مجلة الرسالة/العدد 555/جولة في الفردوس
مجلة الرسالة/العدد 555/جولة في الفردوس
مع الشاعر ميخائيل نعيمة
للأستاذ رديني خشبة
(إلى روح أبي العلاء، بمناسبة أسبوعه في لبنان الصديقة)
استطاع شاعر لبنان المبدع ميخائيل نعيمة أن ينقلنا معه على أجنحته الأثيرية إلى جنته الوارفة الظلال، التي غرسها خياله الواسع الشاسع العلوي العجيب.
صحبناه فيها ساعة، بل ساعات، في مجموعته الشعرية الرقيقة (همس الجفون) التي جمعت طائفة من أشعاره الباهرة الممتعة من نظمه بين سنتي 1917 و 1930، بعضها بالعربية وبعضها بالإنجليزية، مترجماً إلى العربية بالشعر المنثور، فما راعنا إلا أن نرى شبحين، أو طيفين يلازماننا في رحلتنا إلى هذه الجنة العجيبة غدواً ورواحا. . . أحدهما عن يميننا، وكان عابساً متجهماً، منقبض القلب. . . كاسف البال، منطوياً على نفسه، غائر العينين مظلمهما. . . وقد وقف عند الباب فلم يدخل معنا. . . ولم ندعه نحن للدخول، لأننا لم نكن قد دعوناه لاصطحابنا في هذه الرحلة البعيدة المدى، بل لم نلق بالنا إلى عروجه معنا. أما ثانيهما فكان يدلف عن شمالنا، وكان هاشاً باشاً، ضحوكا طروباً. . . تشيع في أعطافه نشوة تشبه الخمار، فهو يتثنى ويتمطى. . . ونحن ننظر إليه، ولا نستطيع أن نفهم عنه هذا التخلج ولا ذاك الاضطراب. . . فلما انفتح باب الجنة كان أسبقنا إليها دخولا، واعرفنا بها مسالك ودروباً. ثم ابتعد عنا وغاب بين الأشجار عن أنظارنا، وسمعني شاعر لبنان أردد من شعره، وقد سمعت نغما ينبعث من أقدام ذاك الطيف:
من ذلك، بين الأشجار ... يمشي كخيال من نار
هو يضرب عوداً والأشجا ... ر تئن لشكوى الأوتار
الزهر يُنكّس تيجانه ... والحور يُلَمْلِم أغصانه
والريح تمر على أوتار ... العود فتخنق ألحانه!
فتبسم وقال: هذا النيسابوري عمر الخيام. فقلت: ليته رأى شيئاً كهذا في حياته، إذن لكان آمن وكفى نفسه شر هذا الشك الذي باعد بينه وبين هذا الفردوس! إني لأسمعه الآن وه ينشد:
عدم آخر الوجود، فصاحي ... هاتِ راحاً أغدو بها غير صاح
وأدرها ريحانة الأرواح
لست شيئاً بعد الممات فهبني ... لست شيئاً قُبيله، واصطحبني
نقتل الوقت لذةً وانشراحا ... وثمولاً ونشوةً وانطرابا
فأرثى له، لأنه نفى أن يكون شيئاً بعد الموت، وهاهو ذا يسعى بروحه بين أيديكم يا معشر الشعراء إلى حيث تذهبون من هذه الجنات التي تغرسونها اليوم. . . له الله!. . أين ولي؟. . . فقال صاحبي اللبناني: لقد ذهب يلتمس ريحانة الأرواح في ظل تلك الكرمة النائية، فهلم نذهب إليه، فقلت: عجبا لك يا صاحبي! ألا تزال مشوقاً إليه مشغوفاً به، وأنت من أنت في هذه الجنة الفيحاء؟ أليس بحسبك ما ترسمت خطاه، حين قلت في همس جفونك، من أوراق الخريف:
عودي إلى حضن الثرى ... وجددي العهود
وانسي جمالاً قد ذوى ... ما كان لن يعود
كم أزهرت سوسانةُ ... وكم ذَوَتْ ورود
فلا تخافي ما جرى ... ولا تلومي القدرا
فمن أضاع جوهراً ... يلقاه في اللحودْ
عودي إلى حضن الثرى!
