مجلة الرسالة/العدد 564/البريد الأدبي

مجلة الرسالة/العدد 564/البريد الأدبي

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 04 - 1944


6 - الشعر الجديد

قد يكون مما يدخل في أحاديثنا هذه ويتعلق بأطرافها، أن أعرض لبعض ما يدور من آراء حول (الشعر الجديد). فالناس لا بد متحدثون فيما تطالعهم به الصحف، ولا سيما حديث الشعر والشعراء، والكتابة والكتاب، فهذا ميدان يجول فيه كل جائل، ويصول كل صائل.

ولقد سمعت كثيراً في موضوع هذا الشعر، وقرأت كثيراً. ولكن الكثرة الغالبة ممن قرأت لهم، أو سمعت منهم، يرمون الكلام على عواهنه، غير داعمين قولاً، أو قاطعين بحجة؛ وإنما هي أحكام تسرد سرداً وتلقى جزافاً. وكثيراً ما تكون غير مستندة مطلقاً إلى قراءة، أو راجعة إلى دراسة. . . وما أكثر الثناء والإطراء بيننا! وما أعظم ما يتحكم الهوى، ويستبد الغرض! وتقارض المديح داء عياء في بيئتنا الأدبية؛ فاضمحل النقد وصوح، بعد أن كان يوماً مزدهراً مونعا. وخلا الجو للبغاث فاستنسر، وللباطل فران على الحق؛ فإن رأيت نقداً فقوامه همز ولمز، وتعريض وتجريح

وإني نكتف هنا برأيين اثنين علقا بذاكرتي لغرابتهما، ولكثرة ما يتداولهما ناس من الناس

فقد قالوا إن هؤلاء المجددين - سواء أكانوا شعراء أم كتابا - إنما ينهجون مناهج الإفرنج في أخيلتهم وتصوراتهم، ويحتذون فنهم، ويستعيرون منهم، ويحاكونهم في تشبيههم ومجازهم؛ فقد طال عهدنا بالقديم، ونالتا منه السأم. . . وما ضر لو أرسلنا في شعرنا من شعرهم دما جديداً، وبعثنا في نثرنا من نثرهم حياة جديدة، فنجاري الزمن في حركته، ونساير العصر في تطوره؟

هكذا قالوا

وإن تعجب فعجب أن يصدر مثل هذا الكلام عمن يعقلون؛ فهم بلا شك مقلدون، يرددون ما لا يفهمون. أيجرؤ ملم بلغة أجنبية راقية أن يلغو هذا اللغو؟ أمامنا الأدب الرفيع من أدب الغرب، وهذا شعرهم وهذا نثرهم، فليقرءوا وليحكموا

فهل مما يعقل أن يكون ثمة صلة أو شبه صلة بين لغط هؤلاء المتشاعرين وأشباه الكتاب، وذلك الأدب الغض، والبيان الرائع، والقول المبين؟ إنهم لأعجز من أن يردوا هذا المورد، أو ينهلوا من ذلك المنهل، وإنهم لأقصر باعاً من أن ينالوا ذاك المن ولا عليكم - إذا أعوزتكم لغة الإفرنج - أن ترجعوا إلى ما ترجمه أعلام أدبائنا عنهم. فهذا حافظ في (بؤسائه)، ومطران في شكسبيرياته، والزيات في (آلام فرتر)، والمنفلوطي في رواياته، وغير هؤلاء ممن نقلوا فأجادوا النقل وفهموا فأحسنوا الفهم

فارجعوا إلى هذه التآليف البارعة، تروا كيف يفكر الإفرنج، وكيف يتخيلون ويتصورون، وكيف ينقشون ويصورون؛ وتروا أيضاً نصاعة العربية في أقلام هؤلاء الأفذاذ وصفاءها ونقاءها؛ وتميزوا الفائقة من العجز الفاضح، والديباجة المشرقة من العي الواضح

