مجلة الرسالة/العدد 564/الفن والإصلاح

مجلة الرسالة/العدد 564/الفن والإصلاح

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 04 - 1944


للأستاذ توفيق الحكيم

لم يزل موضوع الأدب العربي ومستقبله في حاجة إلى كلام، على الرغم من الأدلة القوية التي ساقها أخي أحمد أمين بك في رده على كلمتي السابقة. وأخشى أن يتبادر إلى الذهن أننا نتجادل في قضية لنا فيها مصلحة. فالواقع المعروف أن أكثر مؤلفات أحمد أمين مثل (فجر الإسلام) و (ضحى الإسلام) و (قصة الفلسفة) الخ. بعيدة في الاتجاه القومي أو الاجتماعي الذي يرجوه لأدبنا العربي؛ كما أن بعض كتبي مثل (عودة الروح) و (يوميات نائب في الأرياف) قد رمت بالفعل إلى هذا الهدف منذ زمن. فالقصة الأولى (عندما نشرت بالفرنسية في باريس عام 1937) كتب عنها ناقد يقول: (لو كان بريس حياً واطلع عليها لنعتها بقصة النشاط القومي). كما أن الكتاب الآخر يرمي كما هو معلوم إلى نقد المجتمع الريفي بحكامه ومحكوميه؛ فأنا إذن أقرب إلى تلك الدعوة ولي في نجاحها مصلحة أكثر مما لصديقي أحمد أمين. ولكن العقيدة الأدبية والإيمان الفني أقوى فيما يبدو عند كل منا وأرفع من المصالح الخاصة والغايات الشخصية. فمنا قشتنا اليوم تقوم في جوهرها إذن على الرغبة المجردة في الوصول إلى غرض واحد: هو كيف نبلغ بأدبنا العربي الكمال؟ الغاية واحدة ولا ريب ولكن السبل مختلفة؛ فأحمد أمين يرى أن أدبنا لن يصل إلى مرتبة الآداب الأوربية إلا إذا خاض مثلها في طريق الحياة العامة، فنقد الفاسد من أوضاع المجتمع، وقوم المعوج واقترح وسائل الإصلاح، ونادى بالنافع من العلاج، والمستحدث من النظم. وكان له من أعلامه قادة للرأي العام يبصرونه بمواقع خطاه في طريق التقدم الاجتماعي. واتخذ من أناتولل فرانس وبرنارد شو وتولستوي مثلاً يحتذي

وهنا يجدر بنا أن نسأل: هل من الحق أن الأدب الأوربي بلغ مبلغه هذا بفضل نزوله معترك الحركات الإصلاحية، أو بفضل قيمته الفنية ومزاياه الأدبية؟ وهل نزعات الإصلاح الاجتماعي هي اللون الغالب في الآثار الأوربية، أو إنها لون ليس بالغالب حتى في آثار المؤلف الواحد؟

الذي أعلمه هو أن أناتول فرانس أديب، وأن برنارد شو مؤلف مسرحي، وأن تولستوي قصصي. وتلك هي صفاتهم التي تؤخذ على سبيل الجد. أما ميول فرانس وشو الاشتراكية ونزعات تولستوي الإصلاحية، فهي نواحي ينظر إليها تارة بغير احتفال، وتارة أخرى على أنها توابع أو ظواهر ودلائل قد تفسر على ضوئها بعض أعمالهم الأدبية وآثارهم الفنية

إن الآداب الأوربية لم تحترم يوماً فناً أو أدبياً لأنه مصلح؛ ولكنها قد تحترم المصلح إذا كان أدبياً أو فناناً. ولعل أبرز مثل لذلك هو (إبسن)؛ فقد هزته أحداث بلاده السياسية والاجتماعية فكتب تمثيليات مفعمة بروح الإصلاح مثل (براند) و (عدو الشعب) و (بيت العروس) الخ. ومات إبسن وتغير مجتمعه ونظر الناس في أعماله. . . وكاد يهزأ النقد به وبآرائه في السياسة والمجتمع، لولا فنه. وهكذا مات المصلح في إبسن وبقى الفنان