وأردت أن أردد من أشعاره ما ردد فيها من معاني النيسابوري عمر الخيام، لولا أن تجهم قليلاً، وقال مقاطعاً لكنك تبدل بعض الكلمات في شعري ولا ترويه كما نظمته. . فاعتذرت إليه بأني إنما أروى الذي علق بالذاكرة، وقد لا تؤتمر الذاكرة في غالب أمرها
ثم انطلقنا إلى حيث جلس الخيام في ظل كرمة، وقد وقف أمامه مخلوق عجيب يحاسبه ويشتط عليه في الحساب. . . فلما سألت صاحبي اللبناني عن هذا المخلوق الأديب المتمكن، ذكر لي أنه زهير بن نمير، شيطان ابن شهيد، الذي ألهمه رسالته (الزوابع والتوابع). فقلت له: وما زهير بن نمير في هذه الجنة، وهو شيطان!؟ فتبسم صاحبي ثم قال: لعله ما أوى إلى هذه الجنة إلا ليحاسبني أنا، لا ليحاسب الخيام. . . فامض بنا، وليكفني الله شره! فقلت له: وماذا أخشى منه؟ إن لأراك تفرق أشد الفرق! فقال: أخشى منه تحذلقه وتشبثه السخيف بالعربية الصحيحة الفصحى؟ فقلت: أتعد التشبث بصحة اللغة وفصاحتها سخفاً؟! والله لنشر كنه في هذا الأمر إذن! يا زهير. . . يا زهير. . . يا زهير بن نمير. . . ولم أزل أهتف به حتى شغلته عن الخيام ويمم نحونا. ولم يحيي ولم يبني، بل عبس عبوسة مظلمة قاتمة ثم قال: ويحك أيها اللبناني! أتدع أستاذك وابن جلدتك وفخر بلادك. . . درة المعرة أبا العلاء العظيم، بباب هذه الجنة، فلا تدعوه ولا تكلمه، وتترك تلميذه هذا الخراساني، ينفتل إليها ويعيث فيها، ويبحث أول ما يبحث عن أم عنب فينبطح في ظلها؟ من علمكم غرس الفراديس والتقلب في أفياء الجنان غير أي العلاء؟ وأنت مع ذاك تقول لصاحبك إنك تخشاني وتفرق من محاسبتي لتشبثي الذي تنعته بالسخف، بالعربية الصحيحة الفصحى؟ ولكن، لا والله. . . فلن يكون قاضيك إلا ذاك الذي تركته عند باب جنتك دون أن تدعوه إليها. . . فعد أدراجك إليه ثم كفر له عن ذنبك، ويشرفني أن أكون في إثرك مشاركاً في الدعوة عسى أن يغفر لك الشيخ!
ورأيت جبين صاحبي يقطب تقطيباً شديداً؛ وما كاد يخطو خطوة إلى وراء حتى انطوت أرض الفردوس تحت قدميه، وتحت قدمي، فكنا عند الباب من قدمنا، وإذا سيدنا أبو العلاء ينظر إلينا بكلتا عينيه الغائرتين، وقد رد إليهما الله القدير نورهما ثم يبتسم. . . وكنت أسبق إليه من صاحبي بالتحية التي حيانا بأحسن منها. وإذا كان أمر زهير بن نمير عجيباً، حين عرف ما تحدث به صاحبي ولم يكن معنا ولا قريباً منا. . . فقد كان أمر أبي العلاء العظيم أعجب. . . لقد هون على الشاعر اللبناني المبدع ما قال زهير، وما عنف عليه به، ثم أخذ يعاتبه هذا العتب الظريف اللطيف الحلو، دون أن يدخل الجنة:
ماذا يا حفيد الأحفاد، وسليل العرب النجب الأمجاد! فيم ضربك في بيداء الشك وأنت أكبر آية على الحق الذي تبكى من أجله دون أن تهتدي إليه؟ لماذا تعيش كما عشت من قبلك موزعاً بين الفلسفات والوساوس، مقسماً بين الظلام والنور، قلقاً بين الرجاء واليأس، مضطرباً بين الضلال والإيمان؟ لشد ما رثيت لك حينما انتهى إليَّ قولك:
فإذا ما راح فكري عبثاً ... في صحاري الشك يستجلي البقاء
مر منهوكاً بقلبي فجثا ... تائباً يمتص من قلبي الرجاء وإذا ما أملي يوماً مشى ... تائهاً في مهمه العيش السحيق
عاد لما كاد يقضى عطشا ... يحتسي الإيمان من قلبي الرقيق
وإذا الإيمان ولي والرجا أضحي ضرير ... فلينم قلبي إلى أن يُنفخ البوق الأخير!