والرأي الثاني أصوره في حوار وجيز في مجلس من أصحابنا، وقد تذاكرنا (الشعر الجديد) فقد اندفع من بيننا رجل فقال: إن ما ترونه يا قوم في بعض هذا الشعر من التعمية والخفاء إنما هو قصد إلى الرمز والإشارة. ألا ترون إلى بعض المتصوفة كيف يعمى في شعره، أو يغنى في حديثه، وهو يشير من طرف خفي إلى ما لا يتبين من ظاهر ألفاظه؟ فهكذا الحال هنا. فقلت له: وإلام يرمز شعراؤنا هؤلاء يا سيدي؟ فقال: إنهم يختلفون في نزعاتهم وأغراضهم، فيتغايرون - تبعاً لذلك - في مراميهم البعيدة. فقلت: أمؤمن أنت بما تقول؟ وهل اكتنهت شيئاً من هذه الرموز؟ هات - رحمك الله - فأطرفنا بعضها، وفك لنا مستغلقه

فسلك يده في جيبه فأخرج دفتراً، فتلا منه أبياتاً لأحدهم ثم أخرى لغيره، ثم مقطوعة لثالث، ثم كر راجعاً، وطفق يشرح. فلا وربك ما وهي مما قال شيئاً وما وعينا، وما فقه وما فقهنا!

فقمت عن المجلس وأنا أقول في نفسي: لقد خبنا بالأمس في حل طلاسم (الكاتب المجهول) فإذا نحن في حل هذه الطلاسم أخيب!

(للحديث بقية)

(ا. ع)

خصومة لا عداوة للنقاد والشعراء

صديقي صاحب (الرسالة)

مهدت السبيل لصديقنا ناقد الرسالة أن يصول في موضوع (الميل إلى الهدم وصراع الديكة بين الأدباء والفنانين) ومنحت نفسك سلطة الدفاع المستتر عن ناقد الرسالة بحذفك شطراً من كلمتي التي وجهتها إلى صديقي ناقد (الرسالة) فعلت ذلك، يا صديقي، إرضاء لطبيعتك الهادئة، ونحيزتك التي تأبى الخصومة، لا اندفاعاً مع غرض أنزهك عنه. وكم أتمنى أن يحزبك الغرض النبيل فتسمع قراء الرسالة غضبه كتلك التي أطلقتك على سجيتك يوم كتبت (فلاحون وأمراء)، فعرفوا فيك منها، كيف يكون الكفاح الحق عن الحرية، وكيف تكون تنقية الطبقات وتمييز البر منها من الزوان، وكيف تكون صولات النقد في حلبة الخصومة، ولا فرق عندي بين النقد الاجتماعي والنقد الأدبي إلا في الصيغة

إذن لا محيد لنا يا صديقي في كل بناء للحياة، من خصومة هادئة كانت أم صاخبة، لا تبلغ في حال من الأحوال حدود العداوة. أقول لا محيص لنا من خصومة تكون الرسالة منبرها العام، وتكون أهدافها كتابها ومن يتصل بهم وبها من العاملين في حلبة الحياة

يريدنا صديقنا ناقد الرسالة، تمشياً مع خطة الرسالة المستمدة من طبيعة صاحبها أن يتخذ من اللين أداة يستحث بها الشعراء على شحذ قرائحهم، وجلاء بصائرهم، وصقل شعورهم وأحاسيسهم ليرسموا بأقلامهم صوراً واضحة الخطوط والمعالم لطبيعة ما يصورون ويرسمون. فإذا ما أنف أستاذ كبير كالأستاذ (ا. ع) وتأفف من سماع أصوات هؤلاء الشعراء قيل له إنك تجرد عليهم (حملة تأديبية) وإذا ما قلت لصديقي ناقد الرسالة، إننا في حاجة إلى القذف بطائفة من شعراء الشباب إلى النار، نار النقد تنقيهم وتطهرهم، وإلى (تجريدة) تأديبية نشنها على النقاد، وقفت أنت يا صاحب الرسالة تصد عنهم الهجمات شفقة بهم ورثاء لحالهم بسلاح قاطع من اللطف والذوق والروح الإنساني النبيل

وبعد هذا، أزعم أن الفرق بيني وبين ناقد الرسالة، وبيني وبينك يا صاحب الرسالة يتلخص في أن القسوة في النقد - في اعتقادي - أجدى وأنفع للشاعر الناشئ وللشاعر الذي أدركته الكهولة ولم ينضج بعد، لأن الصراحة في النقد - في اعتقادي أيضاً - هي الحد الفاصل بين الإقدام على الحياة بروح المتوثب المتحدي، وبين الإحجام عنها. أما أنت يا صديقي وناقد الرسالة أيضاً تريان عكس رأيي في القسوة في النقد وصراحته، وبذلك يتوهم المهازيل من شعراء الشباب أنهم عباقرة سبقوا جيلهم، وأن الواحد منهم هو إله الشعر وحده وسواه العدم وهذه هي الطامة الكبرى.

