مجلة الرسالة/العدد 54/سيوة

مجلة الرسالة/العدد 54/سيوة

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 07 - 1934



تقع واحة سيوة في صحراء مصر الغربية على الحدود ما بين مصر وطرابلس على مسافة مائتي ميل جنوبي السلوم وأربعمائة ميل غربي وادي النيل.

ويمكن القول أنها الواحة الشمالية من سلسة واحات تتبع إحداها الأخرى من الجنوب إلى الشمال في صحراء (ليبيا) وكان الأقدمون يسمون هذه الواحات (بالأراضي المقدسة) لأنهم كانوا يعتقدون أن الآلهة منحت هذه البقاع ماء وسط تلك الصحراوات القاحلة، ولأن هذه الواحات قد حمتها الطبيعة بأن أحاطت كل واحة منها بسلسة من جبال كلسية تمنع عنها الرمال الدقيقة التي تحملها معها الرياح، إذ لولا هذه الجبال لغطتها كثبان الرمال وجعلتها في عالم النسيان، كذلك عيون الماء المتفجرة في هذه الواحات سببت الحياة والرخاء وسط ذلك المحيط القاحل غرب وادي النيل.

تتكون سيوة من عدة واحات صغيرة متجاورة تقع في منخفض من الأرض يبلغ طوله حوالي ثلاثين ميلا وعرضه ستة أميال تقريبا، وينخفض عن سطح البحر حوالي عشرين متراً تكتنفها صحراء جرداء محرقة لا تسقط فيها الأمطار

ولقد زارها الاسكندر الأكبر حينما غزا مصر وتبرك بزيارة معبد (جوبيتر آمون) إرضاء للكهنة المصريين ورغبة منه في إظهار احترامه لدينهم

يبلغ عدد سكانها ثلاثة آلاف نسمة، وهم سلالة أقوام قديمة من البرابرة، ولا يشبهون أعراب الصحراء في شيء. ولهم لغة خاصة بلهجة ولكنة غريبتين، ولعلها لغة أجدادهم البرابرة القدماء، والغريب في أمرهم أنهم يتكلمون بتلك اللغة، ولكنهم لا يتكاتبون بها، بل إنهم يتكاتبون باللغة العربية، ولا شك في أن بقاء هذه اللغة البربرية راجع إلى بعد الواحة عن العمران، وصعوبة المواصلات بينهما وبين الأجزاء الأخرى من القطر فقل اختلاط السكان بالمصريين والأعراب، بل إن أهالي سيوة لهم عادات خاصة، وطباع تخالف في جوهرها طباع وسكان وادي النيل

ليس لهذه الواحة تاريخ معروف، بل إن ماضيها مظلم، وليس من سبيل لإلقاء أشعة من النور لمعرفته إلا إذا قامت بعثات علمية بالحفر في جبالها وآثارها والتنقيب في معابدها وخرائبها حتى يمكن أن يرفع ذلك الستار الكثيف عن تلك المدنية البائدة الغربية

والطريق الأكثر استعمالا للوصول إلى سيوة هو من مرسى مطروح والسلوم، ويمكن للسيارات الصغيرة الخفيفة أن تقطع ما بين مرسى ومطروح وسيوة في ثماني ساعات. أما السيارات الثقيلة المعدة للتحميل فتقطع المسافة في يومين، وتقطعها الجمال في سبعة أيام، ويقطع كثير من أعراب الصحراء المسافة من شاطئ البحر الأبيض إلى سيوة مشيا على الأقدام وهي مسافة لا يستهان بها إذا أضيف إليها ندرة الماء في الطريق.

وكل ما يعيش عليه الأعرابي في الطريق، قليل من التمر ولبن الناقة وقطرات من الماء، وبهذه المناسبة أقول إن السيارات لم تبدأ بالسير بين مرسى مطروح وسيوة إلا منذ سنة 1926 أما قبل ذلك فالمواصلات بين البلدين كانت بالجمال، غير أنه حدث أن زار الخديو السابق عباس باشا سيوة سنة 1905 مع بعض الألمان الذين كانوا ينقبون عن الآثار في مدينة (سانت ميناس) القديمة التي تقع في الجنوب الغربي من الإسكندرية وكان بصحبته الهر إيوارت فولز وقد قطع المسافة لسيوة على عربة مكشوفة (فيتون) تجرها جياد تستبدل بغيرها كلما أصابها الكلال والتعب. وهذه هي المرة الأولى التي سارت فيها عربات ركوب في الصحراء في تاريخ سيوة الحديث، وتألفت حملة الخديو السابق في هذه الزيارة من أربعة علماء من الألمان وعشرين جنديا واثنين وستين حصانا و288 جملا لحمل الأمتعة. هذا عدا خدم الخديو الخصوصيين.