لقد قلت عني مرة: (وهذا الرجل عينه، من بعد ألف سنة مرت على انعتاقه من حياته المرة، يفتح لي، وللكثير سواي باب منزلة على مصراعيه قائلاً: (تفضلوا وادخلوا) وهذا هو الذي يؤلمني ويقض مضجعي في ظلمات قبري يا صديقي العزيز. . . فلشد ما يضاعف آلامي أن أكون سبباً في هذه البلبلة التي تملأ خيالك وتجعله شروداً هائماً، كما تملأ خيال غيرك من الشعراء الذين تأثروا بي ومشوا على دربي وانتهجوا نهجي. لقد كنت أفكر بآلامي، وكانت الظلمات التي تملأ عيني تتدجى في فؤادي. وكانت زيارتي للاذقية، ولبثي بديرها، فتنة لي وعاصفة في إيماني. . . ولكن ما بالكم أنتم يا شعراء القرن العشرين، ومفكري عصور النور والمدنية، الضاربين بين العالمين القديم والجديد. . . ما بالكم تنظرون إلى الدنيا بأعيننا، وتفكرون فيها بأداة تفكيرنا؟ لقد تكشفت لكم عن مئات من الأسرار التي كنا نجهلها، ونقف منها موقف الحدس، بل موقف التخمين والترجيم. . . فلماذا لا تؤمنون؟ لماذا لا تملأونها نوراً على نور وبهجة على بهجة؟ ثم ما هذا الذي أسمعك تتغنى به:
كحل اللهم عيني ... بشعاع من ضياك كي تراك
في جميع الخلق، في دود القبور ... في نسور الجو، في موج البحار
في صهاريج البراري، في الزهور ... في الكلا، في التبر، في رمل القفار
في قروح البرحي، في وجه السليم ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ما هذا الكلام يا أخي. . . ما دود القبور، وما هذا الدود الكثير الذي تملأ به أشعارك، وما صهاريج البراري، وما قروح البرحي؟ أهذا من جملة ما علمتك يا ميخائيل؟ هل فتحت لك بابي لتملأ أشعارك بدود القبور وصهاريج البراري وثروح البرحى! أعوذ بالله يا صاحبي. . . أعوذ بالله!
وهل هذه هي بدائع خلق الله التي تراه في مفاتنها؟ ثم ما هذا التفريط في سلامة العربية يا حفيد الرب الأمجاد؟. . . وكيف تكسو عرائس أشعارك هذه المزق وتلك الأسمال؟ أنظر إليهن كنف يمشين في استحياء مما أضفيت عليهن. . .
وهنا هز زهير بن نمير أعطافه تيهاً وعجباً، ثم دس في الحديث أنفه وقال: حاسبه يا فخر العرب، وذخيرة اللغة والأدب، على هذه الهنات: يشمخ أنفه وردانا الخزى والعار والرعد يدوي ونجع القتيل ولا يكف الضرب والأحلام والشك والآلام والأيام أطلوا وكل هذا في ربع الديوان الأول، بدل يشمخ بأنفه، وأردانا، ويدوي بالتشديد، ونجيع، ولا يكف عن، وأطلت. فقال أبو العلاء صه يا نمير صه. . . إن من المصريين من يعيبون على الناقد ما يأخذ على الشاعر أو الأديب ما يقع فيه من اللحن، كأن اللغة صارت من الهوان بحيث لا يقام لها وزن. . . على أنني أجلك يا ميخائيل عن مراتب اللحانين بقدر إجلالي لك عن التردي في مهاوي الشك. ورجائي ألا تضيق بي، وأستودعك الله وأدعو لك. والسلام عليك ورحمة الله. عشت للعرب وأغنية الأدب
ولا أدري والله كيف عدنا إلى هذه الأرض، ولا كيف وقع لي هذا الحديث. والذي أذكره أن زهير بن نمير أراد أن يخوض في حديث صاحبه فصرفه أبو العلاء، ولعل لذلك عودة
دريني خشبة