله ناشئ عن تلك العقيدة التي يؤمن بها كل مسلم أشد الإيمان: ذلك أن البقاء لله وحده، وأن العالم بمن فيه وما فيه مآله إلى الزوال (كل شيء هالك إلا وجهه) (كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام). وليس من اللائق وهذه العقيدة منقوشة في أذهان المسلمين جميعاً أن يخلد رجال الفن منهم بأعمالهم الفنية ما كتب الله عليه الفناء، لذلك نجدهم لم يعنوا بتصوير الشخصيات العظيمة في لوحات كبيرة أو تماثيل ضخمة تبقى على الدهر، أو تمثيل جمال الطبيعة بالنقل عنها نقلاً صحيحاً، بل يأخذون من عناصرها ما يرون، ويهذبون فيه ما شاءت لهم ميولهم ومواهبهم الفنية، ثم يكونون من هذه العناصر المهذبة زخرفة لا تمت إلى الطبيعة بصلة، قوامها أغصان نباتية متشابكة يتفرع بعضها من بعض، وأوراق أشجار مختلفة يخرج بعضها من بعض، وأزهار وفواكه تنبت من الأوراق أحياناً ومن الأغصان أحياناً أخرى، وهي في مجموعها تعطي منظراً ترتاح له العين ويسر به الفؤاد
ويعنى الفنان المسلم عناية واضحة بالتفاصيل الدقيقة، ويميل - بل ويسرف في هذا الميل أحياناً - إلى عدم ترك فراغ ملحوظ بين الوحدات الزخرفية، وربما كان مسوقاً إلى ذلك بفكرة كامنة في نفسه تجعله حريصاً على أن يخرج زخرفته بحيث لا يستقر النظر فيها على شيء معين يترك في الذهن صورة واضحة تحتل بؤرة الشعور. أما هذه الفكرة فهي رغبته في الحيلولة بين نفسه وبين الغرور الذي يملك الفنان أحياناً عند ما يتأمل في أثره الفني فيراه واضح المعالم والخطوط، ويدرك أنه استطاع أن يرسم بريشته ما يضاهي به خلق الله. كما أنه أيضاً قد أمن - في نفس الوقت بطريقته هذه - استغراق الناظر لذلك الأثر الفني في جمال الأثر فينسى مبدع الكائنات وهو يتأمل فيما صنع الإنسان
على أن هناك ظاهرة في الزخرفة الإسلامية تلفت النظر، تتجلى لنا في الوحدات الزخرفية التي نرى فيها طائراً ينبت من جناحيه وذيله أغصان تتصل بها أزهار، أو سمكة ينتهي ذيلها بفرع نباتي ويخرج من رأسها وجسمها أوراق أشجار، أو رأس آدمي مركب على جسم طائر ذيله عبارة عن غصن طويل ملتف على نفسه، أو قطعة من خشب على شكل قيثارة مثلاً يخرج من جانبيها الأيمن والأيسر رأسا حصانين في فم كل منهما لجام يتخلص من طبيعته هذه بالتدريج حتى يصبح فرعاً نباتياً تتصل به أغصان وأزهار، وينبت من أذن كل منهما فرع نباتي يدور حول نفسه أولاً ثم يتفرع إلى فروع عدة، أو غير ذلك من الوحدات الزخرفية التي يجمع فيها الفنان عناصر الطبيعة المختلفة من حيوان ونبات وجماد بحيث يخرج بعضها من بعض؛ وكأنه في عمله هذا يرى أن المخلوقات كلها سواء يستوي لديه الحيوان والإنسان والنبات والجماد باعتبار أنها لا تثبت على صورة واحدة بل تتغير من حالة إلى حالة وليس لها جميعاً إلا وجود زائل سائر إلى الفناء بينما الخالق وحده هو الحق الباقي الذي لا يعتوره تغير ولا يلحقه فناء. والغالب أن الفنان المسلم متأثر في اتجاه هذا بتلك الآية الكريمة التي نزلت في إبراهيم عليه السلام والتي تشير إلى أن الثبات وعدم التغير من صفات الحق وحده دون مخلوقاته التي من شأنها التغير. يقول جل شأنه: (فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال إن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر، فلما أفلت قال يا قوم أني بريء مما تشركون. أني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين).
(يتبع)
محمد عبد العزيز مرزوق
الأمين المساعد بدار الآثار العربية