مجلة الرسالة/العدد 54/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 54/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 07 - 1934



رسائل سائر من بلاد العرب إلى بلاد اليونان

بقلم صاحب الفضيلة الشيخ محمد سليمان

من الأمور اليسيرة العسيرة، السهلة الممتنعة، التي تستعصي إجادتها إلا على ذوي الأفهام النادرة، والأقلام القادرة، وإن خدعت ظواهرها، وخيل لأوساط الكتاب أنها هنة هينة، تستطيع أرباع الأقلام وأنصافها أن تجول فيها وتبرز، هي تصوير الشعوب تصويراً صادقاً ناطقاً قوياً رائعاً. . يروى عن سائح فرنسي زار انجلترا، أنه لم يكد يقيم بها أسبوعا حتى حمل القلم وهم بالكتابة عنها، فلم يقطر قلمه إلا كلمات متقطعة وأسطر ركيكة فلم يشأ أن يرد ذلك إلى قصوره وعجزه، وزعم لنفسه أنها سبعة الأيام لا تجمع في الذهن محصولاً من الصور يكفي لإجادة التصوير، وعول على الإقامة شهراً كاملاً، فانقضى الشهر واهتز القلم، وانغمس في الدواة مراراً وجف مراراً، دون أن يهبط عليه الوحي الذي يرجو، ولكنه ليس عاجزاً ولا مقصراً، إنما هو الشهر لا ينفع ولا يجدي كاتباً يريد أن يجيد، فصبر حتى الفلك دورة كاملة، وانسلخ العام بشهوره الاثنى عشر، والذهن على ركوده والقلم على جموده، فأيقن بعجزه عن الوصف وارتحل

فليست الكتابة عن الأقطار والشعوب هينة لينة كما يبدو، إنما هي مرتبة عالية، تحتاج إلى قلب كبير حساس، يعي ما يرى من الصور وعياً تاماً ويحسها إحساسا قوياً، حتى لكأنه نشأ بينها ودرج في أحضانها، وإلى عقل راجح لا يميل به الهوى، فيزن القول وزناً دقيقاً عادلاً، وإلى قلم قدير ينطق بما يحسه القلب ويحكم به العقل. وقد اجتمعت هذه الأدوات الثلاث لدى الأستاذ الجليل الشيخ محمد سليمان، الذي طوف في أرجاء فلسطين وسوريا وزار بلاد اليونان، فلم يعوزه ذلك القلب اللاقط الحساس، ولا غربة فهو أبو التلاميذ جميعاً، الذي وسعت رحمة قلبه ألوف الأبناء، ولم ينقصه العقل الراجح المتزن العادل، فقد عرفته منصات القضاء أعواماً وأعواماً، فإذاما أحس قلبه وإذا ما حكم عقله، ألفيا قلماً بليغاً ينطقانه في بيان ساحر خلاب.

طوف الأستاذ في تلك الأنحاء، فأحس كثيراً وعلم كثيراً، فأملى على القلم إحساسه وعلمه، فصدع القلم ودبج فصولاً لست أعرف خيراً منها، أستغفر الله بل ما يدنو منها فيما كتبه الرحالة المتجولون حديثاً، وأخذ ينشر تلك الفصول تباعاً في صحيفة سيارة، ثم نظمها اليوم في كتاب، حتى يطالعه الأخلاف كما قرأه المعاصرون، فكان هذا الكتاب القيم: رسائل سائر

قرأت الكتاب فراعتني منه جوانب ثلاثة: التصوير الدقيق، والملاحظة الصحيحة، واستخلاص العبرة، ولو أردت أن أسوق إليك الأمثلة لنقلت إليك الكتاب الذي أدعوك لقراءته من السطر الأول إلى السطر الأخير

على أن في الكتاب هنات يسيرة، كنا نرجو أن يبرأ منها كالتطويل القليل الفائدة في بعض المواطن، وقلة عدد الصور، وهذا القليل لم ينل حقه من الإجادة تصويراً وطبعاً، وكالإطناب في خالد بن الوليد، ومن رأينا أن ما يمكن تحصيله وأنت هادئ ساكن في مكتبك، ليس مما يحسن ذكره في كتب الرحالة، وبوقوع بعض الأخطاء اللغوية، أو التي نحسب أنها كذلك، ففي صفحة 7 يقول (ظاهرة حقة) ونظن أن الصفة هنا لا تؤنث كقولك رجل عدل وامرأة عدل. وفي صفحة 35 ذكر الريح مذكراً وأظنها أو يحسن على الأقل - أن تكون مؤنثة. وفي صفحة 38 ذكر (باقة زهر) والباقة لا تكون إلا للبقل، أما حزمة الزهر فيقال لها طاقة الزهر.

وإنما نذكر هذه المآخذ لضرورة ذكرها في مجال عرض الكتاب، على إنها لا تشوه من جمال الكتاب في شيء؟

زكي نجيب محمود