مجلة الرسالة/العدد 55/أعيان القرن الرابع عشر

مجلة الرسالة/العدد 55/أعيان القرن الرابع عشر

مجلة الرسالة - العدد 55
أعيان القرن الرابع عشر
ملاحظات: بتاريخ: 23 - 07 - 1934


9 - أعيان القرن الرابع عشر

للعلامة المغفور له احمد باشا تيمور

محمد أفندي أكمل

هو محمد أكمل بن عبد الغني بك فكري بن لطف الله بن حسين، الشاعر الأديب الظريف؛ ولد بالقاهرة ونشأ بها واعتنى والده بتعليمه وتهذيبه، ثم أدخله في الديوان الخديوي للتعليم كتلميذ، وكان كبار هذا الديوان مدة الخديو إسماعيل باشا، فجود الخط به وألمّ باللغة التركية، وكانت له حدبة بظهره شوهت خَلْقه، ورأى والده أن لا مطمع في استخدامه بمنصب لائق، لحدبته وقصر قامته، فاستحسن له طلب العلم بالأزهر، وكان يرجو أن يكون من كبار العلماء، فلازم الطلب به وقرأ النحو والعلوم العربية على الشيخ أحمد المنصوريّ، والشيخ محمد البجيرميّ، وكان أحدب مثله، وكثيراً ما كان يقعده بجواره في حلقة الدرس. ثم انقطع عن الطلب ولازم والده، وكان والده جماعة للكتب، مغالياً في اقتنائها شراء واستنساخاً، ينفق عليها جلّ ما يصل ليده، ويحي الليالي في مقابلة ما يستنسخه منها وتصحيحه وضبطه، فكان المترجم يعاونه في ذلك، واطلع بهذا السبب على كثير من الكتب العلمية والأدبية والدواوين الشعرية، وعاشر من كان يجتمع بوالده من العلماء والأدباء وتردد عليهم واستفاد منهم، وعرف مدة طلبه بالأزهر كثيراً من أدبائه وشعرائه المجيدين كالشيخ عبد الرحمن قرّاعة، والشيخ أحمد مفتاح وحفني بك ناصف وغيرهم، فاستفاد منهم أيضاً، ونظم الشعر والزجل وأدوار الغناء، واشتهر بحسن المحاضرة وملاحة التندير وسرعة الجواب وخفة الروح، وكان كثيراً ما يجعل محور تنديره دائراً على حدبته، فيأتي بما يضحك الثكلى، بل كان لا يأنف من ذكرها في شعره، كقوله من زجل في الوباء الذي حلّ بمصر أوائل سنة 1320 وما فعله الأطباء من الهجوم على الدور وترويع ربات الخدور:

شاعرْ وناثرْ زّجالْ عالْ ... فنّ الأدبْ فيدُه لِعْبَهْ

لطيفْ زكيِ وفَهْمُهْ سَيَّالْ ... وِرِقّتُهْ منَ اللهْ وَهْبَهْ

مخْلِصْ لاْخواُنه ومَيَّالْ ... نَادْرِةْ زَمَاُنهْ ولُه حَدَبَهْ

ما فِيهْش عيْب ظاهرْ معروفْ ... قَصِيرْ ولكنِ فِيهْ أقْصَرْ واللى يعيش يَاما بِيْشُوْف ... واللى بِيمْشى بِشُوف أكتَرْ

ومن ولوعه بحدبته شرع في جمع كتاب في نوادر الحدبان وما قيل فيهم من الأشعار، وتراجم مشهوريهم، أخبرني أنه جمع منه جزءاً إلا أنه لم يتمه

ونقل والده مدة محمد توفيق باشا الخديو من الديوان إلى المحاكم الأهلية قاضياً، وتوفي يوم الثلاثاء 29 المحرم سنة 1307 وخلف له ولاخوته ضيعة بالصعيد أصاب المترجم منها ستون (فداناً) باعها وبدد ثمنها بالإسراف حتى احتاج للاستخدام بديوان الأوقاف بمرتب قليل دون الكفاف، وعاش في ضيق ومضض بعد ما تعوده من السعة والرفاهية، وأخذ يتقرب للخديو بنظم التواريخ في كل عيد واحتفال وحل وترحال وينشرها في صحف الأخبار رجاء أن تبلغه فيأخذ بيده فلم يستفد شيئاً وراح تغزّ له في الريح، وكان قصر شعره في أواخر عمره على هذه التواريخ فنظم منها الغث والسمين. وكنا إذا قرب عيد أو سفر أو قدوم للخديو لا ننتفع به لاشتغاله بالنظم والحساب وإعمال الروية فيصير هذا ديدنه في غدوه ورواحه وقيامه وقعوده حتى يمن الله عليه بشيء يرتضيه

