مجلة الرسالة/العدد 560/على هامش العيد الألفي

مجلة الرسالة/العدد 560/على هامش العيد الألفي

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 03 - 1944



لأبي العلاء

بقلم صديقه الأستاذ كامل كيلاني

(وهي صفحة من مقدمته التحليلية لرسالة الهناء، إحدى رسائل

المعري المخطوطة. وستظهر للناس مشروحة مضبوطة بقلم

الأستاذ عما قليل)

القدرة الإلهية

يرى أستاذنا الجليل (أبو العلاء) - فيما يراه - أن قدرة الله، سبحانه، لا يعجزها شئ؛ فاليبيسُ مستعيدٌ - بمشيئته - بعد اصفراره، شبابه وخضرته، مسترد - بعد مواته - حياته ونضرته

والنيران الملتهبة متفجر لهيبها - بأمره - مياهاً سائلة، والطبيعة الإنسانية متحولة - بإذنه - من الغدر إلى الوفاء. والأغنام متغيرة طبائعها - بحكمه - مستبدلة بضعفها قوة، وباستخذائها إقداماً وعزيمة، متخيرة من عرين السباع سكناً تأوي إليه وتقر فيه

وهكذا يسترسل أبو العلاء في خياله البارع، وأسلوبه الساخر الفياض بالدعابة القاسية والتهكم اللاذع، والسخط المرير، فيثبت لنا بما ألفناه من طرائق إثباته المبدعة أن الطبيعة الإنسانية لا سبيل إلى استقامتها واستوائها، إلا إذا تغيرت طبائع الأشياء كلها، وانقلبت حقائق الكون الثابتة، فدبت الحياة في الهشيم، وتحولت النار ماء، والأغنام المستضعفة سباعاً ضارية

وإلى القارئ النص العلائي الذي فصلناه:

(إذا أذن ربنا أخضر الدرين (اليبيس)

وتبجست - بالماء الإرين (النيران)

ووفي لقرينه، القرين، وراحت الساجسية (وهي ضرب من الغنم) ومأواها العرين. . .

وذلك - من القدرة - ليس ببديع!) وفي رسالة الهناء هذه التي نجلوها لرواد الأدب العلائي في عيده الألفي يقرر لنا شيخ المعرة كيف يتحول الطبع الإنساني من الكذب إلى الصدق، ويسلك في تقريره مثل ذلك النسق الفريد المبتدع الذي سلكه في فصوله وغاياته، فيتمثل صاحبه وقد انشقت له لجج البحار بإذن الله، كما انشقت من قبل لموسى الكليم، ثم يتمثل دهشة الأسماك - حينئذ - مما حدث، ويتخيل حيتان البحر وهي تتحدث متعجبة متطلعة إلى تعرف اسم ذلك الشيخ العظيم الذي تمت على يديه المعجزة، مضاعفة لصاحبه الثناء، داعية له بطول البقاء، وموصول السعادة والهناء، مبتهلة إلى الله أن يجزل له في عطائه ومكافأته، في دنياه وآخرته، جزاء ما أسلف للناس من مكرمات، وأسدى إليهم من حسنات

فإذا انتهى شيخ المعرة من هذا التمهيد، راح يصف في براعته النادرة، وألمعيته الساخرة، كيف تأذن القدرة الإلهية أن تخمد نيران الكذب، ومتى تريح العالم من لهيبه المستعر، الذي لا يبقى ولا يذر

ولكنه يبنى آماله البعيدة على مقدمات تسبقها، وهي في قدرة الله هينة، وإن كانت في طاقة البشر مستحيلة التحقيق

فهو إذا شاء - سبحانه - أمر اللجج الملاح، فأصبحت عسلاً سائغاً حلو المذاق، وانقلبت ملوحتها المفرطة في المرارة شهداً مفرطاً في اللذاذة والحلاوة

وهو إذا شاء - سبحانه - جعل السفينة تمشي على اليابسة، وتصبح قبساً متوهجاً من السّنا والنور، كأنما قبس لتوه من شعلة من النار ملتهبة. وليس هذا بالمطلب البعيد المنال، متى أذن من أبدع الأكوان على غير مثال

وهو إذا شاء - سبحانه - أمر الريح أن تحمل السفينة وأن تطير بها في أجواز الفضاء، كما حلت عرش (بلقيس) في غابر الزمان، فإن القياس يجوِّز وقوعه ويرضاه، والقدر تقر حدوثه ولا تأباه

ولو شاء - سبحانه - لجعل أسماك البحر وحيتانه آمنات ممنعات، في رغد من العيش هانئات، يتهادين في ذرا الجبال الشامخات، ويمرحن في أرجائها الفسيحة منطلقات، ويجرين في جنباتها مسرعات، كما تجري أسراب النعام في واسع الفلوات، زرافات وجماعات.