حبيب الزحلاوي لقد ظلموا شعراء الشباب!

أكاد ألمح في أكثر ما قرأت غمطاً لحق شعرائنا الشبان، وتثبيطاً لعزائمهم؛ فأكثر ما أقرأ يدور حول الزراية بأسلوبهم، والغض من أخيلتهم، ورمى كثير منهم بالغموض تارة، وبالمروق من مألوف العرب تارة أخرى؛ وما انصرف كاتب منصف لبيان فضل أولئك الشباب في شق طريقهم إلى المجد بين مختلف العثرات، ومسايرتهم النهضة الحديثة في طرائق التفكير، وتساميهم بأساليبهم بين أمواج الدخيل وعواصف العجمة وظلمات العامية المطبقة التي تأخذ على الغربي سبيله في المسارح والمجالس وكثير من المجلات المغرمة بإرضاء العامة؛ وأستاذنا الكبير (ا. ع) قادر بما له من واسع الثقافة، وطويل الخبرة، وأسلوب الحليم على أن يجعل من بحثه الرائق معهد نقد (بمعناه الأعم) يصف الداء، ويتبعه الدواء، والأستاذ دريني خشبة في استطاعته وهو المواكب لنهضة الشباب أن يجلو محاسن شعرهم، ويبرز للقراء لمعات العبقرية في أشعارهم، ومواطن الرجاء عند أكثرهم؛ إذا يجد القارئ قضية الشباب مبسوطة جلية ويستمع لأنصارهم كما يستمع للزارين عليهم. أما أن نبسط في أمر هؤلاء الشباب صحيفة السيئات ونطوي ما عداها وهم خلفاؤنا - رضينا أو سخطنا - على تراث الأدب فإن ذلك ليس في شرعة الإنصاف، وقد يكون له عواقب بعيدة المدى في تثبيط العزائم

إذا كان في أسلوبهم ضعف فأين مواطنه؟ وكيف يستطيع بعضهم أن يرضى قراء البحتري والمتنبي وأبي فراس وابن هانئ وأمثالهم؟ كيف يستطيع بعضهم - ممن لم تيسر لهم دراسة أدبية خالصة - أن يظفروا بإعجاب أولئك السادة وما وجدوا أمام أعينهم في أكثر مراحل التعليم إلا مختارات ضئيلة وتراجم قليلة تعني بفلسفة البحث أكثر من عنايتها بطرائف الأدب؟ عدلوا أساليب الدراسة الأدبية، ويسروا على شبابنا سبل الوصول إلى كنوزها، وزودوهم بمراجع الشعر مجلوة مسفرة، ثم وجهوا درس الأدب إلى تذوق الجمال الفني قبل غيره من بحوث فلسفية قليلة الجدوى؛ وإذاً لا يكون للشعراء الناشئين إلا أن يجودوا أو يتعرضوا للنقد اللاذع الصريح

وإن كان في أخيلة بعضهم شيء من الغموض وجنوح إلى التهاويل فهل خلا شعر هؤلاء من نفحات الشاعرية، وومضات العبقرية؟ وهل خلا شعر أبي تمام والمتنبي والمعري وابن هانئ وشوقي والزهاوي من عقد في الخيال، ودقة في التصور حيرت الباحثين أزماناً؟ أليس الزمن وحده والنقد الرفيق الموجه أجدى على شعر الشباب من هذه القسوة التي لا يبررها نبل أصحابها وشرف مقاصدهم؟

(الإسكندرية)

م. ع البشبيشي

حول شعراء الشباب

أخونا الأستاذ (دريني خشبة) رجل طيب ما في ذلك شك. وآية ذلك أن يفهم أنه يمنح أحداً من الناس شيئاً، أو يسلب أحداً من الناس شيئاً، بشيء يكتبه على تسق ما يكتب في هذه الأيام. وسبحان من أودع في كل قلب ما أشغله!