وترك له والده غير الضيعة داراً بسوق الزلط بيعت أيضاً، وترك خزانة كتب كبيرة قل أن تضارعها خزانة في نفائس الكتب ونوادر الأسفار، وهي التي أفنى عمره وماله في جمعها، وأتعب نفسه في تصحيحها وضبطها، وصبغ الورق وصقله لنسخ ما كان يستنسخه منها، فوق ما كان يتكلفه من السعي في البحث عنها في الخزائن المهجورة وعند الورّاقين، واتخذ له في داره مصنعاً للتجليد، واستخدم عدة نساخ أجرى عليهم المرتبات فاختصوا بالنسخ له لا يشتغلون لسواه، وكان هو وعبد الحميد بك نافع من أدباء القرن الثالث عشر يتباريان في ذلك ويتسابقان. أخبرني المترجم عن والده أنه بلغه أن تاجراً من الورّاقين قدم من سفر بكتب أوصاه عبد الحميد بك نافع بجلبها له وبينها ديوان البحتري وكان اذ ذاك لم يطبع بل لا يعرف في مصر إلا باسمه، فأسرع إليه وبذل له مالاً فوق قيمة الديوان على أن يعيره له يوماً وليلة فقط يطالع فيه، فرضى وأعاره إياه، فلما أتى به لداره أعطاه لمجلده ففك له تجليده وأحضر في الحال عدة نساخ فرقه عليهم كراريس فنسخوه وقابلوه، ولم يمض اليوم والليلة إلا وقد ردت النسخة الأصلية لصاحبها مجلدة كما كانت، ثم قابله بعد ذلك عبد الحميد بك وأخذ يفاخره بوجود الديوان عنده واختصاصه به، فقال له خفّض عليك يا أخي هذا شيء أكلنا عليه وشربنا حتى مججناه، ثم أخرج له نسخة الديوان من الخزانة. وبلغه مرة وهو يسمر مع بعض أصحابه أن بعضهم رأى عند فلان الوراق رسالة من الرسائل، وكان هو يتطلبها من زمن وينشدها فلا يجدها، فلم يسعه إلا أن قام في الحال وأخذ يسأل عن دار الوراق من هنا وهناك حتى اهتدى إليها بعد ما مضى هزيع من الليل، فأيقظه من نومه وساومه في الرسالة بقيمة فوق قيمتها ولم يمهله للصباح بل أنزله من الدار وذهب معه إلى حانوته ففتحه ليلاً وأخرجها له ولم يهدأ له بال حتى باتت الرسالة عنده. فلما مات عرّض المترجم كتبه للبيع فبيعت وتفرقت واقتنى نفائسها ونواردها الكونت لندبرج قنصل السويد بمصر، وكان من مستعربي الأفرنج المولعين بجمع الكتب العربية، وأدركت أنا أوارخها فاقتنت منها بضعة عشر كتاباً، منها ما هو بخط عبد الغني بك نفسه، وبحواشيها آثار التصحيح واختلاف النسخ التي كان يقابلها بها