وتهتم مصلحة الحدود الآن بإصلاح الطريق ما بين مرسى مطروح وسيوة. فهي تزيل الصخور من الطريق وتضع مخلوطاً من خرسانة الأسمنت في المواضع التي يغطيها مطر الشتاء، ثم إنها أصلحت بعض المستودعات القديمة الرومانية التي تجمع فيها الأمطار وسقفتها بأسقف من خرسانة الأسمنت وعملت فيها فتحات حتى يتمكن المارة من أن يحصلوا على الماء بإلقاء دلو مربوط في حبل كي يأخذوا ما يشاءون من الماء، وحتى لا يضيع أي قدر من ماء الأمطار، وازدادت تلك العناية عقب زيارة حضرة صاحب الجلالة الملك الأخيرة سنة 1928 إذ أن مصلحة الحدود تعمل على إيجاد أكبر عدد من مستودعات ماء المطر في طريق الصحراء بين مرسى مطروح وسيوة لدرجة أن العربي الذي يقطع المسافة سائراً على قدميه يمكنه أن يجد في طريقه كل يوم مستودعاً فيأخذ منه ما يحتاجه من ماء يكفيه طول اليوم، ومن أكبر هذه المستودعات أو الآبار هو بئر جلالة الملك فؤاد الأول عند البويب وهي منتصف المسافة تقريباً بين مرسى مطروح وسيوة، وتوجد آبار أخرى في الطريق أذكر منها بئر الكنائس والحجفا وغيرها.

يقطع المسافر من مرسى مطروح الصحراء الغربية في رقعة من الأرض متشابهة الأشكال والمنظر لا تتغير فيها، فهي رمال صفراء تغطيها قطع صغيرة من الأحجار المتناثرة هنا وهناك، ويمر في طريقه ببعض التلول الصخرية القاتمة اللون، ولا يرى إلا سراب الصحراء على امتداد البصر، ولقد رسمت السيارات دروباً واضحة في الصحراء بحيث أصبح السائقون على إلمام بها بحيث لا يضلون الطريق كأنما هم يسيرون في شوارع البلاد الآهلة بالسكان، وقبل الوصول إلى سيوة بما يقرب من عشرين كيلو متراً تبدأ العربات بالانحدار في طرق متعرجة وسط الصخور التي تحيط الواحة، ولا يزال هذه الطرق تنحدر في ميلها تدريجياً حتى تتمكن السيارات في نهايتها من الوصول إلى الواحة نفسها، وذلك الانحدار طبيعي لأن هضبة الصحراء ترتفع عن سطح البحر، بينما الواحة نفسها منخفضة عن سطح البحر حوالي عشرين متراً، وما أن ينتهي ذلك الانحدار حتى ترى أشجار النخيل وقد مالت كل منها على الأخرى وكأنما هي عرائس وضعت على رؤوسها أكاليل من أوراق الربيع الخضراء، وتراها وهي في وسط الواحة الهادئة الساكنة كأنما تسر كل منها للأخرى أسرار الكون وأسرار وجود الحياة وسط تلك الصخور الصامتة الخرساء. ولا شك في أن القادم على سيوة حينما يقع بصره على أشجار الزيتون والنخيل يشعر بالفرق الشاسع بين تلك الصحراء المملة برمالها ودروبها، وبين تلك الواحة باخضرارها ووجود الحياة البالغة فيها، ثم يستمر السير وسط حقول الواحة وقد أحيط كل حقل بسياج من جريد النخل الذي لفحته حرارة الشمس فتحول لونه من أخضر زاه إلى أصفر ذهبي، وبعد مسير بضع دقائق تصل وسط البلدة مركز سيوة.

(يتبع)

كابتن