مجلة الرسالة/العدد 560/أبو العلاء المعري
مجلة الرسالة/العدد 560/أبو العلاء المعري
بمناسبة عيده الألفي
في اليوم السابع والعشرين من شهر ربيع الأول عام 363، والشمس في الغروب، والقمر في المحاق، والمعرّة في همود الكلال، والطبيعة في فتور الكرى، ولد الطفل النبيل الضئيل أحمد أبو العلاء!
كان في ظلام الرحم، وولد في ظلام العشية، ثم عاش في ظلام البصر، وانتهى إلى ظلام القبر! ومن هذا الظلام المتصل نسج القدر حياة أبي العلاء وأنشأ عواطفه، وسود فلسفته، وأبهم عقيدته، وأوحش نفسه!
ومن هذا الظلام أيضاً تفجر النور كله على قلبه وعقله، فكان آية من آيات ربه الكبرى في ذكاء الفهم ولطافة الحس وقوة الحفظ ودقة التخيل. وهو القائل:
سواد العين زار سواد قلبي ... ليتفقا على فهم الأمور
وإذا كان لكل عاهة من عاهات الحس تعويض من قوى الروح، فإن لها كذلك أثراً شديداً في حياة المعُوهِ، ترسم له الطريق وتعين له الغاية. فعاهة أبي العلاء فرضت عليه أن يجعل العلم شغل حياته؛ واختارت له من العلم أنواعه النقلية والنظرية مما تغنى فيه الحافظة وتعين عليه المخيلة، كاللغة والدين والشعر، ووسائلها من الرواية والنحو والصرف والعروض؛ فقضى عمره الأول بين أيدي الشيوخ في الشام وبغداد، أو على مقاعد المكتبات في المساجد والأديرة، يسمع ويعي، ويجمع ويستوعب، حتى لم يدع كلمة في معاجم اللغة وكلام العرب إلا علقها، ولا مسألة من مسائل العلوم الأدبية إلا حذقها. ثم قضى عمره الثاني معتكفاً في داره، يُعسِّل الشهد تعسيل النحل امتلأت بطونها برحيق الزهر المختلف، ويقطر الزلال تقطير المرشح الضخم أفعم جوفه بماء السيل المشوب. ولغلبة الأدب على حافظته لم ينضح فؤاده إلا به؛ وكتبه التي أملاها وهي تربى على المائتين لم تخرج عن فنون الأدب المختلفة. أما علمه بالفلسفة وسائر العلوم فقد كان علم الأديب، يأخذ منها ولا يعطيها، ويشارك فيها ولا يختص بها. وأروع مظاهر النبوغ في ثقافته الأدبية إحاطته باللغة إحاطة المستوعب، حتى كانوا إذا عدوا من رزقوا السعادة في شئ لم يؤته الله غيرهم، عدوا أبا العلاء ممن تفرد بالاطلاع الواسع على لسان العرب. ومن هنا طغى الغريب على نظمه ونثره؛ إذ كان همه مصروفاً إلى تقييد الأوابد اللغوية مما جمع عليه وعاء قلبه. وما كان في نية أبي العلاء أن يكتب لدهماء الناس، إنما كان يكتب لنفسه ولتلاميذه. فهو ينظم ليرتاض، ويؤلف ليسجل، ويملي ليعلم. ومن قوله في مقدمة سقط الزند: (لم أطرق مسامع الرؤساء بالنشيد، ولا مدحت طلباً للثواب، وإنما كان ذلك على معنى الرياضة وامتحان السوس) فإذا كتب للعامة أشرق لفظه وسهل أسلوبه، كما صنع في كتابه (سيف الخطيب)، وهو مجموعة من الخطب المنبرية ألفها على حروف من حروف المعجم، ثم قال: (وتركت الجيم والخاء وما يجري مجراهما، لأن الكلام المقول في الجماعات ينبغي أن يكون سجسجاً سهلاً)
وعاهة أبي العلاء هي التي جذبت إليه العيون وشغلت به الألسن؛ لأن الضرير الذي يجيد النرد والشطرنج، ويدخل في كل باب من أبواب الجد والهزل، ويحفظ من مرة واحدة ما يرد على سمعه مما يفهم وما لا يفهم، عجيبة من العجائب التي يجب أن ترى، وتستحق أن تروى. واكتظاظ مجلسه بالناس سبيل إلى الفضول والتزيد منهم، وإلى مقابلة الحال بالحال وموازنة الحظ بالحظ منه. وأبو العلاء الذي خلق بحكم منبته الكريم عزيز النفس رفيع الهوى ظاهر المزية، كان يستشعر العجز والنقص بما يعلم من انطفاء بصره ودمامة وجهه وضآلة بدنه وقصر قامته، فكان لذلك شديد التيقظ لحركات الجالس وكلمات المتكلم. وربما أساء الظن ببرئ، وتوهم الإساءة من محسن. وهو في طعامه وهندامه وسلامه وقيامه عرضة للخطأ ومظنة للمؤاخذة؛ فكان لا ينفك متزايلاً ضجراً يديم الحذر ويؤثر العزلة
صاحب أبو العلاء الزمان ولا بس الناس وراود السعادة حتى استحار شبابه، فلم تزده الأيام إلا يقيناً بعجزه الطبيعي عن مجاراة الأنداد في سباق الحياة، وعن مرضاة النفس بلذات العيش، وعن منازلة الخصوم بسلاح الإفك، فانقلب إلى داره ناقضاً كفيه من دهر لا رجيَّة له فيه، وعالم لا صديق له به، ونعيم لا نصيب له منه. وساعد على إمضائه نية الاعتزال فجيعته في أمه وهي الظل الذي يأوي إليه، والسبب الذي يتعلق به؛ فزهد في الدنيا وصدف عن الناس، وأخذ نفسه بالخشونة والحرمان خمساً وأربعين سنة لا يلبس غير القطن، ولا يفترش غير اللبد، ولا يأكل غير العدس، ولا يتفكه إلا بالتين. وهو في أثناء ذلك الدهر الطويل منطو على نفسه، متحامل على ذهنه، يحوك القوافي ويصوغ الأسجاع في التسبيح لله، والتزهيد في العيش، والترغيب عن الزواج، والزراية على أم دفر، والتنديد بأبي البشر، والتشنيع على رياء أهل الدين وجور أصحاب الحكم، والتشكيك في صلاح الأنظمة والشرائع.
كان أبو العلاء في شبيبته نسيم رحمة، ثم صار في كهولته عاصفة دمار! ولعله لو كان بصيراً متفائلاً كالجاحظ، أو ضريراً شهوان كبشار، لتبدل حكمه على الدنيا، وتغير رأيه في الناس!
أحمد حسن الزيات