وكان أول التقائي بالمترجم في دار أبن أختي محمود توفيق بك، وهي إذ ذاك مجمع الأدباء ومحط رجال الفضلاء، فلما رأيته استغربت شكله واستملحت محاضرته، ثم رأيته يناقش الأدباء ويطارحهم الشعر، فدنوت منه وكنت صغيراً في أول الطلب، وقد تعذر علي فهم باب أفعل التفضيل، وأجهدت نفسي في درسين متوالين على تفهمه، فلم يفتح علي بشيء فيه، فسألته عنه فأوضحه لي بعبارة سهلت علي فهمه، فكان بعد ذلك كثيراً ما يقول لي ممازحاً: إذا ذكرت شيوخك فاذكرني معهم ولا تنسني. ثم تأهل ببنت حنفي بك، وكان لأسرتها نوع اتصال بنا، فاتصلت المودة بيني وبينه بهذا السبب، وازدادت ملازمته لي لما سكن بجوارنا، فكان يزورني عصر كل يوم ويبقى حتى نسمر معاً ثم ينصرف، فتارة كنا نحي الليالي بمسامرات أدبية ومذاكرات علمية، أو بمطالعة بعض الكتب، وتارة بمقابلة ما كنت أستنسخه وتصحيحه، وكان لا يمل من المقابلة مهما يطل الوقت فيها، ويقول هذا شيء دربني عليه والدي وعودني إياه من الصغر. وأشار عليّ مرة أستاذنا العلامة محمد محمود الشنقيطي أن أطالع أمالي أبى عليّ القاليّ مطالعة إمعان وتدبر، ولم تكن طبعت بعد، فاستنسخت منها كراريس عكفت على مطالعتها، وأخبرت المترجم أنني سأحتجب عن الناس بضعة أيام حتى أستوفي ما يهذه الكراريس، فغاب عني ثلاثة أيام ثم حضر ومعه زجل، ينحي فيه على الأستاذ وعلى أبي على القالى اللذين تسببا في انقطاعي عن الإخوان ويذكر فيه بعض من كان يجتمع بنا

وقد أطلعته على رسالة عندي جمعها الشيخ احمد الفحماوي صاحب الخط الحسن، المشهور بكتابة لزوم ما يلزم للمعري وسماها (بنات أفكار وعرائس أبكار في ألقاب أهل العصر) ذكر بها كنى وألقاباً وضعها لفضلاء أواخر القرن الثالث عشر عبد الحميد بك نافع، وإبراهيم افندي طاهر الشاعر الرقيق المشهور على سبيل المزاح والدعابة، فقلبا كل واحد بلقب شاعر متقدم، أو رجل مشهور يوافق اسمه هيئة الملقب به، أو شيئاً يغلب على أخلاقه وأحواله، كتلقيبهما مصطفى أفندي المنعوت بكامل بالعكوَّك، لأنه كان قصيراً جداً معوَّج القدمين، وتلقيهما الشيخ محمد الرافعي الكبير شيخ رواق الشاميين بالأزهر وأحد كبار علمائه بملاّ مسكين، لأنه كان نحيفاً وبقوامه بعض احديداب يرى كأنه تواضع وانكسار، وتلقيبهما عبد الغني بك أبا المترجم بالأخطل، لأنه كان ضخم الجسم كبير الهامة. فلما اطلع المترجم عليها جن بها جنوناً وشرع في وضع رسالة تماثلها في فضلاء عصره، وسألني مشاركته فيها كما فعل ذانك الأديبان فامتنعت خشية اللوم، فانفرد هو بتأليفها وأتى فيها بغرائب ذهب أغلبها عن الذهن لطول العهد، فمن ذلك تلقيبه للعالم الفاضل على رفاعة باشا أبن رفاعة بك المشهور، بابن المقفع لنحافته ودخول شدقيه، وتلقيبه للعالم الفاضل يحي أفندي الأفغاني، بالقدوري لغرابة شكله وقصر ساقيه تشبهاً له بالقدر من الفخار، والقدوري اسم عالم من الحنفية مشهور. وكان الشيخ محمد الحفني المهدي أبن أخي مفتي مصر الشيخ العباسي المهدي ولعاً بذم الناس منقباً عن معايبهم، لهجاً بها في المجالس، لم يسلم منه أحد حتى عمه، واشتهر بذلك حتى أبغضه عارفوه وتحاموا عن الاجتماع به، فلقبه بابن هِرمهْ، وهي كلمة سب عند العامة، فقلت له هذا لا يستقيم لك لأن ابن هرمة الشاعر بفتح أوله فتأنف وقال لا أجد له لقباً ينطبق عليه غير هذا فدعني من شنقيطيتك. ثم لما فرغ منها سألته عما لقب به نفسه، ففكر وقال أحسن لقب ينزل علىَّ ابن قتيبة، ثم تركه وتلقب بالمقوقس. وضاعت هذه الرسالة فيما ضاع من أوراقه وأشعاره، ويغلب على الظن أنه مزقها لأنه وقع له بسببها نفور بينه وبين بعض من لقبهم، فانه لما لقب صاحبنا وصاحبه الشيخ احمد مفتاح لسلامة طويته، بالأبله البغدادي، غضب منه وكاد يتفاقم الشر بينهم، وغضب منه صاحب آخر كان قصيراً ممتلئاً يتدحدح في مشيته كما يتدحدح البط لأنه لقبه بابن بطوطة، فأخفى الرسالة لهذا السبب وطوى ذكرها.

