مجلة الرسالة/العدد 564/شعر ناجي

مجلة الرسالة/العدد 564/شعر ناجي

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 04 - 1944



للأستاذ دريني خشبة

لا يلبث الإنسان حين يقرأ شعر ناجى أن يستمع إلى نبضات قلب كبير، ولا يلبث حين يفتح ديوانه أن يرى حوله جنات معروشات كلهن ألوان وكلهن صور وكلهن حياة، وفيهن جمال وفيهن حب دعة؛ وبين أولئك جميعاً قلب ناجي الفنان ينبض ويلون ويبتسم، وينبت في فردوسه الأعاجيب

وقلب ناجي هو باب شعره العذب، بل هو معينه الذي لا ينضب. . . وقليل من الشعراء من يودعون شعرهم قلوبهم، وقليل منهم من تحس أن لهم قلوباً تقول هذا الشعر المنمق الذي ينظمون أو تدين به. . . لأنهم ينظمون الشعر صنعة ولا يهزجون به طبيعة، والشعر إن لم يكن في الدم فلن يكون في الألسن إلا كما يكون الصفير في فم الببغاء

وقلب ناجي قلب وادع تبغ في الحب، وفاض بالرحمة، ومسه الألم، وانطبعت في صفحته الحياة بصورها المختلفة. فالحب والرحمة والألم تفيض صوراً حية في شعر ناجي، والعجيب أنه أكثر شعرائنا ترديداً لقلبه في شعره، حتى ليوشك أن يذكره في كل قصائده، ولعله لا يعلم ذلك، بل لعله لم يعرفه إلا الآن، لأنه لا يتعمد شيئاً في شعره، إذ كل هذا الشعر أو أكثره غناء ردده ذلك القلب، وهتف به ذاك اللسان، ودونه هذا القلم. وأعجب من ذلك كله أن الصداقة بين ناجي وبين قلبه قد أنتجت لنا تلك الصور الخالدة في وصف هذا القلب الوادع. فحب ناجي:

يشهد الليل عليه والنهارْ ... والشهيد المتواري في الضلوعْ

وناجي:

يشرب من روعة السماء ... شعراً ويسقى الفؤاد وحياً

ويقول مناجياً:

وحرقت قلبي من سنا ... ك على جمال يضطرمْ

كفراشة حامت علي ... ك وأي قلب لم يُحمْ!

ويذكر قلبه وهو يصف مغرب الشمس عند شاطئ البحر فيقول:

نقول: هل الشمس قد خضِّبته ... وخلت به دمها المهْرَق أم الغرب كالقلب، دامي الجراح ... له طلبة عز أن تُلحقا

لنا الله من صورة في الضمير ... يراها الفتى كلما أطرقا

يرى صورة الجرح طيّ الفؤا ... د مازال ملتهباً محرقاً!

ويخاطب حبيبه ساعة الغروب فيقول:

قد جعلت النسيم زاداً لروحي ... وشربت الظلال والأضواَء

مَرِّ بي عطرها فأسكر نفسي ... وسرى في جوانحي كيف شاَء

نشوة لم تطل، صحا القلب منها ... مثل ما كان أو أشد عناء!

ويناجي حبيبه الهاجر قائلاً:

أيُحرَم حتى وهم حبك من رمي ... بمهجته في ناره دون إحجامِ

وأنفق فيه قلبه وشبابه ... فلم يبق إلا الجرح والشفق الدامي

ومن عجب أحنو على السهم غائراً ... ويسألني قلبي: متى يرجع الرامي؟

وأسرى بوهمه ينشد الآمال فلم يصحب إلا قلبه، فهو يقول:

انفردنا، أنا والقلب عشيِّا ... ننسج الآمال والنجوى سويِّا

فركبنا الوهم، نبغي دارها ... وطوينا الدهر والعالم طيَّا

فبلغناها، وهلَّلنا لها ... ونزلنا الخلد فيناناً نَديِّا

ولقينا الحسن غضِّا والصبا ... وتملِّينا الجلال الأبديا

قال لي القلب: أحقاً ما بلغنا؟ ... كيف نام القدر الساهر عنا؟

أتراها خدعة حاقت بنا؟ ... أتراها ظنِّة مما ظننِّا؟

قلت لا تجزع فكم من منزل ... عَزَّ حتى صار فوق المتمني

أذن الله به بعد النوى ... فثوينا، واسترحنا، وأمنا!

وينتظر حبيبه مرة في ظلام وريح وبرد فيصف هذا ويشرك في الوصف قلبه قائلاً:

ولما لم تفز بلقاك عيني ... لمحتك آتياً بضمير قلبي

فأسمع وقع أقدام دوان ... وأنصت مصغياً لحفيف ثوب

وأخلق مثلما أهوى خيالاً ... وأستدني الأماني والحبيبا

وأبدع مثلما أهوى حديثاً ... لناء صار من قلبي قريبا أمد يديّ في لهف إليه ... أشاكيه بمحتبس الدموع

فيسبقني إلى لقياه قلبي ... وثوباً. . . ثم يبرد في ضلوعي. . .

ويزكيه حبه ويطهره، ويدنيه من منازل الملائكة:

سموت كأنما أمضي ... إلى رب يُناديني

فلا قلبي من الأرض ... ولا جسدي من الطين!

ويقول وقد نعم بلقاء:

نحن أرواح حيارى افترقت ... ثم عادت فتلاقت في شجاها

سوف ينسى القلب إلا ساعة ... من رضاً في وكرك الحاني قضاها

هتف القلب وقد حدثني ... أي ماض كشفت لي شفتاها

همست في خاطري فاستيقظت ... روحيَ الحيرى وأصغت لنداها

فأنا إن لم أكن توأمها ... فكأني كنت في الغيب أخاها

نحن أرواح حيارى ثملت ... وانتشت سكرى على لحن أساها

ويقول معاتباً على طول الهجر:

لقد أسرفت فيه وجُرْتِ حتى ... على الرمق الذي أبقيتِ فينا

كأن قلوبنا خلقت لأمرٍ ... فمذ أبصرن من نهوى نسينا

شُغلن عن الحياة ونمن عنها ... وبتن بمن نحب موكلينا (!)

فإن ملئت عروق من دماء ... فإنا قد ملأناها حنينا

وتؤلمه الوحدة فيقول:

تلفت القلب مطعوناً لوحدته ... وأين وحدته؟ باتت كما باتا

حتى إذا لم يجد ريّا ولا شبعا ... أفضى إلى الأمل المعطوب فاقتاتا

ومن شعره وهو يافع:

عجباً لقلب هيض منكَ جناحُه ... وجرى به نصل الندامة بذبح

ومضى الحِمام يدب فيه، فإن جرت ... ذكراك طار إليك وهو مجُنَّح

لهفي على الناقوس بين جوانحي ... وعلى بقية هيكل لا تصلح!

وهكذا نسرف هذا الإسراف في عرض تلك النماذج العالية من أشعار ناجي في القلب عامدين. . . لأننا مهما قصدنا في إطراء هذا القلب النابض الذي أبدع لنا ذلك الشعر دون أن نعرض تلك النماذج القليلة، فربما ظن ظان أننا نغلو فيما يذهب إليه من أحكام. . .

والعظيم في هذا الشعر أن أكثره مما سبق إليه ناجي وابتدعه ابتداعاً. . . فالشهيد المتواري في الضلوع، والقلب الذي يحرقه الشاعر من سنا حبيبه على جماله المضطرم، فهو كالفراشة تحو إلى هذا الحبيب؛ وهذه الشمس الغاربة في اليم بين السحب شبه الجرح في القلب الوامق؛ ثم هذا البيت الفريد:

ومن عجب أحنو على السّهم غائراً ... ويسألني قلبي متى يرجع الرامي!

هو ما يعدل ألف بيت من جيد الشعر عند من يقدرون الشعر؛ ثم هنا المحب الذي ينتظر حبيبه فيلمحه آتياً بضمير قلبه؛ ثم هذا الأحاديث التي يتحدثها القلب، ثم هذا القلب الذي يسبق صاحبه للقاء الحبيب:

أمد يديّ في لهف إليه ... أشاكيه بمحتبس الدموع

فيسبقني إلى لقياه قلبي ... وثوباً. . . ثم يبرد في ضلوعي!

ثم هذا القلب الذي يطهره الحب حتى لا يكون من هذه الأرض؛ وامتلاء العروق بالحنين بدل الدماء التي تتدفق من القلب؛ واقتيات القلب بالأمل المطعون وقد خاب رجاؤه. . . ثم هذا الفؤاد الذي هيض جناحه ومضى الحمام يدب فيه حتى إذا جرت ذكرى الحبيب طار إليه بجناحين قويين فتيين!

كل هذا وذاك من ثروة الشعر التي ينطوي عليها قلب ناجي والتي يجود بها سهلة هينة لينة في غير تكلف ولا تعقيد

وللدم من حب ناجي ومن خياله وشعره نصيب عظيم. ألم نقل إن الشعر إن لم يكن في دم الشاعر فلن يكون في لسانه إلا كما يكون الصفير في فم الببغاء؟

اسمع إليه يقول وقد صافح حبيباً:

أهاب بنا فلبِّينا ... مناد ضمِّ روحينا

كأنا إذ تصافحنا ... تعانقنا بكفيْنا

كأن الحب تيار ... سرى ما بين جسمينا

يؤجج في نواظرنا ... ويشعل في دماءينا! ويخاطب القمر فيقول:

قمر الأماني يا قمرْ ... إني بهمٍ مُسْقم

أنت الشفاء المدْخرْ ... فاسكب ضياءك في دمي!

ويخاطب الجمال الضنين:

كأنك النسَّم النشوان منطلقاً ... أظل كالنفس الحيران أتبعه

تعال وادْنُ بيوم لا نحس به ... أجسادنا، في صفاء لا نضيَعه

لكن أُحِسُّك تجرى في صميم دمي ... أنت الحياة، وأنت الكون أجمعه!

ويسائل حبيبه متى يلتقي؟

متى يرق الحظ يا قاسي؟ ... ويلتقي المنسيُّ والناسي؟

متى! وهل من حيلة في متى؟ ... وفي خيالات وأحداس

هدَّ قراري جريها في دمي ... وهمسها في كر أنفاسي!

وهكذا يتدفق شعر ناجي من قلبه في دمه، وهكذا تروي به روحه وحواسه، فيكون فيها حباً ورحمة وألماً، وسترى كيف ينطبع هذا الشعر الجميل الوادع في قلب ناجي صوراً تشمل الحياة كلها. . .

(يتبع)

دريني خشبة