وهنا يتمثل (أبو العلاء) صاحبه - وقد تم له المراد، وبلغ من غايته ما أراد - ويتمثل القدرة الإلهية التي لا يعجزها شئ ممتنع في العقول، وقد أذنت لمياه البحر أن تعود إليه، وأعلنت كلمتها بأن ينصلح ما فسد من الزمان، ويستقيم ما اعوج من طبع الإنسان، وتنطفئ نيران الإفك والبهتان

ومتى تحققت هذه الخوارق والمعجزات، انتصر الصدق على الأكاذيب والترهات. فلنرتقب مع شيخنا المعري هذه النتائج الباهرات، فلسنا يائسين من الفوز والظفر، والعاقبة لمن تأنى وصبر

لعل الكثيرين من قراء (ابن الرومي) يذكرون - بهذه المناسبة - أسلوبه البارع في سخريته من الوزير (أبي الصقر) حين ولى الديوان، وعجب خصومه من تلك الطفرة، وكيف تظاهر (ابن الرومي) باستنكار ما تخيله من دهشتهم فقرر لهم معابثاً ساخطاً أن ظفره بذلك المنصب ليس أعجب من ظفره بالانتساب إلى أسرة (شيبان) العربية الكريمة مع أنه من الأعجام، ولكن الحظ السعيد يصنع الأعاجيب، والقدرة الإلهية تفعل ما تشاء من الغرائب، ثم ختم دعابته القاسية بقوله:

إن للحظ كيمياء، إذا ما ... مس كلباً أحاله إنسانا

يفعل الله ما يشاء، كما ش ... ء، متى شاء كائناً ما كانا

وللمعري في هذه الرسالة مثل ما له في غيرها من منثوره ومنظومه: فنون معجبة في وصف ما تبدعه القدرة من تصوير الأماني والأحلام، وبعث الهواجس والأوهام، شخوصاً بادية للعيان، مائلة في الخلد والجنان

وهو لا يفتأ يتمثل جميع الكائنات، من جماد وحيوان ونبات، وكواكب وسيارات، وحروف هجائية وكلمات، وقواف وحركات، وأصفار وأعداد وأرقام مضروبات ومقسومات، كأنما هي أناسي مثلنا، موفورة الإحساس بالحياة، تألم مثل ما نألم، وتتناجى كما نتناجى، ويعرض لها كما تعرض لنا - ألوان من الأماني والرغبات، وتستحر بينها ضروب الفتن والعدوات وتعلن في منطق - هو على خفائه عنا - بليغ فصيح، رائع التقديس والتسبيح، تبتهل بصادق الدعوات، في الغدوات والآصال والروحات، لخالق الأرضين ومبدع السموات فلا غرو إذا رأيناه يتمثل - في هذه الرسالة - طريقاً ضيقاً يبتهل إلى خالقه أن يجزي صاحب (المعري) أحسن الجزاء مكافأة له على ما بذل من صالح المسعى، ويتجه الدرب إلى الله أن يبدل من شعابه الضيقة، مسالك وطرقاً فسيحة الرحاب. تغدو - لفرط سعتها - كأنها الصحاري والسباسب، لا تضيق بالعدد الأوفر من الجيوش الحاشدة والمواكب. وأن تتبدل أحجار الأكمة الخشنة، فتصبح بعد خشونتها ناعمة، كأنها لملاستها رق نعام

ثم يتمادى في خياله فيتمثل القدرة الإلهية قد بدلت لصاحبه أحجار التلال موائد حافلة بلذائذ الأطعمة والأشربة، يصيب منها الجائع ويرتوي الظمآن كما شاء، لا يتكبد في ذلك مشقة ولا عناء

وللمعري - في غير هذه الرسالة أيضاً - من روائع الصور الفنية التي يتمثل فيها من عجائب القدرة الإلهية، ما لا تتسع له هذه الإلمامة الموجزة، فلنجتزيء من ذلك بوجازة خاطفة، تاركين التفصيل لفرصة أخرى، فهو يقول في فصولة:

(يقدر الله على المستحيلات: رد الفائت، وجمع الجسمين في مكان، وما لا تحتمله الألباب، إذ كان لا ينسب إلى عجز أو انتقاص. فإذا مررت بعود بال، فاعلم أن الله يستطيع أن يكسوه أخضر كخضرة الحسام، حتى يورق ورقاً، كعدد الرمال، ويقف على كل ورقة ورقاء (حمامة) تعبده بألحان معبديات (منسوبة إلى (معبد) المغنى المعروف) أو يقول:

وفي قدرة الخالق أن يجعل الراحة (بطن اليد) ذات ذوائب، والهامة (الرأس) كفاثور اللجين (خوان الفضة) وأن يجري الفضة من الفجاج) أو يقول: (والله - بقدرته - يطير ذوات الأخفاف)

ثم يسبح الخيال بأبي العلاء. فيستبق الأجيال، حتى ليتمثل عصرنا الحاضر: عصر السرعة الخاطفة وما يتلوه من عصور، متنبئاً بما كشفه العلم وما لم يزح الستر عنه إلى اليوم، فيقول:

(إن شاء المليك قرب النازح وطواه، حتى يطوف الرجل - في الليلة الدانية بياض الشفق من حمرة الفجر طوفه بالكعبة حول (قاف) (وهو - فيما تقول الأساطير جبل محيط بالأرض)، ثم يؤوب إلى فراشه والليلة ما همت بالأسحار)

وثمة يطفر به خياله الوثاب، فيتمثل في عالم الأماني والأحلام ما بلغه العلم بعد عصره بألف عام، فيتخيل الإذاعة اللاسلكية التي أصبحت الآن حقيقة راهنة بعد أن كانت وهماً من الأوهام فيقول: (ويسلم بمكة، فيسمعه أخوه بالشام)

ثم يتمادى في خياله فيتمثل الإنسان وقد استطاع أن ينقل النار في لحظات من مكان قصي إلى آخر، أو يتخيله يغص باللقمة وهو في (خراسان) فيسرع إلى ماء (زمزم) ليستقي منه ويزيل غصته به. أو بغيره من المياه البعيدة النائية، فيقول: (ويأخذ النار من نهامة، فيوقد بها النار في يبرين وقاصية الرمال. ويجأز بأكيلته (بغص بلقمته) في قصور فرغان (في خراسان) فيعتصر بماء المضنونة (زمزم) أو جراب (موضع بعيد، فيه ماء)

كامل كيلاني