نحن الشرقيين تبهر عيوننا دائماً كلمة (مصلح) بقدر ما نستهين بكلمة (فنان). وإني لا أنسى دهشي يوم قرأت في مجلة (ماريان) الباريسية نقداً للطبعة الفرنسية من (يوميات نائب في الأرياف) للناقد المعروف (رامون فرنانديز) يقول فيه: (إن القارئ لهذا الكتاب ينسى في أغلب الأحيان المقاصد الإصلاحية التي حركت المؤلف لوضع كتابه، بل إن القارئ يتمنى ألا يتغير شيء في عالم هذه المخلوقات الإنسانية) صدمني هذا القول لأني كنت أعتقد أن مقاصد الإصلاح لها الاعتبار الأول في مثل هذا النوع من الكتب، وأن صفة المصلح هي التي يجب أن توضع موضع التقدير

لقد تحدث الأستاذ أحمد أمين في أكثر من موضع عن الروايات الغرامية وعرامة الحب بما ينم عن الازدراء. . . فذكرني ذلك من فوري برواية شكسبير (روميو وجولييت)؛ وقلت في نفسي: هاهي ذي قصة ليس فيها إصلاح لمجتمع ولا نهوض بشعب، وكل ما فيها عرامة الحب. ومع ذلك فقد خلدتها الإنسانية حيث طرحت ومزقت كثيراً من صفحات المصلحين وكتابات الهادين والمرشدين. إن الإنسانية لأدرى بما يسرها وأعلم بما يسعدها مني أنا ومن أخي أحمد أمين. كم من المؤلفات المملوءة بالإرشاد والإصلاح قد نشرت وظهرت ولم تحتفظ بها ذاكرة الزمان. . . ولكنها احتفظت بقصة غرام وقصيدة غزل ورواية حب عارم. . . وإذا كان حقاً أن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض، فماذا نقول في بقاء (روميو وجولييت) وفناء الكثير من القصص الإنكليزي الذي قصد به إصلاح المجتمع؟ بل ماذا نقول في خلود قصة (غادة الكامليا) لدوماس الصغير وموت أكثر رواياته الأخرى التي عالج فيها موضوعات اجتماعية كلها جد وحسن قصد. . .

