مجلة الرسالة/العدد 538/في المسجد الأقصى

مجلة الرسالة/العدد 538/في المسجد الأقصى

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 10 - 1943


للدكتور عبد الوهاب عزام

شهدت صلاة العشاء في المجد الأقصى في رمضان، فلا أنسى ما يستقبل الداخل من روعة التكبير ينبعث من جانب المحراب بعيداً كأنما ينبعث من عالم الغيب. وما أنسى القناديل الخافقة في أرجاء المسجد كأنما ترعد من جلال التكبير، ويأتلف تسبيح المصلين وخفقات الضوء كما تتآلف موسيقى من الأنغام والأشعة

وخرجت أمشي في الساحة الفسيحة الجليلة والرحاب الواسع في صحن الصخرة وحوله وأشهد الأسوار والأبنية تحدث أخبارها والفكر طيار بين الماضي والحاضر، والبصر حائر في هذه المشاهد الكثيرة المهيبة، والقمر يرسل أشعته تترقرق على قبة الصخرة الجميلة وتنساب بين الجدران والأشجار، والظلال تفصل الضوء فتكتب سطراً من الجمال رائعاً، أو تخط آية من آيات السجدة في هذا الحرم العظيم يقرأها كل ذي قلب فتسجد جبهته أو يسجد قلبه

تركت الحرم وملء نفسي هذا الجمال والجلال، وملء قلبي ذكر وعبر. ولما خرجت من باب العمود تأملت سور المدينة وقد علا البدر وراءه فتخللت شرفاته الأشعة وبدت كأنها فلول سيف قارع الحادثات طويلاً، وأبلى في الخطوب دهوراً

عدت إلى المسجد مرة أخرى يتلفت طرفي وقلبي وأتأمل هذه المشاهد مرة بعد أخرى كما يحرص القارئ على حفظ آية تروعه أو بيت من الشعر يعجبه، ثم جلست في رفقة كرام خارج باب العمود أتأمل السور الضيق، والقمر من ورائه مرة أخرى

قلت لا بد من زيارة في ضوء النهار يحيط فيها البصر والفكر بهذه الساحة العظيمة وما يتقسمها من أبنية؛ فكم دخلت إلى هذا المكان فما استوعبه فكري ولا أحاط بأرجائه نظري

ثم واعدت الأستاذ عبد الله المخلص، وهو من أعلم الناس بالحرم ماضيه وحاضره، واعدته أن نلتقي بعد صلاة الجمعة في معتكف السيد المجددي وزير الأفغان من الحجرات في صحن الصخرة

هذا يوم الجمعة لست بقين من رمضان عام اثنتين وستين وثلاثمائة وألف وقد اقترب الظهر وأنا منحدر في شارع باب العمود أحمد الإسراع الذي يدفع إليه الانحدار. دخلت من باب العمود إلى الطريق المدرج ذي الدرجات الواسعة الوطيئة التي تهبط أو تصعد بالسابل يكاد لا يحس الانحدار والصعود، ومررت بهذه العقود الجانبية على طريق التاريخ إلى البيت المقدس تحمل الأبنية العالية كأنها عقود السنين تنوء بما تحمل من أحداث وذكر. والسابلة ميممة شطر المسجد يهتدي بسيرها من لا يهتدي طريقه. شهدت في الحرم جمعة قبل هذه فإذا عيد إسلامي يشترك فيه الرجال والنساء والأطفال؛ الآباء والأمهات في صلاة، والأطفال في رحاب الحرم يمرحون؛ ولكن اليوم يوم جمعة اليتيمة وقد حرص على شهودها في المسجد الأقصى كثير من بيت أهل المقدس والبلاد القريبة، وهذه الوفود تتوالى في أزياء المدن والقرى، وقد تقسمت المصلين مصليات كثيرة في فناء الحرم رضى بها من أشفق من الزحام في المسجد الأقصى وقبة الصخرة. وسرت فرحاناً خاشعاً أتحرى طريقي إلى حجرة السيد المجددي فلما بلغت الحجرة أدركني عند بابها صديق عظيم لا يغيب وجهه عن مشهد من مشاهد الخير قلت: السيد ليس ها هنا الآن نعود بعد الصلاة. وأحسب المسجد مكتظاً فهلم إلى الصخرة. قال: نصلي هنا في جماعة من هذه الجماعات. فجلسنا وطرفي مقسم بين الجماعات التي تؤم مواضع الصلاة، والجماعات التي تبوأت أماكنها في هذا المحشر. استقرت بالمصلين المجالس زرافات لا يرى بينها إمام، وخيل إلي أنها جماعات المسجد الحرام تتجه وجهات مختلفة ولكنها كلها إلى الكعبة

وكبر إمام المسجد فتوالى التكبير بعيداً فانتفضت هذه الجماعات قياماً، وأحكمت صفوفها وتوالى تكبيرها. ما أعظم هذا مشهداً جميلاً رائعاً! وقفت أتلفت إلى الجماعات المتفرقة في أرجاء المسجد ثم أحرمت فلم يمنعني خشوع الصلاة من أن أجيل الطرف أمامي: هذه قبة المسجد الأقصى وأبنية أخرى تتخللها أشجار باسقات، وأمامي على بعد جماعة من النساء اصطففن عند حجرتين عليهما قبتان، والى اليسار جماعة أخرى من النساء وقفن مع عمد جميلة تعلو بئراً من آبار الحرم، وبعدها ذات اليسار جماعة أخرى عند العقود المشرفة على الدرج المؤدي من باب القبة القبلي إلى باب المسجد الكبير وبعدها جماعة من الرجال. ورأيت قبل الإحرام جماعة ذات اليمين في الفناء الأدنى، وأخرى خلفنا فوق صحن الصخرة المرتفع. فما زلت أراها بقلبي مع هذه الجماعات التي يدركها البصر أمامي. قلت لنفسي إنك في شغل عن الصلاة بهذه المشاهد. قالت: إني أشغل عن صلاة بصلاة، وأخرج من صلاتي المفردة إلى صلاة الجماعة. ودوى التكبير بعيداً فركعت هذه الجماعات وكدت أعجب لماذا لا تركع هذه الأشجار القائمة، وقد ركعت الصفوف كلها، وذكرت الآية: (ألم تر أن الله يسبح له من في السموات ومن في الأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه)

صلينا ركعتين هما عندي سجدة واحدة متصلة. فلما سلمنا قلت للصاحب الكريم ائذن لي لأشهد الجمع خارجاً من المسجد وأعود. وسارعت أتخلل الجموع المنتشرة بعد الصلاة والصفوف المسبحة الجالسة التي لم ينتشر نظامها. وهبطت الدرج مسرعاً لأشهد السيل المتدفق من باب المسجد الأقصى وأتفرس الوجوه الخاشعة الفرحة، وأتأمل الأطفال حول آبائهن وأمهاتهن، وأرى هذا العيد العظيم في هذا الحرم المبارك وأسارير وجهي تنبسط ابتساماً، وتنقبض هيبة، وقفت على شاطئ هذا السيل البشري حيناً ثم رجعت أدراجي إلى صاحبي الكريم في مصلاه. . .

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام