مجلة الرسالة/العدد 538/في محكمة الجن
مجلة الرسالة/العدد 538/في محكمة الجن
للدكتور زكي مبارك
مع الاعتراف بأن القلم في يد الكاتب نعمة لا يماثلها شيء من نفائس الوجود، فأنا كثير الضجر مما يجني علي قلمي، لأنه يتيح الفرص لمن يسرهم إيذائي، ولأنه يجعلني دائماً على بال الناس، ويا ويح من يشغل به الناس!
زرت مرةً إحدى المدارس الثانوية فوجدت ناظرها رجلاً مجهولاً من الدوائر الأدبية والاجتماعية، مع أن المرء لا يصل إلى مثل مركزه إلا بعد ظهور وبروز في الأدب وفي المجتمع، فقلت في نفسي: (هذا هو الرجل السعيد. إن منصبه يضارع منصبي من الوجهة الرسمية؛ وقد يكون راتبه أضخم من راتبي، لأنه قديم العهد بخدمة وزارة المعارف. ولكنه أسعد مني، لأنه بعيد من المجتمع، ومجهول من الجرائد والمجلات، فلا يتحدث عنه متحدث، ولا يتزيد عليه قارئ لا يفهم أسرار البيان)
ثم قلت: (أين حظي من حظ هذه الزميل؟ إن مقالاتي تؤخذ منها قصاصات لتقدم إلى وزير المعارف، فأنا على بال الوزير من يوم إلى يوم، أو من أسبوع إلى أسبوع. ومعنى هذه أني أقدم سريرتي قبل السؤال عما فيها من مجاهيل)
وعلى من يقع اللوم؟ يقع علي وحدي، فمن حق أي وزير أن يتعقب ما يصدر عن مساعديه من أفكار وآراء، ومن واجبه أن يناقشهم فيما يستوجب النقاش
والآفة الفظيعة أني مكثر، وقلما يسلم المكثار من العثار. يضاف إلى هذا قلمي يجول في شجون من الأحاديث تمس طوائف من المعاني الشوائك، فأنا أعرض نفسي لمتاعب لن تنقضي إلا يوم أتوب من صحبة القلم، ولن أتوب!
هل أصدق كل الصدق فأذكر أني شعرت بدمعة تساور جفوني يوم زرت ذلك الناظر السعيد؟
لقد تحزنت وتوجعت، لأني عرفت أن القلم لا يغنيني في حياتي كما يغني أمثالي في الأمم التي يعد قراؤها بالملايين، فلم يبق إلا أن أكون من الموظفين!
أين أنا مما أريد؟
أنا أريد النص على أن قلمي ساق إلى متاعب أخطر مما كنت أعاني، فقد نقلني من معاد الإنس إلى معاداة الجن، ونعوذ بالله من كيد الشياطين!
وخلاصة القصة أني تحدثت عن (جنية) سامرتها ليلة بالإسكندرية مسامرة الحبيب للمحبوب، وأنا أجهل أن حديثي عنها ستكون له عقابيل. . . فماذا وقع بعد ذلك الحديث؟
أطفأت النور بالغرفة التي تطل على الصحراء، لأستوحي القمر والنجوم في هدوء وسكون، ثم راعني أن أرى الغرفة تضئ، وأن أرى خلائق لم يكن لي بمثلها عهد، فهتفت: أتوا داري فقلت: منون أنتم؟
فقالوا: الجن، قلت: عموا مساء
- محكمة!
- أية محكمة؟
- محكمة الجن!
- وفي هذه الأنوار؟
- هذه أنوار لا يراها عابر، فلا عليك!
- وهذه الوجوه؟
- هي وجوه لا يراها غيرك
- وماذا تريدون؟
- نريد محاسبتك على ما وقع منك
- وماذا وقع مني؟
- هل نسيت ما نشرت بمجلة الرسالة
- عماذا؟
- عن الجنية المحبوبة!
- ذلك خيال في خيال
- ونحن نحاسب على الخيال، لأنه صورة مصغرة من الحقيقة الواقعية، فأنت محاسب على اقتراف الإثم بمغازلة جنية عذراء.
- من حديثي بمجلة الرسالة عرفت ما اقترفت؟
- عرفنا ما اقترفت قبل أن تنشر حديثك - وكيف؟
- لأننا نراكم ولا تروننا
- وما الذي منع من عقد المحكمة قبل نشر الحديث؟
- الإثم عندنا يحتاج إلى برهان مكتوب
- وحديثي هو البرهان؟
- نعم، ثم نعم!!
- أتسمعون كلمة الحق؟
- قد نسمع!
- يجب أن تسمعوا، فاسمعوا. أنتم تقفون من الحياة موقف المتفرجين، والمتفرج يرى الممثل ولا يراه الممثل، فالممثل آمر والمتفرج مطيع، أو هو كاتب والمتفرج قارئ
- أتقول إن الإنس أفضل من الجن
- هو ذلك، وإلا فأين نصيبكم من خدمة الآداب والفنون؟
- نحن الذين أقمنا عرش سليمان
- وأين عرش سليمان؟
- بقيت منه المعاني
- هي معان إنسية لا جنية، لأنها متصلة بالناس لا بالجان
- ونحن الذين ألهمنا شعراء الجاهلية
- وهم لهذا جهلاء!
- أنت تحاكم، فما هذه الغطرسة العاتية؟
- أنتم تحاكمونني، يا جماعة الجن، ولم يكن فيكم من يتسم بشجاعتي؟
- وما شجاعتك؟
- أنتم تعرفون شجاعتي، فما تنكرت ولا تلثمت كما تتنكرون وتتلثمون، ولا سمح ضميري بأن أرى الناس ولا يرونني لأني أحب أن تكون أعمالي في العلانية لا في الخفاء
- والجنية التي سرقتها منا؟
- لم أسرقها منكم، ولن أردها إليكم - أطع محكمة الجن
- وهل أطعت محكمة الإنس حتى أطيع محكمة الجن؟
- سنؤذيك إن تماديت في العصيان
- لا يستطيع مخلوق أن يؤذيني، إن حفظت الأدب مع الله في الترفق بنفسي
- حرر الجنية من حبك
- لن أحررها من حبي، فما أرضى بأن يضيع نصيبها من شرف الوجود
- لا نفهم شيئاً مما تقول
- أنا أقول بأن الإنس أفضل من الجن، لأن الإنس مجاهدون والجن رقباء، والمجاهد أفضل من الرقيب
- والجنية المخطوفة؟
- لن تكون لكم ولو عقدتم ألف محكمة
- وإن اغتصبناها منك؟
- لن تغتصبوها مني، بعد أن سمعت أشعاري، وهي أشعار نظمتها بدم القلب
- أطع محكمة الجن
- لن أطيع
- وإذا حكمنا عليك؟
- سيعييكم التنفيذ!
- وفي هذه المعمعة برزت الجنية وهي تصرخ: أنا الجانية على نفسي، إن كان من الجناية أن أخرج إلى الأنوار بعد طول القرار في غياهب الظلمات
- ماذا تقولين يا حمقاء؟
- معشوقي إنسي، يا سعادة الرئيس
- والإنس أفضل منا، يا شقية؟
- نعم، لأن أعمالهم في العلانية
- وأعمالنا؟
- أعمالنا في طيات الخفاء - لست منا ولا نحن منك
- أنا من معشوقي، ومعشوقي مني، فاذهبوا عني
- ونهزم أمام الناس
- كما ينهزمون حيناً أمام الجان، والجروح قصاص
ثم انفضت محكمة الجن بدون تعنت يحوج إلى الاستعانة بالمحامين فعرفت أن الجن لا يزالون على الفطرة الأولية في إدراك الحقائق البديهية، وعرفت أيضاً أنهم يخافون من الإنس، وكان معروفاً أنهم يخيفون ولا يخافون
ذهبت الأنوار المجلوبة بحضور الجن، وعادت الغرفة إلى الضوء المرسل من القمر في لطف، وبقيت الجنية بجانبي وهي لا تكاد تصدق أنها نجت من تعقب أولئك العماليق
- هل صرنا في أمان؟
- أنت صرت في أمان
- وأنت؟
- ألم تعلمي أني أقيم فوق جبل من البارود؟
- أتخاف وأنا معك؟
- أنا أخاف لأنك معي، فقومك لن يسكتوا عني، وقد يستنصرون بإخوانهم في الشام والعراق
- المعروف عندنا أن شياطين الشام والعراق من أصدقائك
- ومن هنا أخاف
- تخاف من أصدقائك؟
- وممن أخاف؟ هل أخاف من أعدائي وأنا أملك البطش بهم حين أريد؟
وانتقل الحوار إلى شؤون متصلة بالجمال فسألتني الجنية عما يستهويني من جمالها فقلت:
أنا أحب فيك هذه الصوت الناعم المبحوح، وأشتهي أن تتكلمي في كل وقت. . أشتهي أن تكون حياتك حديثاً في حديث، لا تسكتي، فما رأيت أندى على قلبي وروحي من بغامك الذي يشبه وسوسة الحبب عند اضطرام الكؤوس. تكلمي لأرى نعيم الفردوس ممثلاً في نبرات هن أعذب وأطيب من همسات الأماني في الصدر الحزين هذا الصوت يزلزل قلبي، وأنا أسمعه وإن اعتصمت بالصمت
- كيف؟ كيف؟
- هويتك الأصيلة هي هذا الصوت، فأنت كالبلبل، وهوية البلبل في الحلق، والله يزيد في الحلق ما يشاء
- لم تجب عن سؤالي!
- قلت إن هويتك في الصوت، وأنت دائماً في بالي، فأنا أسمعك في كل وقت، وإن غبت عني
- إلى هذا الحد يفتنك صوتي؟
- والى أبعد من جميع الحدود
- كنت تقول إني أفتنك باللون
- متى؟
- ليلة بتنا بالإسكندرية، هل نسيت!
- لونك يفتن، لأنه ينطق، وهو يتموج تموج النبرات العذاب. إن في قدميك خطوطاً نواطق، في قدميك، في قدميك، فماذا أقول في المرمر الناطق وهو صدرك الجميل؟
- زدني، زدني
- زيديني فتوناً لأزيدك جنوناً
- ماذا تريد مني بعد أن خاصمت فيك قومي؟
- أريد أن تتكلمي في جميع اللحظات
- وأين أجد ما أقوله في كل وقت؟
- تقرئين علي ما في المكتبة من مؤلفات أدبية وعلمية ولغوية، بالعربية والفرنسية والعبرية، والأمر سهل، فإن محصول مكتبتي لا يزيد عن عشرة آلاف، وسنعبرها ورقةً ورقة في أقل من عشر سنين
- إلى هذا الحد تحبني؟
- والى أبعد مما أحب العباقرة من الإنس والجن في جميع الأزمان
- أنا أرتعد من الخوف - ومم تخافين؟
- أخاف منك، فدعني أخرج لألحق بقومي
- لن تعرفيهم بعد اليوم، ولن يكون لأحد غيري عليك سلطان، فليجمع الجن جموعهم ليلقوني في ساحة القتال، ولتتمردي ما شاء لك الحمق والطيش، فلن يكون لك في غير هذا البيت مكان
- وتحميني من طغيانك؟
- إذا اعترفت علانية بأن سلطان الجمال أضعف من سلطان البيان
زكي مبارك