كلا. . . لا ينبغي أن نملي على الفن اتجاهاً بعينه. ولا يجوز لنا أن نوصيه بارتداء لباس الحكمة الرزينة أو رداء الإصلاح الوقور. . . إلا أن يشاء هو ويرضى. . . لأننا إذا أرغمناه سخر منا وجعل من أردية رزانتنا ووقارنا أثواب مساخر، وقلب بسحره أثواب الهزل خلوداً تنحني أمامه الجباه على الرغم منا. لقد أصاب (أندريه جيد) إذ قال إن الفن لا ينبغي له أن يثبت شيئاً ولا أن ينفى شيئاً. إن الفن العالي ليس أداة للجدل. إنما هو شيء كالسحر ينفذ إلى النفوس فيحدث فيها أشياء. إن الفنان ليس مصلحاً ولكنه هو صانع المصلح. كل أولئك المصلحين من ملوك وزعماء وساسة ما كونهم وهيأهم لرسالات الإصلاح غير أدب الأدباء وشعر الشعراء وفن الفنانين. إن الفنان هو مصلح المصلح ولا شيء غير ذلك. أما أن ينزل الفنان بفنه إلى الميدان يناقش ويدافع ويهاجم وينافح. . . فهذا ما لم نره حتى الآن في فن استحق البقاء في أي أمة من الأمم أو حضارة من الحضارات. من الحق أن بعض أهل الفكر والفن قادوا الرأي العام في بلادهم وبلاد العالم، ولكنهم كانوا في الواقع يفعلون ذلك باعتبارهم شخصيات عظيمة مفكرة من واجبها أن تبدى آراءها في المسائل الكبرى. لا باعتبارهم فنانين يقحمون فنهم في ميادين الشئون اليومية. لطالما تحدث الشاعر (فاليري) عن المشكلات الإنسانية التي تمس المجتمع العالمي الحاضر، ولكن هل رأيناه وضع ذلك في قصيدة واحدة من قصائد؟ إن قيادة الرأي العام واجبة على الأديب. ولا ينسى أحمد أمين ندائي إلى الأدباء أن يتسلموا القيادة الروحية والفكرية في أول هذه الحرب وما لم قام حول هذا النداء من جدل؛ ولكن الذي أراه خطراً على الأدب هو قهر الأديب على أن يتجه اتجاهاً بعينه في صميم فنه. وحسبنا أن نتأمل حال الأدب في البلاد الدكتاتورية التي كبلت وحي الأدباء بالقيود فلم تخرج من قلوبهم إلا كتابات مفتعلة تفوح برائحة واحدة كأنها خارجة من مطبخ واحد. إن الفن هو الحرية. حرية الفكر والشعور. ولا منبع له إلا فكر الفنان وقلبه. هما وحدهما الهاديان له. إن الوعي الفردي هو روح الفن. فإذا أردنا إبادة الفن واستئصاله من الأرض فلنقتل فيه ذلك الوعي الفردي. ولقد أصاب صديق الطرفين الكاتب الكبير العقاد إذ قال في تعليقه على مناقشاتنا هذه: (إن اتجاه التاريخ الإنساني متقدم من الاجتماعية إلى الفردية). وهذا حق؛ إذ الفردية هي عنوان الكرامة الإنسانية. هي شعور الإنسان بقيمة فكره وإحساسه لا بفكر الجماعة وإحساسها. إن الحيوان لا يفكر بفكره ولا يحس بإحساسه. إنما هو يفكر ويحس بغريزة الجماعة كلها والنوع كله. ولن يرقي الحيوان إلى مرتبة الإنسان إلا إذا استقل في تفكيره وإحساسه. إن الوعي الاجتماعي في الحيوان هو الذي جعل الحيوان حيواناً، والفردية أي الحرية هي التي جعلت الإنسان إنساناً. على أنه لا ينبغي الخلط بين الفردية والأنانية. فإني حينما قلت إن (الفنان الذي لا يقول أنا ليس بفنان، كما أن العالم إذا قال أنا ليس بعالم). إنما قصدت إلى المعنى الفني لا المعنى الخلقي. قصدت أن الفنان هو الذي يقول (إن الطبيعة جميلة لأني أراها جميلة). أما العالم فلا ينبغي له أن يقول ذلك. ولكن عليه أن يقول: (الطبيعة جميلة أو قبيحة، ساكنة أو متحركة، لأن البحث والتحليل والبرهان والدليل تؤدى إلى هذه النتيجة). الفنان هو الذي يكشف عن الطبيعة من خلال نفسه. والعالم هو الذي يكشف عن الطبيعة من خلال المجهر. وكلاهما يكمل الآخر في بناء المعارف الإنسانية. ولا ينبغي لأحدهما أن يلجأ إلى وسائل الآخر في استجلاء الحقائق واستكناه الطبائع. إن الفن مصدره الشخص، والعلم مصدره الموضوع. الفن شخصي والعلم موضوعي. الفن يقول (أنا) أي (نفسي)؛ والعلم يقول (هو) أي (الشيء).

أما أن يخدم الفنان والعالم أمته وقومه فهذا واقع بالبداهة والضرورة، لأن آثار الفن والعلم لا تبقى ولا يمكن أن تبقى إلا إذا رأى الناس في بقائها منفعة. فلا ينبغي أن نقول للفنان والعالم: (اصنعا شيئاً نافعاً للناس) بل يجب أن نقول لهما فقط: (اصنعا فناً وعلماً).

وبعد فأراني قد أثقلت على القراءة وعلى أخي الجليل أحمد أمين بك، وإني لأشكره إذ أتاح لي هذه الثرثرة التي تريح النفس أحياناً، كما أحمد له ويحمد له القراء هذه الموضوعات التي يقع عليها بعين بصيرته النافذة ويعالجها بما عرف عنه من إشراق ذهني ينير للناس غوامض الأشياء. وله من أخيه المعجب بفكره وأدبه أخلص التحية.