وآية ذلك كذلك، أن يشفق على الشبان من الأستاذ الجليل (ا. ع) هذا الإشفاق، وأن يأرق منه هذا الأرق. وأن يفهم (أنه رجل يستطيع أن يقضي على الجهود التي بذلتموها يا معشر الشعراء الشباب في سبيل تجديد الشعر العربي). . .

وإنه ليعز على أن يساور الأستاذ (دريني) كل هذا القلق على (شبانه!) الذين يشملهم برعايته، ويجد من بعضهم - المتواضع - البر والشكران، ومن بعضهم - المتكبر - العقوق والكفران. فأحب أن أرد إلى قلبه الطمأنينة، وإلى عينه الكرى. فلا - وحق طيبته علينا - فما الأستاذ الجليل (ا. ع) بصانع شيئاً في شعراء الشباب، يمثل هذا الكلام (العايم) الذي قصاراه أن يندب شعراء الجيل الماضي، أن يزري بشعراء هذا الزمان. وما الأستاذ الجليل أيضاً (دريني خشبة) بصانع شيئاً لشعراء الشباب بمثل هذا الذي يكتبه

ونحن - مع كل هذا - أميل إلى (مفهوم) رأي الأستاذ الجليل (ا. ع) في معظم ذلك البهرج الزائف الذي يفتن به الكثيرون من الشبان. وإذا احتجنا يوماً إلى توسيع آفاق الشعر عن مدى ما يستطيع أن يفهمه الأستاذ الجليل منه، فإننا سنكون أحوج إلى إنقاذ الشعر من مثل هذا البهرج

وإني لأرجو في النهاية ألا أكون قد أزعجت طيبة مولانا الأستاذ (دريني) وإنني لصادق حين أقسم له أن لا شيء أعز عليَّ من طمأنينة هذه الطيبة المبروكة.

سيد قطب

الصداقة والأدب والنقد

قرأت في إحدى المجلات ما كتبه الدكتور زكي مبارك عن تأثره البالغ مما كتبه أحد الأدباء عن كتابه (النثر الفني) في مجلة (الرسالة)، وكنت أظن الدكتور المبارك أكثر احتمالاً لهجمات النقد أكثر مما رأيت اليوم، لأن الاحتمال والمرابطة من شأن من يصاولون وينازلون، وما أكثر ما صاول ونازل الدكتور لمناسبة ولغير مناسبة! أما مأخذه على صاحب (الرسالة) من العقوق للأصدقاء، فهو حجة على الدكتور لا له، لأن من يخدم الأدب الرفيع يجب أن يكون على هذه الرفعة من الأخلاق العالية لا يحابي صديقاً، ولا يناصر فريقاً، إنما العيب كل العيب أن ينشر الناشر نقد الدكتور (مبارك) وهو أمشاج وأخلاط من الإغلاظ والإفحاش. ومثل الرجل (الزيات) كمثل ذلك الأبي العربي الذي يقول: (إن قوله الحق لم تدع لي صديقا)

أكتب هذا بمناسبة طلب إحدى المكتبات إلى أن تنفرد بنشر كتاب لي في النقد الذي يعمل برسالته الزيات جاهداً، فعندما مثل الكتاب بين يدي مدبرها قال: ألا تظن أن نشر هذا الكتاب يغضب كثيراً من كبار الكتاب؟ قلت: وما يهمك من غضب الناس ما دمت تريد خدمة الأدب بنشر كتاب للنقد؟! قال يحرمون نشر كتبهم علينا! قلت: إن الأدب لا يخدمه (التجار) وإنما يخدمه أبناؤه الأبرار، واعتزمت طبع كتابي ثم بدأت

هذه يا دكتور قصة (كتاب وتاجر). فهل كنت تأمل أن تخلق من الزيات تاجراً يعق الأدب ولا يعقك، أو تمنع عنه كتبك؟! هذا ما أرجو أن تتدبره ويتدبره الكتاب والقراء جمعياً، فليست العبرة في أن يفقد الإنسان أصدقاءه في سبيل رسالة الحق، وإنما العبرة في أن يصبح الأديب بعد حياة حافلة أداة للإرضاء والإبقاء على الأصدقاء

(ع. س)