وكان رحمه الله في الزجل، متقناً لصياغة الأدوار التي يتغنى بها، وأكثر ما كان متداولاً منها بين المغنين في عصره كان من نظمه، وأما شعره فالإجادة فيه قليلة إلا ما ضمنه النكت والتنديرات العامية، فمن أحسن ما وقفت عليه منه قوله من مرثية في صاحبه علي رفاعة باشا

جزعت وللحرّ أن يجزعا ... وودَّعت صبري إذ ودَّعا

وجادت عيوني على بخلها ... وحُق لها اليوم أن تدمعا

وروَّع قلبي النوى بعد ما ... أمنت ومثلي كم رُوّعا

لحا الله يوماً أشاعوا به ... وقالوا أمير العلا شيعا

فما كان أصعب تأبينه ... وما كان أسوأه موقعا

وما كان حق البكاء ولكن ... فزعت ولا بدع أن أفزعا

تجرعت من هوله كل صاب ... وغيري من الناس كم جرعا

وما دار في خلدي أنني ... أرى البدر يرضى الثرى مضجعا

ولكن شأن الزمان عجيب ... فما كان أضيع عهداً رعى

يقول النعيّ عليّ قضى ... ولم يدر أن العلا قد نعى

نعى سيداً صيته طائر ... حوى الفضل في شخصه أجمعا

فدكت رواسي الدنى بعده ... وماد الزمان بما أودعا

وغابت شموس المعارف لما ... ذوى غصنه بعد ما أينعا

فقل للخطابة ذوبي أسى ... ولا تطلبي بعده مصقعاً

وقل للكتابة لا تحفلي ... بمن يتبّجح في المدعى

وقل للعلوم فقدت أميراً ... مضى تاركاً فضله مشرعاً

وقال مورّيا باسم الطبيب سعد بك سامح:

يا سعد مالك معرضاً ... عنيّ وقلبي فيك طامحْ

إني أتيتك قائلاً ... أنا تائب يا سعد سامح

وقال مورّيا باسم محمد ثابت: ان كنت في ريب بصدق محبتي ... وسمعت عني ما تقوَّل شامت

فاعلم فديتك دائماً إني على ... عهد المحّبة يا محمد ثابتُ

ولما مرضت شقيقتي السيدة عائشة التيمورية وأحست بدنو الأجل نظمت في مرضها أبياتاً لتكتب على قبرها وتركت مصراع التاريخ لمن ينظمه بعدها وهي:

قد كنت عائشة فنوديت ارجعي ... للقبر مأوى كل حيّ فان

فأتيت صفر الكف عن مرضاته ... ومقرة بالعجز والعصيان

جرّدت من ثوب الهدى لكنّ لي ... تاجاً من الإسلام والإيمان

ونزلته مستشفعاً بمحمد ... وتوّسلي عفواً من الرحمن

أصبحت ممن زار لحديَ راجياً ... خير الدعا وتلاوة القرآن

لكم البقا إخوان ديني أرّخوا

فنظم المترجم التاريخ بقوله: (قبر لعائشة سما بجنان)

302 811 101 106

1320

وله غير ذلك مما ذهب عن الذهن الآن، ولكثرة ممارسته للتواريخ الشعرية كان يأتي فيها أحياناً بغرائب في ابراز المقصود بدون حشو كقوله في تاريخ ولادة ولده عبد الغني: (عبد الغني ابن أكمل).

وكانت وفاته فجأة قبل ظهر يوم الثلاثاء 22 ذي القعدة سنة 1321 ودفن بمقابر باب النصر رحمه الله تعالى.